25-ديسمبر-2019

من مشاهد الحرب الأهلية في لبنان (Alfred Yaghobzadeh - الترا صوت)

يدعونا الناقد الأمريكي الراحل هارود بلوم (1930-2019) إلى قراءة خالية ممّا أسماها "العقائد النظرية الأربعة"، وهي:

  1. عقيدة موت المؤلّف.
  2. عقيدة "الأنا" باعتبارها مُتخيّلًا.
  3. عقيدة اختزال الشخصيات إلى مجرّد حبر على ورق.
  4. عقيدة أنّ اللغة تفكّر بالنيابة عنّا.

قدّمت هدى بركات في "حجر الضحك" عملًا روائيًا قائمًا على رؤية نقدية تعاملت مع الحرب على أنّها نتاج ثقافة ذكورية

وهي عقائد تقع خلفها تمامًا الأدوار الإبداعية للقارئ. وبالتالي، لا بدّ من تجاوزها أوّلًا للوصول إلى الأدوار، والنفاذ إلى جوهر القراءة: "ما يُمكننا استعماله في إمعان النظر والتفكير"، يقول بلوم الذي يرى أنّنا نقرأ لأنّنا نحتاج أن يعرف بعضنا بعضًا بشكل أفضل، ولأنّنا نشعر بالحاجة كذلك إلى معرفة كيف نحن، وكيف هم الآخرون.

اقرأ/ي أيضًا: الحرب الأهلية اللبنانية في 5 روايات

قد ينطبق هذا على قراءة روايات الحرب الأهلية اللبنانية، وأي حرب أخرى، إذ يتوجّب عند قراءتها أدبيًا أن نتعامل مع شخصياتها ككائنات من لحم ودم، وأن نُعطيها الأولوية بدلًا من الحكاية العامّة.

في هذه المقالة، لا نسعى إلى تطبيق ذلك حرفيًا، ولكنّنا نُذكّر بهذه الشخصيات فقط، دون إغفال الحكاية العامّة.

الشخصية قبل الرواية في "حجر الضحك"

وضعت هدى بركات في روايتها الأولى "حجر الضحك"، الشخصية قبل الحكاية. بمعنى أدق لم تكن الحكاية قد نضجت بعد حينما كان بطلها يرافق الروائية اللبنانية في رحلات الهروب الطويلة من ملجأ إلى آخر، في مدينة مُشتعلة، هي بيروت في سنوات الحرب.

رواية حجر الضحك

هكذا، سوف تكتب بركات مُستعينةً به، وتُجرّب فيه ومعهُ بحثًا في البراءة المفقودة، إلى أن تنتهي من حبك حكاية تخصّهُ وحدهُ، وتضمن له أن يقدّم نفسه للآخرين عبرها.

تبني بركات "حجر الضحك" على تخوم التصنيفات الجنسية والجندرية وأزمات الهوية المعقّدة. وتكتب نصّها بلغةٍ تستدعي انطباعاتٍ شتى، الثابت فيها هو أنّ النهوض على مفردة واضحة وشرسة هي الحرب.

بالإضافة إلى حكاية تروي سيرة تحوّل هجين يأخذ بيد بطل الرواية من مكانه ليضعه في مكانٍ آخر، نازعًا عنه سلوكه الأوّل لصالح آخر يتماشى مع الحرب، التي تبدو في الرواية خالقًا شاذًّا يجد في "خليل" ما يحتاجه لاختبار قدراته.

ولأنّ ما يعنينا هنا هو خليل وصورته داخل الرواية، سندع الحكاية جانبًا ونتّجه نحو شخصية خليل المُفكَّكة والمُعاد تكوينها بناءً على عملية محو غيّرت أحواله واستبدلت طباعه التي كانت سويةً، بأخرى فجّة؛ أنهت براءته التي قابلناه عليها في بداية الرواية، ووضعت مكانها دنسًا غادرناه عليه. هكذا، تكون حكاية خليل هي سيرة تحوّلاته الجنسية، وانتقاله من هوية جنسية تقدّمه كمُخنّث، إلى أخرى نراه عبرها ذكرًا كاملًا.

يُحدِّد هذا التحوّل سلوك خليل وطباعه. فما كان قائمًا حينما كانت ساقيه "غير طويلتين بالقدر الكافي"، دلالةً على النقص المصحوب ببراءة، مصدرها عجزه في تحديد هويّته؛ يُهدم بعملية جراحية تُحوره رجلًا "عريض المنكبّين".

