11-نوفمبر-2019

طيلة سنواتٍ مضت، منذ أن طوى لبنان حقبة الحرب الأهلية، ودخل، بغير إرادته، حقبة التوتّرات السياسية الداخلية والتجاذبات الطائفية التي أرست سلمًا أهليًا هشًّا، ضمن بيئة متوتّرة، ومُحيط؛ كانت الحياة الثقافية اللبنانية تُحاول أن تضع حدودًا وحواجز بين الثقافة والسياسة بغية ضمان الاستمرارية وعدم الغياب، وذلك من خلال المعادلة التالية: الثقافة بخير، ولكن في بلدٍ ليس بخير.

حافظت الحياة الثقافية اللبنانية خلال السنوات الثمانية الماضية على وجودٍ خجول، وبمستويات ضعيفة

بالمُجمل، كانت المؤسّسات والفضاءات الثقافية التي أسّست المعادلة المذكورة أعلاه، دون تخطيطٍ مُسبق، وبعفوية شبه كاملة؛ تًحاول أن تخلق مكانًا أو جانبًا معنيًا بالحياة، وإن ضمن حدودٍ ضيّقة وصغيرة. ذلك أنّ الأولوية ليست للمساحة، إنّما لقدرة المكان على عزل روّاده ومن يقصده عن المُحيط المتوتّر، لا سيما بعد اندلاع الثورة السورية، ودخول البلاد في أتون حرب مُلتهبة، وصلت ارتداداتها إلى لبنان سريعًا، فكانت أقرب إلى القشّة التي قصمت ظهر البعير، ورفعت منسوب التوتّرات الداخلية، وصنعت المزاج السياسيّ العام الذي تتولّى إدارته أطراف منقسمة ومتناحرة على أساساتٍ مذهبية ومنطلقاتٍ طائفية، دفعت بالبلد إلى الوقوف على "كفِّ العفريت" مُجدّدًا.

اقرأ/ي أيضًا: مهرجان بيروت للصورة.. مدينة مفتوحة على مزاج العدسات

الأولوية إذًا لم تكن للشكل بقدر ما كانت للمضمون، يُضاف إليه الاشتغال على توفير مناخات وأجواء مُغايرة ومضادّة للأجواء السائدة. وعبر هذه الأولوية، حافظت الحياة الثقافية اللبنانية خلال السنوات الثمانية الماضية، لا سيما في الفترة الممتدّة بين أواخر سنة 2013، ومطلع 2015، على وجودٍ خجول، وبمستويات ضعيفة، ولكنّه أفضل من الغياب. فالمشهد لم يكن بكامل عافيته، في ظلّ إلغاء نشاطاتٍ وغياب أخرى بسبب الأوضاع السياسية والأمنية السلبية التي مهّدت لأوضاع اقتصادية قاسية تبلغ اليوم ذروتها. والنتيجة، موجة احتجاجات شعبية عطّلت إلى حدٍّ ما، مختلف جوانب الحياة في لبنان. وللثقافة التي حافظت على تواجد جيّد هذه السنة، رغم التحدّيات المتعلّقة بمشاكل التمويل، وتراجع مستوى الحرّيات؛ نصيب ليس بقليل، وتكاد تكون شبه متوقّفة، إن لم تكن كذلك فعلًا.

خلاصة القول إنّ الموسم الثقافي لعام 2019 طوى صفحته قبل أوانها، ودون أن يستكمل ما تبقّى من نشاطاتٍ مُسجّلة على روزنامته. صحيح أنّ أغلب النشاطات أُقيمت في المواعيد المُحدّدة، وفي ضوء أزمة اقتصادية تتزامن مع تراجع مستوى الحرّيات. إلّا أنّ القطار فات بعض الأنشطة، في الوقت الذي توقّفت فيه أنشطةٍ أخرى كانت قد انطلقت بالتزامن مع الاحتجاجات الشعبية، وإلى أجلٍ غير مسمّى. واستكمالًا لكبح عجلة الحياة الثقافية، أعلن كلّ من "النادي الثقافي العربي"، و"نقابة اتّحاد الناشرين في لبنان" عن تأجيل دورة العام الحالي من "معرض بيروت العربي والدولي للكتاب" إلى تاريخ الثامن والعشرين من شباط/ فبراير 2020. بعد أن كان مُقرّرًا عقده في الثامن والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي.

