07-فبراير-2020

تهتم دراسات ما بعد الاستعمار بتفكيك علاقات السلطة المترتبة على الاستعمار (ألترا صوت)

الترا صوت - فريق التحرير

يصعب التعامل مع "دراسات ما بعد الاستعمار" كحقل  أو تخصص أكاديمي، بقدر ما يمكن التعامل معها، كتصور فكري، مهتم بتفكيك علاقات القوة والسلطة التي نشأت في خضم فترة الاستعمار وبعدها، في حقول متنوعة، من الأدب إلى علم الاجتماع والفن والتاريخ والدراسات النسوية والأنثروبولوجيا وعلم النفس، وغيرها.

عبر تصور "دراسات ما بعد الاستعمار" بشكل واضح عن نزعة نقد "ما بعد حداثية" للاستعمار، وركز على تفكيك البنية المعرفية التي شكلها، باعتبار أنها لا يمكن أن تنفصل عن السلطة، وسعيها المستمر لتخليق "الآخر" وتمثيله

وفي  حين يبدأ التأريخ لنشوء الحقل، مع تنظيرات إدوارد سعيد عن "الاستشراق"، باعتبار أن له الفضل في التأريخ لحقبة من التصورات المعرفية والوجودية للغرب الاستعماري عن الشرق، فإن هناك آراء عديدة تعود بدراسات ما بعد الاستعمار إلى ما هو قبل ذلك، وتحديدًا للمفكر الماركسي فرانز فانون. ومن أهم المنظرين لهذا التصور النظري، بالإضافة إلى إدوارد سعيد وفرانز فانون، المنظر الهندي هومي بابا، وغياتري سبيفاك، وروبرت يونغ، وآخرون.

اقرأ/ي أيضًا: باختصار.. ما هو الاستعمار الاستيطاني؟

على العموم، فإن "دراسات ما بعد الاستعمار" تهتم بشكل أساسي بدراسة الآثار المترتبة على الاستعمار، على أصعدة مختلفة، ثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، لكن يمكن القول إنه تصور عبر بشكل واضح عن نزعة نقد "ما بعد حداثية" للاستعمار، وركز على تفكيك البنية المعرفية التي شكلها، باعتبار أنها لا يمكن أن تنفصل عن السلطة، وسعيها المستمر لتخليق "الآخر" المستعمَر وتمثيله، ضمن نوع من "التمييز الأنطولوجي والمعرفي" حسب وصف سعيد نفسه[1].

إجمالًا، فإن هذا التصور النظري ينطلق من افتراض أو إيمان أساسي، بأن الآثار الاستعمارية لم تنته مع نهاية حقبة الاستعمار، وإنما لا زالت باقية، خصوصًا فيما يتعلق بالخطاب الثقافي، الذي يتعين تغييره، وتفكيك التقاليد المعرفية الإقصائية فيه، وإعطاء المهمشين أصواتًا وأدوارًا أكبر.

المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد

 وتم التعبير عن هذه الرؤية، ليس فقط في أعمال الأكاديميين العالمثالثيين، ولكن أيضًا في أعمال أدباء وروائيين وفنانين. كما تم التركيز على الأنماط الجزئية التي وُظفت في التمثيل الاستعماري المركزي لشعوب ما بعد الاستعمار، والتي تم ربطها بأوصاف التقدم والتخلف، مثل الجنسانية والجندر والثقافة الشعبية، إلخ[2].

وقد استفادت دراسات ما بعد الاستعمار، بشكل أساسي من النقد ما بعد الحداثي للمركزية الثقافية الغربية، ونقد قصة الحداثة، التي تصمم تاريخًا خطيًا للعالم يبدأ من الفلسفة الإغريقية ويصل إلى عصر التنوير الأوروبي، بدون الالتفات إلى منجزات الشعوب والثقافات الأخرى،  التي تُعتبر خارج هذا المسار. حيث إن طبيعة تلك القصص والسرديات الكبرى، أتاحت بشكل مهنجي كما يرى مفكرو ما بعد الاستعمار، إلغاء أي دور ثقافي أو تاريخي أو سياسي لتلك الشعوب التي كانت خاضعة للاستعمار[3].

هنا تداخلت دراسات ما بعد الاستعمار مع تصورات نظرية جديدة، على غرار دراسات التابع، المنشغلة بشكل أساسي بتقييم دور المهمشين في المرويات الثقافية عن التاريخ والسياسة داخل المجتمعات التي كانت خاضعة للاستعمار نفسها، منطلقة من الافتراض بأن هناك إقصاء لأؤلئك المهمشين، لصالح النخبة، في الواقع الذي خلفه الاستعمار، خاصة في الحالات التي تكتسب تلك النخبة قوتها أو سلطتها المعرفية من علاقتها اللغوية والثقافية مع الاستعمار نفسه أو آثاره، مثل اللغة ونظام التعليم[4]. وعلى سبيل المثال، فإن مثقفي دراسات التابع، استشهدوا بعلاقة النخبة الثقافية في الهند مع نظام التعليم البريطاني.