فالحرب التي تطرد فئة مُعيّنة من البشر لصالح فئة أخرى، أخذت على عاتقها تنفيذ مهمّة الطرد بالقتل والتهجير؛ فجّرت ذكورته ورسَخت في ذهنه فكرة أنّ القتل وظيفة ذكورية.

هكذا سنرى خليل يغتصب جارته، دلالةً على استيقاظ "رجولته"، واختبارًا لها، وإشارة إلى تفوّقه عليها أيضًا، ليكون الاغتصاب هو المسؤول عن تحديد علاقته مع المرأة. "غاب خليل. صار ذكرًا يضحك، وأنا بقيت امرأة تكتب"، تقول هدى بركات في وداع بطلها الذي جرّبت فيه ومعه بحثًا في البراءة المفقودة. 

الحرب ذكورية في "حكاية زهرة"

قدّمت هدى بركات إذًا في "حجر الضحك" عملًا روائيًا قائمًا على رؤية نقدية تعاملت مع الحرب على أنّها نتاج ثقافة ذكورية. وتأسيسًا على هذه الرؤية تقريبًا، بنت الروائية اللبنانية حنان الشيخ روايتها الثالثة "حكاية زهرة"، باختلافات بديهية لا بدّ منها لجهة المكان والزمان وطريقة تناول الحرب.

فإذا كانت الحرب في رواية بركات خالقًا شاذًّا، دلالةً على حجم نفوذها، فإنّها في رواية الشيخ تكتفي بكونها زمنًا قائمًا أخذ على عاتقه مهمّة رسم الجزء الأخير من حياة زهرة، بطلة الرواية، التي تروي سيرتها من خلال خوفها واضطّراباتها المزمنة.

الحرب في "حكاية زهرة" لا تملك المكانة التي رأيناها عليها في "حجر الضحك". لكنّ هذا لا يؤثّر على نوعية حضورها كحدث قوامه المحو والتفكيك، وإعادة التكوين فيما بعد. من هنا تحديدًا، تأتي أهمية الحرب في رواية حنان الشيخ بوصفها الجزء الأشدّ تأثيرًا في تركيبة عملية إعادة صياغة حياة زهرة وتسييرها.

فضلًا عن دفعها بعملية التفكيك إلى ذروتها، فكانت بمثابة الفصل الأخير منها، أو ختامها. يعني هذا أنّنا لو أردنا اقتفاء صورة بطلة الرواية، فعلينا توزيعها على زمنٍ مضى تلتهُ الحرب، وآخر راهن أفرزته الأخيرة.

رواية حكاية زهرة

ما فعلتهُ الروائية اللبنانية أنّها وضعت بطلتها مُبكّرًا في مرحلة التفكُّك الذي دفعها نحوهُ العنف الذي مارسهُ والدها ضدّها، ويُجاورهُ عنف آخر مصدرهُ والدتها، ونُضيف إليهما عُنفًا لفظيًا جماعيًا مارسهُ مُحيط يسخر بطريقة فجّة من عيوبها: بثور في الوجه، وسمنة مُفرطة.

والنتيجة هي مُحيط يرفضها، يشتدّ عليها فتلوذ بالصمت الذي بات نمط حياة يُحدِّد سلوكها ويسيّرها كيفما أراد، ويدفعها نحو علاقة غرامية تنتهي بعلاقة جنسية أقرب إلى الاغتصاب، دون أي احتجاج أو رفض، ودون أن تكون راغبةً في العلاقة نفسها، أو مُجبرة عليها.

تُغادر زهرة زمن الرواية الأوّل باتّجاه آخر قوامهُ الحرب، وتدخلهُ راغبةً في استرداد نفسها وجسدها. وإذا كانت الحرب قد أيقظت رجولة خليل في "حجر الضحك"، فإنّها في "حكاية زهرة" تأخذ البطلة إلى نضجها الذي تُغادر عنده ما رأيناه عليه، وتستعيد بموجبه السيطرة على جسدها الذي تمنحهُ بإرادتها ورغبتها، لقناصٍ تختبر معه لذّة الجنس للمرّة الأولى.

وإذا كان الثمن الذي سيدفعه خليل مقابل ذكورته، هو الدنس الذي أقام فيه، والتشوّهات التي طالته؛ فإنّ زهرة ستدفع حياتها ثمنًا لسلطة مؤقّتة على جسدها، تنتهي برصاصة أطلقها القناص الذي غادرته تُحاول فكّ طلاسم اللذّة التي تعيشها معه.

