17-نوفمبر-2023
(تصوير: بلال خالد) غزة في زمن سابق

(تصوير: بلال خالد) غزة في زمن سابق

مفاجآتٌ لا تُفاجِئ

لمَ يتفاجأ البعض من الأكاذيب الإسرائيلية؟ ألم تقمْ "إسرائيل" على أكاذيب، أقلها "واحة الديمقراطية"، وأكبرها "أرض بلا شعب"؟ ألم تجد من يُصدّقها؟ ألم يأت من يتبنى تلفيقاتها؟

إذًا، لم يتغير شيء. هؤلاء هم وهذه هي استراتيجيتهم. هؤلاء هم وهذا ما كانوا عليه طوال مائة عام يمكننا اختصارها في مسارين رئيسين: طرد السكّان وسلب الأرض.

وإلى جانب ما عرفته السنوات المائة الماضية من تصاعد في حدّة التوحش والفاشية، ثمة اليوم تصاعد لا سابق له في تاريخ الشرّ من حيث ارتفاع منسوب الكذب، حتى وصل إلى تبرير مهاجمة المشافي بمسرحيات فاشلة، وتجريم الأطفال من القيادة السياسية بوقاحة لم تعرفها حتى أدبيات المهووسين، إذ خرج رئيس دولة الاحتلال وأعلن أنه عُثر على كتاب هتلر في غرف الأطفال، بمعنى أن من يقرأون هذا الكتاب يجب أن يموتوا.

لم يتغير شيء. هؤلاء هم وهذه هي استراتيجيتهم. هؤلاء هم وهذا ما كانوا عليه طوال مائة عام يمكننا اختصارها في مسارين رئيسين: طرد السكّان وسلب الأرض

كل ذلك، بالإضافة إلى غباء الناطق الرسمي باسم جيش الاحتلال حين ادعى أنّ التقويم المعلق على حائط في المستشفى هو لائحة للإرهابيين؛ يجعلنا ننظر إلى الخلف باحترام وتقدير لكل الكذب الذي عرفناه من إعلام النظام السوي الذي وصف المظاهرات المعارضة بأنها لشكر السماء على المطر، وإلى عالم محمد سعيد الصحاف، ومعه الإعلام الحربي العراقي الذي أراد أن يقنعنا، خلال حرب احتلال العراق عام 2003، أن فلاحًا بسيطًا أسقط طائرة أباتشي أمريكية ببندقية تعود إلى الحرب العالمية الأولى.

من تراث أكاذيب الاحتلال

هناك حوار أجرته إذاعة جيش الاحتلال الإسرائيلي التي كانت تبث باللغة العربية يؤكد أن الكذب والتزوير ليسا بجديدين، بل هما من صميم عمل مؤسسات الاحتلال. وكي نُبقي على حالة الاتصال بين جريمة اليوم وجريمة الأمس، علينا أن نستعيده ونتمعن فيه لنؤكد أن الفبركات والأكاذيب والافتراءات الحالية استمرار لسياسة راسخة. اقتبس الحوار عدة مفكرين وباحثين وتوقفوا عنده، كإدوارد سعيد في كتاب "ما بعد السماء الأخيرة"، لكننا ننقله عن الصيغة المختصرة التي أوردها كتاب "ديمومة المسألة الفلسطينية" لجوزيف مسعد:

"المذيع: قل لي يا أبو الليل، لأي منظمة تخريبية تنتمي؟

الأسير: أنا أنتمي للجهة الشعبية لتحرير، أقصد لتخريب فلسطين.

المذيع: متى انتميت لهذه المنظمة التخريبية؟

الأسير: عندما بدأت أفهم معنى التخريب.

المذيع: وماذا كانت مهمتك في جنوب لبنان؟

الأسير: كانت مهمتي الإرهاب.. كنا مثلًا ندخل القرى ونبدأ بالترهيب، وحيث وجدنا نساء وأطفالًا كنا نبدأ بترهيبهم. كل ما فعلناه هو الإرهاب.

المذيع: وهل مارست الإرهاب نتيجة إيمانك بقضية ما، أم فقط من أجل المال؟

الأسير: لا والله، مارسته من أجل المال، ما هي هذه القضية على أي حال؟ ولماذا؟ وهل ما زال هنالك قضية؟ لقد بعناها منذ زمن طويل..

