22-مايو-2024
غرافيتي في غزة

غرافيتي في غزة

خلال لقاء تلفزيوني على قناة "BFM TV" الإخبارية الفرنسية المعروفة بتوجهاتها اليمينية، هاجم رئيس بلدية بيزييه، ومؤسس "صحافيون بلا حدود"، الذي تحول إلى أحد أقطاب اليمين المتطرف في فرنسا، روبير مينار، النائب عن حزب "فرنسا الأبية" إيمريك كارون، الذي طالب بأن يشارك الرياضيون الإسرائيليون في أولمبياد باريس 2024 بوضع "محايد" مثل الرياضيين الروس والبيلاروسيين، والذي طالب أيضًا اللجنة الأولمبية الدولية بمعاقبة إسرائيل، حيث يرتكب جيشها جرائم حرب خطيرة في غزة، كما تمت معاقبة روسيا.

ووصف مينار النائب كارون بأنه شخص "يحمل نيات سيئة بالمطلق". فما كان من كارون إلا أن رد عليه قائلًا: "عدد الأطفال الذين قتلوا في غزة خلال أربعة شهور هو أكبر من عدد الأطفال الذين قتلوا في أربعة سنوات في كل الحروب عبر العالم. هل تريدنا أن تعتبر كل جرائم الحرب هذه كأنها لم تحدث؟"، في هذه اللحظة تدخل الصحفي الذي كان يدير الحوار قائلًا: "بغض النظر عما يحدث في غزة لكن المقارنة بين نظام معتدٍّ كروسيا الذي يرسل جنوده لاحتلال بلد وينتهك سيادته لا يقارن مع ما تقوم به ديمقراطية كإسرائيل، على الرغم من كل الانتقادات التي توجه لها، هذه المساواة هي صادمة".

ما تفوه به صحفي "BFM TV"، يبدوا مثيرًا للاشمئزاز، لكن الأمر ليس استثناءً، فمنذ بداية الحرب على غزة درج الصحفيون المرتبطون بمنصات إعلامية قريبة من اليمين واليمين المتطرف ودوائر اللوبي الصهيوني بتبني سرديات تحاول أن تُخلي مسؤولية الجيش الإسرائيلي عن الإبادة الجماعية التي ترتكب في قطاع غزة.

تذكرنا التبريرات التي ساقها الصحفي الفرنسي مع اللقاء في حصة أخبار المساء على قناة "Cnews" الفرنسية اليمينية المتطرفة، إذ تُعلق إحدى الضيفات وتدعى سابين تسا، وهي فرنسية إسرائيلية، على ما يجري في غزة قائلةً بصريح العبارة: "سيكون يومًا رهيبًا إذا غادرنا غزة، لن تكون هناك إسرائيل.. علينا قصفهم، علينا توقيفهم، علينا محوهم"، ويشاطرها المذيع عباراتها بقوله نعم.

مع انطلاق العدوان الإسرائيلي على غزة، عاد طيف الملك ليوبولد الثاني ليحوم حول أزقة وحواري وشوارع مدن القطاع، ويؤكد حضوره، طالما هناك اعتقاد بفكرة التفوق عن الآخر

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل نشرت القناة على حسابها الرسمي على منصة "إكس" مقطعًا مصورًا من تصريح تسا، رغم تضمنه عبارات صريحة تدعو للإبادة الجماعية التي يعاقب عليها القانون الفرنسي بشدة.

هذان المشهدان يتقاطعان مع ما كشف عنه المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية، كريم خان، أمس الثلاثاء، بأنه تعرض لتهديدات، بعد طلبه من قضاة المحكمة إصدار أمر بإلقاء القبض على نتنياهو وغالانت. فقد تحدث معه ساسة كبار وكانوا صريحين جدًا حين أخبروه بأن: "هذه المحكمة بنيت من أجل إفريقيا ومن أجل السفاحين مثل بوتين".

قبل ذلك بوقت قصير، طالعتنا وسائل الإعلام بمقاطع مصورة لوزيرة الداخلية البريطانية المقالة، سويلا برافرمان، التي سارت مصحوبة بمراسل ميداني من قناة "جي بي إن" البريطانية، تجاه الطلبة المعتصمين في جامعة كامبريدج المتضامنين مع فلسطين والمنددين بمواصلة العدوان الإسرائيلي على غزة. ووجهت إليهم مجموعة من الأسئلة بشكل يشبه عمليات الاستنطاق التي يقوم بها رجال الأمن مع المشتبه بهم. ولم يكن غريبًا أن توجه السؤال السهل توقعه لمن يتابع وسائل الإعلام الغربية: "ما رأيكم فيما حصل يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر؟".

هذه الأمثلة في واقع الأمر تعبر عن مواقف شريحة واسعة لصناع القرار، وما يدور في فلكهم من سياسيين وصحفيين ومؤسسات إعلامية ورجال أعمال في العالم الغربي، حيث تُستخدم لغة مشوهة ترتكز على فكرة مرعبة، وهي فكرة التفوق التي تبيح لها الحق في إبادة بقية شعوب العالم، وكلما بلغت هذه المنظومة ذروتها كجهة لها نفوذ ومسيطرة على صناعة القرار العالمي، كلما بلغ خطاب الإبادة ذروته كذلك.  

كل التجارب المريرة السابقة في العراق وأفغانستان وفيتنام والمستعمرات في أفريقيا وغيرها.. تستحضر من جديد في غزة، لذا فإن الحديث عن تصفية إرث الاستعمار يبقى خطابًا رنانًا بعيدًا عن الواقع.

حين قررت بلدية أنتويرب البلجيكية إزالة تمثال للملك البلجيكي السابق ليوبولد الثاني من إحدى الساحات تحت ضغط الاحتجاجات المناهضة للعنصرية، كان هناك أمل لتصحيح مسار التاريخ وطي صفحة من حقبة كانت الإبادة هي رمزها.

لكن مع انطلاق العدوان الإسرائيلي على غزة، عاد طيف الملك ليوبولد الثاني ليحوم حول أزقة وحواري وشوارع مدن القطاع، ويؤكد حضوره، طالما هناك اعتقاد بفكرة التفوق عن الآخر.