الخلاصة إذًا، أنّ هدى بركات وحنان الشيخ قدّمتا عوالم مُتخيّلة، تُوحي وتحتفي بالمحو الذي ستخرجهُ الحرب من حدوده الضيّقة، وتضعهُ في حدود أوسع تمتدّ على طول الجغرافيا الممزقّة لبلادٍ تصلنا أخبارها عن طريق شخصيات مُلتبسة، تُعاني أزمات قديمة مُتجدّدة، تعكس هوية مجتمعية مسكونة بهواجس الحالة الزمنية القائمة.

هكذا، تأتينا صورة هذه الشخصيات مشوّهة وغير سويّة، بل شاذّة أحيانًا. فمن يُحدِّد شكل هذه الصورة هو سلوك أصحابها الذين لا سلطة لهم عليه.

"يا سلام" على الهامش

الروائية اللبنانية نجوى بركات أيضًا اشتغلت على هذا الأساس تقريبًا حين كتبت روايتها "يا سلام". لكنّها في المقابل أضافت إلى تركيبة روايتها مسألة العناية الشديدة بما أهملته السرديات الأخرى التي تناولت مدينة بيروت في متنها، أي هوامش العيش ومكابداته في مدينة مشتعلة ومقسّمة. بمعنى أنّها، بطريقة أو بأخرى، ماعتنت بمحاولة لكشف صورة بيروت القابعة في الهامش، ببشرها الذين تُحدَّد صورتهم داخل الرواية بناءً على سلوكهم، ومدى انحرافه أو استقامته.

تكمن خصوصية رواية بركات في وضعها أكثر من شخصية لحكاية واحدة، هي الحرب التي تصنع لكلّ شخصية حكاية تخصّها وحدها، بناءً على عملية أو نهج التفكيك والمحو وإعادة التكوين الذي تتبنّاه؛ فمن كان سويًا أحالتهُ شاذًّا أو مشوّهًا، ومن كان شاذًّا في أصله تُحيله إلى مرتبة أدنى من مرتبة الحيوان، على أن تُنهي ممارستها هذه بإحالة مسوخها جميعًا إلى أشباح في مدينة كانوا أصحاب سلطة عليها حينما كانت الحرب زمنًا قائمًا.

لكن، أما وقد انقضى زمن الحرب، فإنّ هؤلاء صاروا مسوخًا، مضطربين نفسيًا، في مدينة غدت مصحّة، بعد أن كانوا، وفقًا لقولهم، نوعيات نادرة، أي لقمان ونجيب والأبرص؛ قنّاص محترف، وقاتل أشدّ حرفة، وجلّاد يتفنّن في تعذيب ضحاياه.

رواية يا سلام

ما يعنينا هنا هو الصورة التي نرى شخصيات الرواية عليها. ولأنّ صورتهم هذه يُحدِّدها أو يبنيها سلوكهم، فإنّه من الممكن القول بأنّ شخصيات رواية بركات هي الأكثر شذوذًا مقارنةً بما رأيناه في روايات أخرى تناولت القضية نفسها.

كما يُمكننا القول أيضًا إنّ هذا الشذوذ، عدا عن أنّه حصيلة تراكمات يُمكن النظر إليها سيكولوجيًا؛ ينطوي على فكرة تُفيد بأنّ ممارسة الإجرام هو ما يجعل هذه الشخصيات منتبهة إلى وجودها.

الحرب في رواية "حكاية زهرة" لحنان الشيخ، تكتفي بكونها زمنًا قائمًا، أخذ على عاتقه مهمة رسم الجزء الأخير من حياة بطلة الرواية

فإذًا كان القتل وبشاعته فعلًا مُعتادًا، والاغتصاب، على فظاعته، حدثًا متوقّعًا. أما ما هو غير مُعتاد فهي العلاقات المُنتهِكة والمُنتهَكة التي تؤسّسها شخصيات الرواية: اغتصاب فتاة بعد كي حلمتها بالنار "هل تذوقت طعم الحلمة حين تشوى يا لقمان؟ مذاق نادر!"، وكذا منح سلام ثدييها لشقيقها الذي ستتركه فيما بعد لجرذان المدينة تفتك بجسده.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مها حسن: "بلغني أيتها الحرب السعيدة"

حارس الموتى.. لو لم تحدث الحرب