31-أغسطس-2019

حمل تاريخ مفهوم الصواب السياسي دلالات عديدة (David Fenton/Getty)

الصواب السياسي، هو مصطلح يشير إلى نوع الخطاب الذي يحاول تجنب قدر معين من التمييز والعدائية في وصف مجموعات تتميز بسمات خارجية معينة مثل العرق والجنس والثقافة والتوجه الجنسي. ومنذ ظهور المصطلح في أوائل القرن العشرين حتى الآن، نوقش وهوجم وتعرض للنقد والسخرية من مختلف الأطراف في الطيف السياسي. الجدل الذي يثيره هذا المصطلح دائمًا يتمحور حول مدى قدرة اللغة المستخدمة في الخطاب على التأثير في المعتقدات ووجهات النظر العامة وإحداث تغيير في الواقع.

لغويًا، يبدو أن ممارسة ما يسمى بالـ "الصواب السياسي" نابعة من الرغبة في محاربة إقصاء المجموعات الهوياتية المختلفة عبر استخدامات اللغة

ظهر المصطلح للمرة الأولى في القاموس الماركسي اللينيني بعد الثورة الروسية في عام 1917. في ذلك الوقت استخدم المصطلح لوصف الالتزام بمبادئ الحزب الشيوعي والاتحاد السوفييتي. في سبعينات وثمانينات القرن العشرين بدأ الليبراليون في استخدام المصطلح لنقد اليسار الليبرالي الجديد الذي تبلور من رحم الحراك الطلابي في الولايات المتحدة وأوروبا في  ستينات القرن العشرين وبزوغ مناهج ما بعد الحداثة وتركيزها المتزايد على العلاقة بين السلطة والخطاب على حساب المحتوى. في التسعينات بدأ المحافظون في الولايات المتحدة باستخدام المصطلح لنقد هيمنة اليسار الليبرالي على الجامعات ومناهج التدريس في الولايات المتحدة. 

اقرأ/ي أيضًا: باختصار شديد.. ماذا تعني "ما بعد الحداثة"؟

لغويًا، يبدو أن ممارسة ما يسمى بالـ "الصواب السياسي" نابعة من الرغبة في محاربة إقصاء المجموعات الهوياتية المختلفة عبر استخدامات اللغة. وفقًا لفرضية سابير-وورف، فإن منظورنا للحقيقة تحدده عمليات التفكير لدينا والتي بدورها تتأثر بطرق استخدامنا للغة. وبهذه الطريقة تشكل اللغة الواقع وتملي علينا كيفية التفكير في الواقع والتصرف حياله. تكشف اللغة كذلك عن تحيزاتنا وتعززها. ولهذا وفقًا لهذه الأطروحة، فإن استخدام لغة قائمة على التمييز الجنسي تعزز الإقصاء الجنسي واستخدام لغة عنصرية تجذر العنصرية.

أما معارضو "الصواب السياسي" فيرونه نوعًا من الحظر والرقابة على استخدام اللغة ومقيدًا لحرية التعبير يفرض حدودًا ثقيلة على النقاشات في المجال العام. ويرون أن مثل هذه القيود اللغوية تؤدي في النهاية لرقابة ذاتية وقيود على السلوك. ويرون أن الصواب السياسي يفترض وجود لغة عدائية في مواطئ لا توجد فيها هذه اللغة في الأساس. في حين يعتقد آخرون أن الصواب السياسي استخدم كفزاعة لإيقاف المحاولات المشروعة لدحض خطاب الكراهية وتقليل ممارسات الإقصاء اللغوي.

تاريخ المصطلح

لفهم الاستخدام المعاصر لمصطلح الصواب السياسي، علينا أن نعي أصوله. ظهر هذا المصطلح في اللغة الإنجليزية للمرة الأولى في القرن الثامن عشر من قبل المحكمة العليا الأمريكية في قضية تشيشولم ضد جورجيا. قالت المحكمة في قسم صغير من حيثيات القرار "تسود تعبيرات مثل هذه في لغتنا اليومية حتى الاحتفالية. فإذا قيل نخب من نحتفل، كانت الإجابة الولايات المتحدة، بدلًا من شعب الولايات المتحدة، وهذا مخالف للصواب السياسي". حينها كان الصواب السياسي مجرد تقليد سياسي تلتزم به النخبة وليس موضوعًا وطنيًا يطرح في المجال العام.

