22-نوفمبر-2023
(Getty) مظاهرة في الكويت

(Getty) مظاهرة في الكويت

تصطف الغالبية الساحقة من شعوب الخليج العربي مع القضية الفلسطينية، وتعتقد أنها قضية كل العرب، وترفض التطبيع مع الاحتلال الإسرائيليين، لكن هذا لا يخفي وجود خطاب معاد للقضية الفلسطينية يشغل حيزًا من الفضاء العام في وسائل التواصل الاجتماعي في الخليج، ويتوسع أحيانًا وينكمش أحيانًا أخرى بناء على الظروف وردات الفعل.

تسبر هذه المقالة أقسام الخطاب المعادي للفلسطينيين أو القضية الفلسطينية في الخليج العربي، موضحة تاريخ هذا الخطاب وأسباب تسربه إلى الخليج، محاولة تقديم صورة بانورامية عن هذا الخطاب وتأثيره.

ثلاثة مدارس معادية للقضية الفلسطينية في الخليج

تنقسم الخطابات المعادية للقضية الفلسطينية أو الفلسطينيين في الخليج العربي إلى ثلاثة أقسام، الأولى هي الصهيونية الليبرالية، والثاني هي الجامية الدينية، والثالثة هي الانعزالية الخليجية.

المدرسة الأولى المعادية للفلسطينيين في الخليج هي الصهيونية – الليبرالية، وهي مدرسة رغم وجود بعض هاماتها في وسائل الإعلام الكبرى في المنطقة، وامتلاكهم حرية الكتابة والخروج في اللقاءات التلفزيونية، إلا أنها معزولة وهامشية وغريبة عن غالب ألوان التيارات السياسية والفكرية في الخليج العربي، من اليسار حتى أقصى اليمين.

تقوم أفكار الصهاينة الليبراليين على هجين غريب من ادعاء تقديس الحريات الفردية وأبرزها حرية العبادة، والافتتان بصورة الغرب الكلاسيكي الأبيض بقوته الصناعية والعسكرية والمالية

تقوم أفكار الصهاينة الليبراليين على هجين غريب من ادعاء تقديس الحريات الفردية وأبرزها حرية العبادة، والافتتان بصورة الغرب الكلاسيكي الأبيض بقوته الصناعية والعسكرية والمالية، ورفض حركات ما بعد الاستعمار واليسار الغربي والحركات التقدمية، مقدسًا منطق القوة، متشككًا في الديموقراطية، ومحتقرًا ذاته العربية وكل ما يمت لها بصلة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

السلفية الجامية والمقاومة

المدرسة الثانية هي السلفية الجامية، والتيار الجامي هو تيار سلفي يعلي من مبدأ طاعة ولاة الأمور ويقدمها على ما سواها، ويعادي حركات الإسلام السياسي التي تطمح بالتغيير، كما يعادي الإسلام السياسي الذي وصل للحكم في عدد من البلدان العربية والإسلامية.

لا يعادي الجامية الفلسطينيين، لكنهم يعادون المقاومة الفلسطينية، بل إن جزءًا كبيرًا من خطاب الجامية يقوم على الدفاع عن الفلسطينيين في وجه "مغامرات المقاومة"، أما أسباب معاداتهم للمقاومة فعديدة لكن أهمها انتماء الفصيل الأكبر للمقاومة لحركة الإخوان المسلمين، وهي حركة إسلام سياسي يراها الجامية خطرًا أكبر على الأمة سياسيًا وعقديًا.

أحد الأسباب هو تقاطع المقاومة مع المحور الإيراني في بعض القضايا، وحصولها على دعم مالي أو سلاح منها، ووجود خلل عقدي لدى المقاومة، متعلق باعتناقها لأفكار الخوارج أو الأشاعرة.