المذيع: ما هو رأيك بالطريقة التي تعاملكم بها قوات الدفاع الإسرائيلية؟

الأسير: بشرفي، نشكر قوات الدفاع الإسرائيلية على معاملتهم الطيبة لكل إرهابي".

جبهة الحقيقة

يجب أن يكذبوا بهذه الكثافة، وعلى كافة المستويات، من الرئيس إلى الناطق الرسمي باسم الجيش وصولًا إلى المستوطن، ومن الصحافة إلى السوشيال ميديا، ومن اليمين الفاشي إلى اليسار المتلاشي.

ليس أمامهم خيار فالكذب هو حصنهم الأخير، ولذلك حين تكسر الرهينة المسنة، المفرج عنها، الرواية الرسمية بحديث عن تعامل إنسانيّ، تمنى جمهورهم العام لو أنها بقيت عند آسريها.

لم يتوحدوا من الموقف من الحرب وحسب، بل اتحدوا في ابتكار الكذب. ثم لماذا لا يكذبون والدول الكبيرة أعلنت تضامنها الكامل والمفتوح معهم، وألبست أبرز مبانيها ألوان علمهم؟ ولماذا لا يكذبون وهذا الدعم الهائل بمثابة صك براءة، ليس لما فعلوه منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، بل لكل ما فعلوه منذ عشية حرب 1948؟

يجب أن يكذبوا لأن هناك تهديدًا يطال "البيت"، كما يقولون. ولأنه يجب تحويل الهزيمة إلى نصر كي تُستعاد الهيبة. ويجب إحياء أسوأ ما في تراث كراهية العرب والمسلمين كي يُحاصر التضامن وكي يُرهب المتضامنون. هذا غير أنهم أصحاب مشروع إلهيّ يفترض بشكل حتمي أن من يعيقونه من أنصار للشيطان.

يعمل الإعلام الغربي على صناعة القبول والموافقة، من خلال الكذب ومخاطبة العواطف الدينية والخوف من الآخر والعنصرية وتجزيئ القضايا ونزع السياقات

كذب في التصريحات السياسية، وفي التقنيات الحديثة من ذكاء اصطناعي وتزييف عميق، وتمثيل سخيف وديكورات مصطنعة، إلى جانب دعم من منابر إعلامية وصحفية كبرى، وتبنٍّ لكل الافتراءات من قادة الدول المهيمنة، وطرد للمذيعين والصحفيين والعاملين في الإعلام والرسامين، وفوق هذا كله هي أكبر حرب يُقتل فيها مراسلون صحفيون.

يعمل الإعلام الغربي على صناعة القبول والموافقة، من خلال الكذب ومخاطبة العواطف الدينية والخوف من الآخر والعنصرية وتجزيئ القضايا ونزع السياقات.

وفي حالتنا اليوم، جرى حصر الحرب بين حماس وإسرائيل، لا بين شعب واحتلال. ثم جرى تحويل الشعب الفلسطيني إلى حماس، وحُوّلت حماس إلى داعش.

هذا كله إلى جانب اللغة التي تستعمل "موت" للفلسطينيين، و"قتل" للإسرائيليين، و"إخلاء" بدلًا من تهجير وترحيل وتطهير عرقي، و"حق الدفاع عن النفس" بدلًا من الإبادة الجماعية.

يفعلون ذلك كله دون كلل، إلا أنّ الفتى عبود، الحالم بأن يكون مراسلًا صحفيًا، يخرج من الموت والظلام والبؤس والفجيعة التي يشيدونها، كي يتحدّث عن الخبز الذي يصنعه بيده، وعن فراغ ثلاجة منزله، ويجعل من ذلك العمل الصحفي البريء روحًا حيّةً، وحقيقة لا تقبل النقاش، ولا تحتاج إلى تمثيل وافتعال ومخرج معتوه.

بينما يُجندون الخبراء والمزورين، ويُجهزون البرامج والمعدات، ويسرقون مشاهد من أمكنة أخرى، يخرج الفتى الصغير بشيئين فقط: الكاميرا وحياته. وبهما تنتصر رواية المغلوبين.