16-يوليو-2019

تصميم ديجيتال لـ"أنغونبييتس"

يعود أصل مصطلح "الدولة العميقة" إلى شبكة سرية تركية تدعى derin devlet. أسس مصطفى كمال أتاتورك هذه المجموعة عام 1923 بهدف القيام بأعمال سرية، تحفظ بنية النظام القائم. شملت هذه الأفعال تنفيذ انقلابات واغتيال شخصيات اعتبرت معادية لمؤسسة الحكم. واستهدفوا الصحفيين خاصة، إلى جانب الشيوعيين والأكراد ومعارضين آخرين.

تحول فعالية الدولة العميقة العملية الديمقراطية إلى مجرد عملية صورية تحفظ وجه النظام وتعيد إنتاج المجموعات الحاكمة والمتحكمة

منذ ذلك الحين أصبح مصطلح "الدولة عميقة" يحمل معنى "حكومة الظل" غير المنتخبة التي تعمل في خلفية النظام الديمقراطي. وجود هذه الحكومة يحول العملية الديمقراطية إلى مجرد عملية صورية تحفظ وجه النظام. في الماضي اعتادت الصحافة الأمريكية استخدام كلمة الدولة العميقة في الإشارة إلى حكومات دول مثل تركيا وروسيا، لكن في العقد الأخير تزايد استخدام المصطلح لوصف الحكومة الأمريكية من قبل المؤمنين بنظرية المؤامرة.

اقرأ/ي أيضًا: الدولة العميقة.. "مؤامرة" بلا متآمرين

هناك نظريات كثيرة ومتنوعة عن أهداف هذه الدولة العميقة في الولايات المتحدة إذا وجدت. لكن منذ وصول ترامب للسلطة عملت إدارته على تغيير معنى المصطلح في المخيال العام، إذ تدعي أن دولة عميقة هي القوى المتحالفة في أجهزة الدولة المتبقية من عصر أوباما، التي تعمل جاهدة لإعاقة أهداف الإدارة وتخريب عملها. في حين يرى معارضو ترامب أن حملته الانتخابية قامت على أفكار معادية للمؤسسات الحكومية، والآن بعد أن وصلوا للسلطة يستخدمون مصطلح الدولة العميقة للتغطية على فشلهم والتقارير التي تفيد بفوضى داخلية تعم عمل الحكومة والتسريبات المتكررة لمعلومات داخلية.

نقدم هنا تاريخًا موجزًا لنماذج الدولة العميقة، من تركيا إلى فيتنام مرورًا ببريطانيا في ستينات القرن العشرين. 

تركيا وميلاد الدولة العميقة

كما ذكرنا آنفًا، يمكننا تتبع أصل مصطلح الدولة العميقة من خلال كلمة derin devlet التركية التي استخدمت لوصف شبكة عميقة من القوى المتحالفة تعمل في الخفاء للتحكم في الحكومات المنتخبة.

ولا تقتصر هذه الشبكة على المؤسسات الرسمية فقط، بل تشمل أيضًا عصابات الجريمة المنظمة إلى جانب ضباط رفيعي المستوى في الجيش والاستخبارات.

أحال المؤرخون ظهور هذه الشبكة في تركيا إلى بواكير القرن العشرين، عندما لجأت حركة تركيا الفتاة لعصابات الجريمة المنظمة للقيام بأعمالها القذرة. في السنوات الأخيرة أصبح مصطلح derin devlet مستخدمًا لوصف مجموعة من الموالين الأشداء لرؤية كمال أتاتورك القومية المتطرفة المعادية للديمقراطية، داخل الحكومة والجيش.

يقال إن هذه الدولة العميقة، كانت مسؤولة عن تنفيذ انقلابات ضد القادة الأتراك المنتخبين منذ ستينات القرن العشرين.

ظهرت خيوط هذه الشبكة التي تربط بين عناصر معينة في الحكومة والجريمة المنظمة للعلن أول مرة، عام 1996، عندما توفي أربعة أشخاص كانوا يستقلون سيارة واحدة في حادث مروع وقع في سوسرلوك في شمال غرب تركيا.

في الحطام وجدوا جثة عضو في البرلمان ونائب سابق لمدير شرطة إسطنبول، وقاتل مأجور يحمل أفكارًا قومية متطرفة، وزعيم من زعماء تجارة المخدرات في البلاد ومعه حبيبته ملكة الجمال. تقول الأسطورة، إن وزير الداخلية تخلف في اللحظة الأخيرة عن السفر مع المجموعة، بعد أن وصلته معلومة بأن حادثًا مدبرًا سيستهدفها.

الوجود المزعوم لقاتل مأجور وتاجر مخدرات في السيارة مع أعضاء بارزين في مؤسسة الحكم، كان كافيًا ليدفع المحققين للبحث عن روابط بين الحكومة والجريمة المنظمة. وكان كافيًا ليزول أي شك لدى العامة بوجود "الدولة العميقة".

الولايات المتحدة وحرب فيتنام

مثلها مثل العديد من نظريات المؤامرة في الولايات المتحدة، تعود جذور مصطلح الدولة العميقة بمعناه الشائع اليوم إلى حرب فيتنام. ليس من الغريب أن يكون لفيتنام هذا التأثير العميق على نفسية الأمريكيين واستعدادهم لتصديق حكومتهم.

فمع مرور السنوات، تبين أن الحكومة كانت تكذب عليهم. فقد كانت تشن حربًا سرية دون إشراف ديمقراطي في مسعى عبثي لضمان هيمنة الولايات المتحدة على العالم.