المفكر الماركسي فرانز فانون

تقاطعت دراسات التابع وما بعد الاستعمار مع التصورات ما بعد الحداثية أيضًا، من ناحية نقد الادعاء البنيوي والماركسي بوجود رواية تاريخية أو ثقافية واحدة، كما حدث مع تاريخ النضال ضد الاستعمار مثلًا، على اعتبار أن هدا النسق من "توحيد القصة" قائم على تعتيم منظم على دور الناس العاديين وغير المتعلمين، والنساء، لصالح مسار يدور حول مساهمة النخب. فيما تم اقتراح روايات تاريخية وثقافية مجزأة كبديل، وكفرصة لإظهار أكبر لدور التابعين[5].

انتقادات

اعتبرت بعض الآراء، أن نموذجي دراسات ما بعد الاستعمار ودراسات التابع، يعتمدان بطريقة مبالغ بها، على بناء سردية بديلة ونقدية، لكنها تصور تاريخ المجتمعات باعتباره قائمًا بشكل دائم على نوع من التوتر مع الاستعمار، ما يخفي دور العوامل الأخرى في الأزمات التي تواجهها مجتمعات ما بعد الاستقلال، مثل التقاليد المحافظة غير القائمة على المساواة، والمناهضة للمرأة، أو التمييز الطائفي الطبقي المزدوج، في بلدان مثل الهند مثلًا. مقابل التقليل من شان الثقافة الشعبية الإقصائية.

في نهاية  الثمانينات، كتبت المفكرة الأمريكية من أصول بنغالية غياتري سبيفاك، أحد أهم الأسماء في دراسات التابع ودراسات ما بعد الاستعمار، والأستادة في جامعة كولومبيا، نقدًا صريحًا لهذا النمودج النظري، معتبرة في دراسة تحت عنوان "هل يمكن للتابع أن يتكلم؟"، أن "الصوت" الحقيقي للتابعين، لا يمكن أن يكون مفهومًا بالنسبة للباحثين في دراسات التابع ودراسات ما بعد الاستعمار أنفسهم. وانتهت إلى خلاصة تنطلق من طروحات أنطونيو غرامشي، بكون الحل يتجسد في أن يكون هناك مثقفين ينبثقون من داخل الجماعة، لاستعادة وعي التابع[6].

المفكرة النسوية والناقدة الأدبية غياتري سبيفاك

على العموم، فإن سبيفاك مثلها مثل سعيد، ومعظم الباحثين في حقل ما بعد الاستعمار، كتبت باللغة الأكاديمية للمركز الاستعماري، كما عملت في مؤسسات عريقة داخل النظام التعليمي الخاص به. وهو ما فتح الأسئلة عن علاقة "نخبة" دراسات ما بعد الاستعمار ونظرية التابع، مع "التابعين" ومع مجتمعاتهم التي كانت خاضعة للاستعمار، وإن كانت تعيد إنتاج علاقة السلطة نفسها، التي يقومون هم أنفسهم بنقدها[7].

اقرأ/ي أيضًا: باختصار شديد.. ماذا تعني "ما بعد الحداثة"؟

من جهة أخرى، فقد تم انتقاد هذا النموذج من قبل منظري "دراسات الاستعمار الاستيطاني"، الذين اعتبروا أن تصنيف مناطق عديدة في العالم مثل الولايات المتحدة وأستراليا وكندا ونيوزلندا وفلسطين، في إطار الوصف "ما بعد الاستعماري"، سيتجاهل آليات الهيمنة المستمرة، التي يقوم بها الاستعمار القائم، والذي ليس مجرد جزء من الماضي، وإنما بنية مستمرة[8].

يصعب التعامل مع "دراسات ما بعد الاستعمار" كحقل  أو تخصص أكاديمي، بقدر ما يمكن التعامل معها، كتصور فكري، مهتم بتفكيك علاقات القوة والسلطة التي نشأت في خضم فترة الاستعمار

كما تم انتقاد تركيز دراسات الاستعمار الاستيطاني على عمليات التمثيل، باعتبار أن الاستعمار وآثاره ليسا مجرد تجليات لغوية، وعلاقات سلطة رمزية، ولكنهما جزء من الواقع المادي، المنطوي على تدخل عسكري وفرض وصايات اقتصادية وعسكرية[9].

 


المصادر:

[1] سعيد، إدوارد (1981). الاستشراق.. المعرفة، السلطة، الإنشاء. ترجمة كمال ديب. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية. 

[2] Childs, P., & Williams, P. (2014). An introduction to post-colonial theory. Routledge

[3] Tiffin, H. (1988). 3. Post-colonialism, post-modernism and the rehabilitation of post-colonial history. The Journal of Commonwealth Literature, 23(1), 169-181

[4] Prakash, G. (1994). Subaltern studies as postcolonial criticism. The American historical review, 99(5), 1475-1490

[5] Ibid.

[6] Spivak, G. C. (1988). Can the Subaltern Speak?’ in "Cary Nelson and Lawrence Grossberg (eds) Marxism and the Interpretation of Culture". London: Macmillan

[7] Sarkar, S. (2002). The decline of the subaltern in subaltern studies. Reading subaltern studies: Critical history, contested meaning and the globalization of South Asia, 400-429

[8] Veracini, L. (2016). Facing the settler colonial present. In The limits of settler colonial reconciliation (pp. 35-48). Springer, Singapore

[9] Parry, B. (2004). Postcolonial studies: A materialist critique. Routledge

 

اقرأ/ي أيضًا: 

باختصار.. ما معنى الصواب السياسي؟