من أجواء بيروت (الصورة لـ دار المصوّر)

تأجيل الدورة الثالثة والستّين من معرض بيروت الدولي للكتاب، يؤكّد أنّ البيئة والأجواء المطلوبة لعقد أي نشاطاتٍ ثقافية مُشابهة غير متوافرة حاليًا. بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية التي تأخذ منحىً تصاعديًا، واستمرار الحراك الشعبيّ. ما معناه أنّ تأجيل النسخة الحالية من الحدث السنوي، جاء بمثابة تصريح بانتهاء الموسم الثقافي للعام الحالي، لا سيما وأنّ نشاطاتٍ عديدة ومختلفة كانت قد سبقت عميد المعارض العربية لجهة التأجيل، كـ "ملتقى أشغال داخلية: منتدى عن الممارسات الثقافية"، بالإضافة إلى مهرجان "موسيقات بعبدات"، ومهرجان "بيروت ترنّم" الذي ألغى نسخة السنة الحالية، دون تحديد موعدٍ بديل. بينما أعلن مهرجان "بيروت السينمائي الدولي" عن تأجيل نسخة 2019 التي كانت ستنطلق مطلع تشرين الأول/ أكتوبر الفائت. ويُذكر أنّ المهرجان كان قد أجّل نسخة عام 2018 أيضًا، وأقامها أواخر نيسان/ أبريل الفائت من العام الحالي. وبالتالي، يربط كلّ ما سبق ذكره مصير ما تبقّى من نشاطاتٍ ومهرجاناتٍ ثقافية على روزنامة بلاد الآرز، بما تحمله الأيام المقبلة من تطوّراتٍ قد تدفع نحو المزيد من التأجيل، أو تكبح جماحهُ.

لا وجود لأي أنشطةٍ أو فعالياتٍ جديدة، في حال استمرّت الأحوال على ما هي عليه الآن. بمعنى أنّ الموسم الثقافي انقضى قبل أوانه، وقبل انقضاء العام نفسه. ولكن ليس بجعبةٍ فارغة، وإنّما بقائمةٍ طويلةٍ من المهرجانات والعروض المسرحية والموسيقية والندوات والمعارض الفنّية الممتدّة على أمكنةٍ وفضاءات متعدّدة، داخل بيروت وفي مدنٍ لبنانية أخرى. أُقيمت أغلب نشاطات العام الحالي في الموعد، كـ"معرض الكتاب الفرنكفوني" و"المهرجان اللبناني للكتاب"، و"أيام بيروت السينمائية". كما تابعت سينما متروبوليس أمبير صوفيل استضافة "مهرجان السينما الأوروبية"، و"ملتقى بيروت السينمائي"، بالرغم من أزمتها المالية.

تأجيل الدورة الثالثة والستّين من معرض بيروت الدولي للكتاب، يؤكّد أنّ البيئة والأجواء المطلوبة لعقد أي نشاطاتٍ ثقافية مُشابهة غير متوافرة حاليًا

موسيقيًا، أُقيم مهرجان "البستان" في موعده، تلته النسخة الثالثة من "ارتجال"، و"بيروت للجاز" أمّا مصير "بيروت آند بيوند" المزمع انطلاقة نسخته السابعة مطلع كانون الأول/ ديسمبر القادم، فلا يزال مجهولًا. وفي ما يخصّ الفعاليّات الجديدة، كنّا على موعدٍ مع الدورة الأولى من "مهرجان بيروت للصورة". بعيدًا عن المهرجانات، كانت دار النمر للثقافة والفن قد استضافت معرضًا محوره صورة العرب في السينما العالمية. بينما استضاف مسرح المدينة عرضًا للكوريغراف علي شحرور تحت عنوان "ليل". أمّا غاليريات الفنّ، فكانت على موعدٍ مع معارض مميّزة لأسامة بعلبكي، ونزار ضاهر، ومحمد الرواس، ومحمود حجيج، وحسين ماضي، وتمارا السامرائي، وغيرهم من فنّانين لبنانيين وعرب.

اقرأ/ي أيضًا: أزمة مارسيل خليفة.. عن حرية الغناء في زمن الزبالة والكهرباء المقطوعة

أدبيًا، لا يمكن الوصول إلى إحصائية متكاملة بسبب تأجيل معرض بيروت الدولي للكتاب، باعتباره مناسبة تنتظرها عادةً دور النّشر اللبنانية لإفراغ ما في جعبتها من إصداراتٍ جديدة. ولكن، من خلال عودة سريعة إلى الوراء ونظرة خاطفة، سنجد الإصدارات التالية: "أولاد الغيتو- نجمة البحر" إلياس خوري، و"مستر نون" لنجوى بركات، و"ملك الهند" لجبّور الدويهي، و "خطأ غير مقصود" لرشيد الضعيف، و"حديقة الأمس" لبول شاوول، و"وجوه مضيئة في تاريخنا" لكريم مروة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مهرجان بيروت للرقص المعاصر.. احتفاء مستمر بالجسد

مهرجان "كرامة - بيروت": سينما الإنسان وحقوقه