كانت المؤسسة العسكرية الأمريكية تتضخم وتزداد نفوذًا وهيمنة، وقد خشي الرئيس أيزنهاور في المرحلة الأولى لحرب فيتنام، من النفوذ المتزايد للجيش وشركات صناعة الأسلحة في أمريكا. وفي خطاب وداعه للشعب الأمريكي أطلق على هذا التحالف اسم "المجمع العسكري الصناعي" وحذر الشعب من أخطاره.

قال في خطابه "يجب أن نحذر من حصول المجمع العسكري الصناعي على نفوذ غير شرعي في الدوائر الحكومية، سواء سعوا لذلك أم لا، فخطر الصعود الخطير للقوى غير الشرعية قائم وسيظل محدقًا بالأمة".

مواجهة مع الداخلية في عهد مبارك (Getty)

الانقلاب على الطريقة البريطانية

هل سمعت يومًا عن الزمن الذي دعا فيه مالك جريدة Daily Mirror إلى الإطاحة برئيس وزراء منتخب ديمقراطيًا؟ في عام 1968، ناقش سيسيل كينغ مالك الجريدة ورئيس مؤسسة النشر الدولية، مساوئ رئيس الوزراء المنتخب حديثًا هارولد ويلسون مع اللورد ماونتباتن، عم الأمير فيليبس، وقائد البحرية الملكية وأحد أركان المؤسسة العسكرية. 

اتفقا معًا على أن سياسات ويلسون الاشتراكية ستبث الفوضى في الحكومة، وستفجر أنهار الدماء في الشوارع ويجب على القوات المسلحة التدخل لاستعادة النظام.

وفي خضم النقاش سأل كينغ اللورد ماونتباتن، إن كان راغبًا في قيادة إدارة جديدة تنقذ البلاد من مصير محتم مستعيدًا بذلك مكانته كقائد محنك. قال ماونتباتن إن الفكرة تعد خيانة ورفضها. لذا قرر كينغ أن يحمل الأمر على عاتقه ويجهز حكومته الخاصة التي يقودها هو.

اقرأ/ي أيضًا: الأمننة والشعبوية.. الخوف كدعاية سياسية

أجبر جريدة Mirror على نشر مقال كامل يشغل الصفحة الأولى وأعمدة صحفية، يدعو فيها للإطاحة بويلسون بوسائل غير برلمانية تحت عنوان "طفح الكيل". لم يحدث الانقلاب أبدًا وعزل كينغ من إدارة مؤسسة النشر الدولية بسبب تهديده لاستقلال جريدةDaily Mirror خدمة لأغراضه الشخصية.

النظام العربي العميق: الآن تراني.. الآن لا تراني

لعل أول ذكر علني لمسألة الدولة العميقة على المستوى العربي ورد عام 1954 إبان التحولات التي كانت تشهدها مصر على وقع الإطاحة بالنظام الملكي، حيث كتب إحسان عبد القدوس مقالًا بعنوان "الجماعة السرية التي تحكم مصر". كان عبد القدوس يشير في مقاله تلميحًا إلى الضباط الأحرار ومجلس قيادة الثورة. لكنه ما لبث أن اعتقل وعذب لمدة ثلاثة أشهر في سجن عسكري، خرج بعدها معتزلًا للكتابة السياسة متحولًا عنها إلى الروايات الرومانسية.

 أثبتت سيناريوهات الربيع العربي المختلفة أن شبكات الدولة العميقة  لن تتوانى  عن العمل في العلن مباشرة دون ستار لسحق أي حراك قد يغير من تركيبتها أو يضر مصالحها وديمومتها

في كتابه "من الدولة العميقة إلى الدولة الإسلامية" يصف جان بيير فيليو أرباب الدولة العميقة في العالم العربي "بالمماليك الجدد"، حيث افتقدوا كأسلافهم من المماليك القدامى شرعية الحكم الوراثي أو حتى الشرعية الديمقراطية التي تقوم عليها الجمهوريات الحديثة، فقد كان السلك العسكري مسارهم الوحيد للترقي الاجتماعي. والمماليك الجدد  كأسلافهم من المماليك القدامى استعملوا غطاء مدنيًا رقيقًا لتجميل وجه نظام عسكري عتيد وعنيف.

لكن المؤرخ المتخصص في تاريخ العراق تشارلز تريب يرى أن الدولة العميقة أو "دولة الظل" كما يسميها في العالم العربي هي وليدة المفارقة بين إرادة الدول الاستعمارية ونشوء طبقات جديدة في العالم العربي إثر زوال أنظمة ما قبل الاستعمار. من رحم هذه المفارقة تولدت شبكات مصالح عائلية وطائفية ومؤسسية قامت عليها تحالفات السلطة في الجمهوريات الجديدة.

للدولة العميقة في العالم العربي إذًا، جذور تاريخية مشتركة وتقودها نفس العقلية وتؤدي نفس مهام السيطرة والضبط ولو اختلفت أحيانًا في تشكلاتها الاجتماعية والطائفية والاقتصادية. وقد جاءت عاصفة الربيع العربي لترفع الغطاء الرقيق عن هذه الدولة المتجذرة عميقًا في النظام العربي وعن شبكات مصالحها وتحالفاتها وعلاقاتها بالأنظمة الإقليمية والدولية. وقد أثبتت سيناريوهات الربيع العربي المختلفة أن هذه الشبكات  لن تتوانى عن العمل في العلن مباشرة دون ستار لسحق أي حراك قد يغير من تركيبتها أو يضر مصالحها وديمومتها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"رصاص بلا رصاص".. التجربة البصرية المستقلة

انتقائية التضامن الغربي.. الضعفاء بدون حلفاء!