ورغم أن كل أسباب نقد الجامية لحركات المقاومة موجودة في حكومات الدول التي يطالب الجامية بطاعتها واحترام خياراتها السياسية الداخلية والخارجية، من التعامل مع "الكفار والمبتدعة" سياسيًا وموالاتهم وتشكيل تحالفات معهم، إلى وجود خلل عقدي في حكومات المنطقة – كما يعترف الشيخ عبد العزيز الريس- إلا أن الجامية يكيلون بمكيالين في التعامل بين الحكومات وبين حركات المقاومة؛ "التي تحكم غزة بحكم الأمر الواقع ومبدأ التغلب فيفترض أن تجري عليها قواعد طاعة ولاة الأمر"!

ولا يقدم الجامية أي حل سياسي أو واقعي للقضية الفلسطينية، بل يطالبون المقاومة بعدم تحدي "إسرائيل"، وعدم خوض معركة معها، والصبر والتهذيب العقدي حتى يأتي فرج الله.

يحظى هذا التيار بوجود كبير في العالم العربي والإسلامي، ويتواجد حتى في فلسطين والأردن، أما وجوده في الخليج، فهو كبير ومنتشر في المساجد وحلقات العلم حول بعض رموز هذا التيار.

المدرسة الثالثة المعادية للفلسطينيين والقضية الفلسطينية، وهي الأكثر انتشارًا من غيرها، والأكثر ظهورًا في الساحة، وإثارة للنقاش هذه الأيام، الانعزالية الخليجية.

ظهور الخطاب الانعزالي في الخليج

بداية يجب علين أن نعرف أن الأفكار الانعزالية لم تحظ برواج في الخليج العربي سابقًا، بل على العكس كانت الأسر الحاكمة في الخليج، ولأسباب متنوعة، تقاتل لإثبات أنها جزء من العالم العربي الآخذ بالتشكل في بدايات القرن العشرين، وكان مثقفو الخليج والجزيرة العربية، يعتنقون الأفكار الوحدوية، سواء كانت إسلامية أم قومية.

بدأت الأفكار الانعزالية العربية في الدول المحيطة في فلسطين، والتي حاولت إحياء ماض متخيل لها في مواجهة سيل المهاجرين الفلسطينيين، أو مواجهة القضية الفلسطينية، أو التخلص منها، كما هو الحال مع الانعزالية في لبنان ومصر، والشوفينية في الأردن.

في كل خطاب انعزالي أو شوفيني لا بد من شرير يوجه إليه اللوم، وسرديات يقوم عليها هذا خطاب اللوم والتشنيع والشيطنة.

الشرير الذي يوجه إليه في الخطاب الانعزالي هم الفلسطينيون، أما السرديات التي بني عليها خطاب الشيطنة فهي مجموعة من الأكاذيب الممجوجة منها أن الفلسطينيين باعوا أرضهم إلى اليهود، وأنهم قاموا بالهروب وعدم المواجهة، وأنهم يسعون لإسقاط الأنظمة التي يعيشون في ظلها كلاجئين.

تلاشى الخطاب الانعزالي في الكويت إلى درجة كبيرة بفعل قوة الإسلام السياسي في البلاد، وإبعاد الغالبية الساحقة من الفلسطينيين عن الكويت بعد عام 1991

ركز الخطاب الانعزالي العربي في هذه البلدان، أي لبنان ومصر والأردن، على القضية الفلسطينية لأسباب، منها الوجود الفلسطيني الكبير في أراض تقع تحت سيطرة هذه البلدان، وسهولة استهداف الفلسطينيين لعدم وجود قيادة واضحة لهم يمكن من خلالها الفصل بين "موقف الشعب وموقف الحكومة".

