24-سبتمبر-2019

ترتبط الشعبوية بعداء محافظ أحيانًا وثوري أحيانًا أخرى للنخب الحاكمة (تويتر)

الشعبوية هي برنامج أو حراك سياسي يتحدث باسم المواطن العادي ضد النخبة الحاكمة. كثيرًا ما تجمع الشعبوية عناصر من اليمين واليسار، فتراها تارة تعارض الشركات وأصحاب المصالح المالية والتجارية الكبيرة وتارة تكون مضادة للأحزاب الاشتراكية وأحزاب العمال القائمة.

تتجلى الأزمة في الطرح الشعبوي، سواء في شقه اليميني أو اليساري، أنه أثناء إنتاجه لبروبغاندا الانحياز المباشر للشعب، يفرض تعريفات حاسمة لما هو هذا الشعب، بشكل مهموم بالنقاء والأهلانية

الشعبوية إذًا هي مفهوم سياسي عام يصلح لوصف فلسفات سياسية معينة في اليمين أو اليسار أو بعيدًا عنهما كليهما، مثل الديمقراطية والاشتراكية وأحزاب العمال والليبرتارية وحتى بعض أشكال الفاشية.

اقرأ/ي أيضًا: باختصار.. ما معنى الصواب السياسي؟

الشعبوية في أبسط أشكالها هي الاعتقاد بأن سياسات الحكومة يجب أن تخضع لإرادة الجماهير بدلًا من مصالح النخبة. تعد الديمقراطية أنقى أشكال الشعبوية. لكن بشكل عام أصبح مصطلح الشعبوية يستخدم في سياقات المعارضة اليمينية وأحيانًا المعارضة الثورية للنخبة التي تحوز مقاليد السياسة والاقتصاد في بلد ما. تنبذ الخطابات الشعبوية النخبة التي تستغل الجماهير وتهدر حقوقهم وتتجاهل أصواتهم. باختصار، الشعبوية كانت معناها الشائع هي معارضة الأرستقراطية و"البلوتوقراطية" (حكم الأثرياء) والنخبوية.

وتعارض شعبوية اليسار سلطة الأغنياء والشركات الكبرى والرأسمالية والسلطة الدينية، بينما يدعي شعبويو اليمين أنهم يمثلون الرجل العادي في مواجهة النخبة الفكرية والثقافية اليسارية.

 أنواع الشعبوية

بما أن الشعبوية شعار رفعته العديد من الحركات السياسية ذات الأجندات المختلفة، ربما تزيد أنواع الشعبوية عما يمكن ذكره، لكن بشكل عام إليكم أهم أصناف الشعبوية كما يراها المنظرون السياسيون:

  • الشعبوية الفلاحية: وهي تشير إلى حراك الفلاحين وحلفائهم من النقابات العمالية، مثل الحزب الشعبوي في أمريكا في تسعينات القرن التاسع عشر الذي عارض القوانين والسياسات التي رأى فيها استغلالًا للفلاحين والعمال لصالح أرباب السلطة.
  • الشعبوية الديمقراطية: يشير هذا المصطلح إلى الحركات الساعية لإشراك أكبر عدد ممكن من السكان في العملية الديمقراطية من خلال الاستفتاءات وتسجيل الناخبين في القواعد الانتخابية.
  • الشعبوية الرجعية: وهو مصطلح يصف شعبوية اليمين المتطرف. وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالسياسات المعادية للمهاجرين والوطنية المتطرفة. حملة دونالد ترامب هي خير مثال على هذا النوع من الشعبوية. ولدى مثل هذه الأحزاب أتباع كثر في العديد من الدول الأوروبية اليوم.
  • الشعبوية الاشتراكية: وهي شعبوية اليسار الذي يعارض الرأسمالية ويدعم الشيوعية أو الاشتراكية. لكن هذا المصطلح يستخدم تحديدًا في وصف الثورات والتمردات الاشتراكية في أمريكا اللاتينية.
  • الشعبوية حراكًا: "هو الحراك السياسي الذي يتمتع بدعم جمهور الطبقة العاملة والفلاحين لكنه ليس ناتجًا عن سلطة تنظيمية مستقلة نابعة من أي من هذين القطاعين. ويحظى كذلك بدعم شرائح مختلفة من خارج هذين القطاعين ممن يحملون أيديولوجيا مناهضة للوضع القائم".
  • الشعبوية أسلوبًا: هو أسلوب سياسي ينطوي على رابطة وثيقة بين القادة السياسيين وأتباعهم
  • الشعبوية باعتبارها أيديولوجيا: "هي كل طائفة أو حراك يقوم على الأسس التالية: الفضيلة كامنة في البسطاء، الذين يشكلون الأغلبية المطلقة، وفي تقاليدهم الجمعية". وهي الأيديولوجيا التي تحاول حشد جمع متجانس وفضيل ضد مجموعة من النخبة أو "الآخرين" الذين يشكلون خطرًا على حقوق الشعب وقيمه وهويته وازدهاره وصوته.
  • الشعوبية كإستراتيجية: "هي استراتيجية سياسية يحاول من خلالها الزعماء الشخصانيون ممارسة السلطة بناء على دعم مباشر وغير مؤسسي من عدد كبير من الأتباع غير المنظمين".
  • الشعبوية في الثقافة السياسية: "هي الاعتقاد بأن السياسة الحكومية يجب أن تمثل رغبات الناس وأن الناس لا يكونون أحرارًا إلا حين يتطابق القانون وإرادتهم".