في ستينات القرن العشرين، في أعقاب الحرب العالمية الثانية وفي خضم الحرب الباردة، شهدت الولايات المتحدة وأوروبا تغييرات اجتماعية كثيفة وتغيرت معها المعاني المحملة في مصطلح الصواب السياسي. تروي المؤرخة روث بيري في مقال لها إنه في تلك الأيام المبكرة لشيوع المصطلح شعر طرفا الصراع الاجتماعي أن الطرف الآخر يقف في وجه التحرر. فسادت بين الليبراليين عبارات مثل الحقوق المدنية وقوة السود والنسوية، في حين مثلت لجنة الأنشطة غير الأمريكية التابعة للكونغرس قلعة المحافظة ومعاداة الشيوعية. شعر كلا الطرفان أن الالتزام بالصواب السياسي مفيد للمجتمع. ولم يحتكر أي من الطرفين استخدام المصطلح الذي حظي بسمعة جيدة.

في التسعينات شهد المصطلح تحولًا جديدًا واستخدم في سياقات جادة وساخرة ونقدية واستفهامية. لم يعد الصواب السياسي إطراءً، بل مصطلحًا محملًا بالتحيزات الحزبية، يحتكره اليسار ويبغضه اليمين. ثم عاد المصطلح إلى واجهة النقاش السياسي مع صعود ترامب للسلطة وهجومه المتواصل على الصواب السياسي ومخالفته لثوابته التي أرساها اليسار الليبرالي خلال العقدين الماضيين.

في السياق العربي ظهر الصواب السياسي في المجال العام من بوابة مواقع التواصل الاجتماعي، فبعد انزواء موجة الربيع العربي وأفول زمن القضايا السياسية الكبرى وانشغال النشطاء بالقضايا الحقوقية والاجتماعية الجزئية، ظهرت محاولات لفرض لغة معيارية جديدة تضبط الحديث عن الطبقات العاملة أو المرأة وكثر الحديث عن التنمر والعنصرية والتمييز الجنسي وغيرها من القضايا التي ارتبط تاريخيًا باليسار الليبرالي ومنظمات المجتمع المدني. 

في الميزان

يرى مناصرو الصواب السياسي أن منظورنا للأشخاص والفئات المختلفة يتأثر تأثيرًا كبيرًا باللغة التي نسمعها ونستخدمها عنهم. وبهذا تستطيع اللغة قاصدة أو ساهية أن تكشف عن تحيزات المرء ضد الهويات المختلفة أو تعززها. ولهذا تمنع اللغة التي تنضبط بضوابط الصواب السياسي إقصاء هذه المجموعات وتهميشها.

في حين يرى مناوئو الصواب السياسي أنه نوع من الرقابة التي تقوض حرية الحديث وتقيد يد المجال العام عن الخوض في النقاشات الاجتماعية المهمة. بل ويرون أن ثقافة الصواب السياسي المتطرفة تخلق لغة عدائية لم توجد سابقًا. في حين يرى آخرون أن مصطلح الصواب السياسي تحديدًا يمكن استخدامه لإعاقة محاولات نشر خطابات الكراهية والإقصاء. 

اقرأ/ي أيضًا: الدولة العميقة.. كيف بدأ المفهوم وأين وصلت الممارسة؟

وفقًا لمسح أجراه مركز بيو عام 2016، شعر 59% من الأمريكيين "أن عددًا كبيرًا من الناس يشعرون بالإهانة بسهولة بسبب استخدام اللغة التي يستخدمها الآخرون هذه الأيام". لكن رغم أن معظم الناس يحاولون تجنب استخدام لغة عدائية ضد الآخرين، فإن الأمثلة المتطرفة على المصطلحات الصائبة سياسيًا تفرغ اللغة الانجليزية من محتواها وتؤدي إلى حالة من الارتباك.

في التسعينات شهد المصطلح تحولًا جديدًا واستخدم في سياقات جادة وساخرة ونقدية واستفهامية. لم يعد الصواب السياسي إطراءً، بل مصطلحًا محملًا بالتحيزات الحزبية، يحتكره اليسار ويبغضه اليمين

وأخيرًا يرى معارضو الصواب السياسي أن إخبار الناس بأن التعبير عن مشاعرهم ومعتقداتهم بطرق معينة يجانب الصواب الاجتماعي، لن يقضي على مشاعرهم ومعتقداتهم تلك. فالتحيز الجنسي على سبيل المثال لن ينتهي بمجرد استبدال المصطلحات المتحيزة بأخرى محايدة، وعلى نفس النحو فإن وصف المشردين مثلًا بـ "المهجرين مؤقتًا" لن يخلق لهم الوظائف أو يقضي على الفقر.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الأمننة والشعبوية.. الخوف كدعاية سياسية