04-فبراير-2019

تمثل ما بعد الحداثة مجموعة من الآراء الرافضة لسرديات الحداثة (فيسبوك)

الترا صوت – فريق التحرير

إن كنت طالبًا أو باحثًا أو مهتمًا بالأدب والفن، أو حتى قارئًا، فإن مصطلح "ما بعد الحداثة" قد تكرر بالتأكيد على مسامعك في كثير من المرات. يصعب تحديد معنى هذا المصطلح، ليس فقط لأنه مرتبط بمدرسة فلسفية غاية في التعقيد، وبقاموس لغوي مجرد وخاص، ولكن أيضًا لأن هذا المفهوم يشير غالبًا إلى أكثر من جانب، فيما يتم استخدامه لوصف مدارس فنية وأدبية ومعمارية، وكذا مرحلة زمنية، في نفس الوقت الذي يتم استخدامه لوصف مجموعة من الأفكار والمساهمات النظرية التي راجت ما بعد الحرب العالمية الثانية.

إن الآراء التي تم تصنيفها ضمن ما عُرف بما بعد الحداثة، غالبًا ما كانت قائمة على نقد المفاهيم الكونية للحداثة

إذا كان يمكن تبسيط هذا التعريف وتضمين جل هذه النواحي فيه، فإن ما بعد الحداثة تعد حركة فكرية واسعة تطورت في منتصف وأواخر القرن العشرين من خلال الفلسفة والفنون والهندسة المعمارية والنقد الأدبي، تجتمع كلها على التشكيك في قيم الحداثة وعصر التنوير.

اقرأ/ي أيضًا: ما بعد الحداثة كبروباغندا للأنظمة

ففي حين كانت الحداثة الأوروبية، مرتبطة بقيم كبرى وتفسيرات حول العالم والإنسان والتاريخ والسياسة والعلم والسعادة والجنس والنظام السياسي والعقلانية والفن والأدب والحرب، إلخ، تشكلت عبر مئات السنوات في الثقافة الأوروبية، فإن ما بعد الحداثة، كما يتم تعريفها بشكل عام، تمثل الموقف المتشكك أو الرافض أو حتى الساخر من هذه السرديات، وبشكل عام مما أصبح يٌطلق عليه أيديولوجيات الحداثة، بالإضافة إلى التشكيك في الافتراضات الأساسية لعقلانية عصر التنوير، التي تفترض أن العلم قادر على تحقيق كل شيء، وحل كل المشاكل الإنسانية، وفك لغز كل ما يجهله الإنسان.

وبالتالي، فإن الآراء التي تم تصنيفها ضمن ما عُرف بما بعد الحداثة، غالبًا ما كانت قائمة على نقد المفاهيم الكونية للحداثة (التي تفترض وجود إنسان واحد، يمكن فهمه بطريقة واحدة) مثل الأخلاق والحقيقة والطبيعة البشرية والعقل والتقدم الاجتماعي. بينما يستبدل الفكر ما بعد الحداثي ذلك، بالميل إلى القيم الذاتية سواء للإنسان أو المجتمع المحلي، والنسبية المعرفية والأخلاقية، والتعددية الثقافية.

يرجح المؤرخون لهذه التصورات الفكرية، أن ما بعد الحداثة قد بدأت بالتبلور بعد الحرب العالمية الثانية كرد فعل على الإخفاقات العديدة للحداثة، سواء في تحقيق وعودها في فهم العالم ومعرفته، وإنهاء الخوف منه، وإخفاق جل سردياتها الأخلاقية. غير أن ما حدث كشف أن جزءًا كبيرًا من هذه القيم، أصبحت مرتبطة بالأنظمة والتطبيقات الشمولية والاستعمار. وبالتالي فإن عديدًا من القراءات، رأت في ما بعد الحداثة نوعًا من المراجعة الواسعة للتراث الذي خلفه عصر التنوير.