تاريخ الشعبوية

لعل أول حركة شعبوية معروفة في التاريخ هي فصيل غير رسمي في مجلس الشيوخ الروماني آمن أفراده بفكرة حشد الجماهير ولجأوا للاستفتاءات لتجاوز مجلس الشيوخ وكان من بينهم يوليوس قيصر وقيصر أغسطس.

ثم كان للشعبوية ظهور آخر في أوروبا بعدها بقرون مع حركة الإصلاح الديني التي سمحت للرجل العادي بقراءة الإنجيل وتأويله والتواصل مع الرب تواصلًا مباشرًا دون وسيط. ثم تبعتها عدة مجموعات مثل القائلين بتجديد العماد الذين اقترحوا تأسيس أنظمة شعبوية ثيوقراطية. ثم شهدت أوروبا عدة ثورات شعبوية قائمة على الأفكار البروتستانتية في ألمانيا وبريطانيا في القرنين السادس عشر والسابع عشر.

في القرن الثامن عشر انفجرت الثورتان الأمريكية والفرنسية اللتان ارتدتا عباءة الشعبوية على الرغم من أنهما كانتا تحت قيادة نخبة من المفكرين. في تسعينات القرن التاسع عشر تأسس أول حزب شعبوي في الولايات المتحدة وكان عماده المزارعون وجماعات العمال الذين شعروا بأن الرأسمالية الأمريكية تحابي نخبة صغيرة من الأغنياء الذين يتربحون عرق العامة. وأكنوا حنقًا خاصًا تجاه سلطة المصارف وشركات السكك الحديدية.

خلال القرن العشرين استخدم مصطلح الشعبوية لوصف حركات وقادة من مختلف الطيف السياسي من بينها الحزب التقدمي الذي أسسه ثيودور روزفلت والمكارثية في الولايات المتحدة في خمسينات القرن العشرين والثورات الاشتراكية الشعبوية في أمريكا اللاتينية، وحزب الشاي.

أشهر مثال معاصر على القادة الشعبويين هو رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب. بل إن هذا الاهتمام الجديد بالشعبوية نتج عن فوزه في انتخابات عام 2016. إحدى الطرق التي يقيس بها الباحثون مدى الشعبوية ويحددون إذا كان زعيم ما أو حزب شعبوي أم لا هي اللغة.

كان خطاب ترامب خلال حملته الانتخابية شعبويًا للغاية. هاجم النخب السياسية، بلغة تتمحور حول الشعب وأكثر من استخدام ضمائر الجمع مثل نحن ولنا. جمع بين لغته الشعبوية وأيديولوجيته اليمينية المتطرفة  لينتج سياسات مثل "أمريكا أولًا" وبناء جدار بين الولايات المتحدة والمكسيك وسياسات اقتصادية حمائية ومعادية للعولمة.

سمح له هذا الخلط بين الخطاب الشعبوي وهذه السياسات برسم خط فاصل بين الشعب والمجموعات الخارجة عن هذا الشعب مثل المسلمين والمكسيكيين والمهاجرين وغيرهم.

إلى جانب ترامب، يمثل البريكسيت أيضًا مثالًا معاصرًا على الشعبوية، بسبب معاداته للنخبة في الاتحاد الأوروبي ولجوئه للاستفتاء الشعبي للتعبير عن "إرادة الشعب". في أمريكا الجنوبية، ارتبطت الشعبوية باليسار. كان هوجو تشافيز رئيس فنزويلا السابق شعبويًا للغاية في خطاباته، ولعله يمثل أشهر مثال على الزعماء الشعبويين اليساريين.

تركزت شعبوية تشافيز حول القضايا الاجتماعية والاقتصادية. حتى أثناء حكمه صور نفسه معاديًا للمؤسسة السياسية ونخبتها العامة، محولًا عائدات النفط لتمويل البرامج الاجتماعية بهدف توزيع الثروة بين الشعب الفنزويلي لمكافحة الفقر وتعزيز الأمن الغذائي.