انتقل الخطاب الانعزالي بشكل جزئي إلى الخليج العربي بعد الغزو العراقي للكويت عام 1990 وما تبعه من قيام صدام حسين بربط انسحابه من الكويت بانسحاب "إسرائيل" من فلسطين، ووقع هذا الإعلان على الشعب الفلسطيني الذي أيدت قطاعات منه موقف منظمة التحرير الفلسطينية الرسمي بقيادة ياسر عرفات الداعم لصدام حسين، والشعوب العربية التي خرجت جماهير كبيرة منها في الشوارع اعتراضًا على دخول التحالف الدولي بقيادة القوات الأمريكية لتحرير الكويت وطرد الجيش العراقي منها.

أثرت هذه المواقف على النخب المثقفة بشكل كبير، كما أثرت على قطاع من الجماهير في الكويت والخليج العربي، وكفرت نخب كثيرة بالقومية والوحدة العربية التي رأوا آثارها الدموية في غزو صدام للكويت، وبدأت الأسئلة تطرح بشكل كبير حول العرب وهويتهم وهل هؤلاء الذين رفضوا تحرير الكويت عرب حقيقيون أم نحن سكان الجزيرة العربية!

رغم بروز هذا التيار الانعزالي، وتركزه بشكل رئيس في الكويت، وما يلحقه كل تيار انعزالي عربي من كراهية للقضية الفلسطينية، إلا أنه لم يكن ذا أثر كبير في تسعينيات القرن الماضي في الخليج، لأسباب كثيرة منها رفض الحكومات الخليجية له، والتي كانت حريصة على الفصل بين موقفها من ياسر عرفات وموقفها من القضية الفلسطينية.

مع مرور السنوات تلاشى الخطاب الانعزالي في الكويت إلى درجة كبيرة بفعل قوة الإسلام السياسي في البلاد، وإبعاد الغالبية الساحقة من الفلسطينيين عن الكويت بعد عام 1991، وبالتالي انعدام وجود احتكاك مباشر بينهم وبين الكويتيين، لينتقل الخطاب الانعزالي إلى السعودية، حيث استخدمت الأفكار الانعزالية كمنظومة معرفية لمواجهة تيار الصحوة الدينية العابرة للحدود، وكان الكثير من شبابها يتسرب منها منخرطا في الحركات الجهادية في أفغانستان والعراق مطلع الألفية، ثم سوريا فيما بعد.

كما أدى وجود أعداد كبيرة من الفلسطينيين، والجنسيات العربية الأخرى في السعودية، وشغلهم لوظائف يمكن للمواطن السعودي شغلها، مع ارتفاع نسبة البطالة (بالمقارنة مع دول الخليج) إلى زيادة هذه الأفكار الانعزالية وإيجاد مبرر اقتصادي لها يتعلق بحياة الناس اليومية، وهو ما كان يحدث في المجتمعات التي كان لها السبق في هذه الأفكار مثل لبنان والأردن ومصر.

ولا يخفى أن لبعض المواقف "الاحتقارية" من قبل المثقفين الفلسطينيين اليساريين على وجه الخصوص تجاه حكومات الخليج وشعوبه، وبعض التعليقات المرتكزة على الإهانات العنصرية، أو المظاهرات التي تٌحرق فيها صور ملوك وأمراء وأعلام دول الخليج، دور مهم في تذكية هذه الروح الانعزالية، وإعطاء مبرر لكبار الانعزاليين في الخليج في محاولة التأكيد على صحة وجهة نظرهم.

ختامًا

إن القاعدة المنطقية تقول بأن الحكم عن الشيء فرع عن تصوره، ومحاولة فهم حجم وتشكل وتاريخ هذه المدارس المعادية للقضية الفلسطينية أو الفلسطينيين في الخليج، ضرورة للفلسطينيين والخليجيين والعرب بشكل عام، للابتعاد عن الصور المقولبة عن الآخر، ومحاولة الفهم والتثبت، وبالتالي الحكم على وزن هذه التيارات، ثم وتطوير آليات دعم ومساندة القضية الفلسطينية على مختلف المستويات، بدلًا من الانجرار للسجالات الكلامية ومعاجم السباب على وسائل التواصل الاجتماعي من كل الأطراف.