أما فيما يتعلق بمجمل الحقائق التي أنتجتها العقلانيات الحديثة، فإن أصحاب التفكير ما بعد الحداثي، تبنوا موقفًا معرفيًا متمايزًا، حيث إنهم بالإضافة إلى التشكيك بهذه الحقائق، والتشكيك بوجود حقيقة أصلًا، فإنهم دعوا إلى نوع من التعامل النسبي والذاتي مع الحقيقة، ونتج عن ذلك افتراض سيصبح أساسيًا في مجمل الحركة الفكرية لما بعد الحداثة، وهو أن الحقيقة التي دعا الحداثيون إلى اكتشافها، وحددوا المنهج العلمي والعقلاني للوصول إليها، ليست موجودة بحد ذاتها، حيث إن الجماعات الإنسانية لا تكتشف الحقائق، وإنما نقوم بصناعتها. وقد كانت عملية البحث عن الحقيقة نفسها، منصة ضخمة، وفقًا لهذا الرأي، لإنتاج الحقائق.

انتقدت ما بعد الحداثة التفكير العلمي أيضًا والافتراضات حوله، وافتراضاته هو نفسه حول العالم والمجتمعات الإنسانية، كما حملت بعض الآراء النقدية تجاه العلم وتاريخه، رافضة الفكرة القائلة بأنه منهج محايد وموضوعي ومنفصل عن الذات الاجتماعية والحياة الإنسانية.

اكتسبت نظريات ما بعد الحداثة شهرة واسعة في الثمانينات والتسعينات، كما تم اعتمادها بشكل متسارع في مجموعة متنوعة من الحقول والتخصصات الأكاديمية والنظرية، بما في ذلك علم الاجتماع وعلم النفس والدراسات الثقافية وفلسفة العلم والاقتصاد واللغويات والعمارة والدراسات النسوية والنقد الأدبي، بالإضافة إلى العديد من الحركات الفنية والأدبية. وغالبًا ما أصبح المفهوم مرتبطًا بمدارس التفكيك وما بعد البنيوية.

"أن ترى كدولة" لجيمس سكوت.. مجزرة التجانس وعقدته

مع نهاية التسعينات، بدأت تساؤلات كثيرة تطرأ حول هذا النموذج الفكري، سواء من خلال آراء ناقدة رأت أنه لم يعد نموذجَا معرفيًا ناجحًا، أو من خلال آراء معارضة ترى في "ما بعد الحداثة" فكرة هدّامة، ومناهضِة للتقدم الإنساني والعلمي. كما أن هناك بعض الأفكار التي أصبحت رائجة، والتي تتطرق إلى خطورة هذا النموذج في العالم الثالث مثلًا، حيث يخوض الناس معاركهم من أجل الديمقراطية والتقدم العلمي والتنمية، في ظل هيمنة الاستبداد، وشح الإمكانيات العلمية.

بدأت تصورات ما بعد الحداثة بالتبلور بعد الحرب العالمية الثانية كرد فعل على الإخفاقات العديدة لـ"عصر  الحداثة"

كما أن هناك نقاد لما بعد الحداثة، يرون أنه من غير المنصف وضع تعريفات صارمة للحداثة، من أجل نقدها أو مناهضتها، وكذا اعتبار أن ما تلا عصر التنوير جزء أكيد منها، وربط التطور الإنساني في هذه الفترة بقيمها. بالإضافة إلى تخوف آخرين من أن عبور الحرب الباردة، وما أسهم فيه من وصم للأيدولوجيا، مفهومًا لا تصنيفًا، ساهم في قبول الواقع كما هو، بما في ذلك واقع ما بعد الحرب الباردة، الذي تم تقديمه كلحظة لسقوط المشاريع الكبرى من القطب الذي احتفظ بطاقاته التنظيرية، لا لتميز فيه بقدر ما هو خلل في الخصم، في حين أنه آل إلى سيطرة مطلقة لنخب الليبرالية الجديدة التي تناصب قيم الحداثة نفسها عداءًا شرسًا، وتتعاطى معها بشكل نفعي مباشر ومصلحي دون أي اعتبار لقيمية حتى أدوات النقد الحداثي، وتغذي النزوع التشككي ما بعد الحداثيمن باب إشغال حلبة السجال بهذه الثنائية بعيدًا عن السوق الرأسمالية وتطوراته وأزماته.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الديمقراطية..على حافة الهاوية

مستقبل الديمقراطية والرأسمالية.. بربرية التضليل