الرئيس المكسيكي الحالي، أندري مانويل لوبيز أوبرادور والرئيس البوليفي، إيفو موراليس يمثلان حسب عدد من الآراء اثنين من الزعماء الشعبويين اليساريين. لكن اليسار الشعبوي ليس محصورًا في أمريكا اللاتنينية. في أوروبا، نجد حزبي بوديموس الإسباني وسيريزا اليوناني أبرز مثالين على أحزاب اليسار الشعبوي. لقيت هذه الأحزاب نجاحًا كبيرًا في أعقاب الركود اليوناني. شككت هذه الأحزاب في جدوى ومشروعية الرأسمالية غير المنضبطة ودعت لسياسات اقتصادية ترفع حمل الركود عن عواتق شعوبها.

نقد الشعبوية

يتجسد معظم النقد الموجه للشعبوية في الوقت المعاصر، في منتج وخطاب بعض وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث الليبرالية أو المنحازة لليسار الديمقراطي وبعض أحزاب الوسط، ويرى هؤلاء أن الخطاب الشعبوي، على الأقل في موجته الجديدة، يستغل البسطاء والناس العاديين، والبيض المتضررين من التحولات الصناعية والأتمتة، من أجل الوصول إلى السلطة، وإنجاز مقولة قومية شوفينية.

تتجلى الأزمة في الطرح الشعبوي، سواء في شقه اليميني أو اليساري، أنه أثناء إنتاجه لبروبغاندا الانحياز المباشر للشعب، يفرض تعريفات حاسمة لما هو هذا الشعب، بشكل مهموم بالنقاء والأهلانية، ولعل النتيجة الأوضح لذلك هو السياسات المعادية للاجئين ولأي موجات هجرة.

مع ذلك، فإن نقد الأوساط الليبرالية واليسار الديمقراطي للشعبوية، لا يبدو واضحًا في كثير من الأحيان، إذ يبقى السؤال هل يرفض هؤلاء التواصل السياسي المباشر مع الشعب، أم عواقب المد الشوفيني لبعض الأحزاب الشعبوية؟ كما أنه يبدو نقدًا محملًا بمدلولات نخبوية، ترى أن "البسطاء" يمكن استخدامهم وتوظيفهم بسهولة لإنتاج تصور عنصري، دون التطرق إلى النتائج الوخيمة على فئات اجتماعية عديدة، تسببت بها النخب الحاكمة في الغرب ما بعد الحرب العالمية الثانية.

هناك من يطرح حجاجًا فوقيا أيضًا ضد الشعبوية. يمثل الحزب الشيوعي الحاكم في الصين هذا الموقف. يرى الحزب الشيوعي الصيني ومناصروه أن أصلح من يقرر السياسات الحكومية هم الأذكياء والطموحون والمحترفون المخلصون لأيديولوجيا بلادهم. ويرجعون عجز الولايات المتحدة عن الإصلاح إلى المنافسة الحزبية. يرى أنصار النظام الصيني أن الديمقراطية الشعبوية وحرية التعبير ستؤدي إلى نتائج كارثية لأنها قد تحشد الدهماء وغير المتعلمين وتوجههم في اتجاهات خطرة. معظم الطبقة المتعلمة في الصين يعتبرون الجماهير جاهلة ومن الجنون السماح لها بالمشاركة في القرار السياسي. تعتبر الصين نفسها نظامًا ديمقراطيًا يسمح فيه فقط لأعضاء الحزب بالتصويت، ليختاروا من بين مرشحين عدة كلهم من نفس الحزب. ويعتقدون أن هذه الطريقة تضمن كفاءة القيادة.

اقرأ/ي أيضًا: باختصار شديد.. ماذا تعني "ما بعد الحداثة"؟

الاعتقاد بأن الجماهير أجهل وأغبى من أن يترك لها القرار السياسي ليس مقتصرًا على الصين وحدها، فبعض الآباء المؤسسين للولايات المتحدة أعربوا عن أفكار مشابهة. بشكل عام، تمثل هذ الفكرة أحد مبررات الأنظمة الأرستقراطية القديمة التي عد فيها الأرستقراطيون أنفسهم أصلح للحكم بسبب نسبهم وتعليمهم.

لا بيدو نقد الأوساط الليبرالية واليسار الديمقراطي للشعبوية، إذ يبقى السؤال هل يرفض هؤلاء التواصل السياسي المباشر مع الشعب، أم عواقب المد الشوفيني لبعض الأحزاب الشعبوية؟

تنبع أنواع أخرى من نقد الشعبوية من الصراع بين اليمين واليسار، حيث يتهم كل منهما الآخر بأنه لا يمثل مصالح الجماهير وأنه يستخدم الشعبوية وسيلة لحشد الجماهير للتصويت لصالح مرشحين يعملون لتحقيق مآرب نخب معينة، مثل النخب الفكرية في حالة اليسار أو النخب الاقتصادية في حالة اليمين.