08-نوفمبر-2023
نيويورك تايمز

تنحاز نيويورك تايمز دومًا لرواية الاحتلال الإسرائيلي وتلتزم اللغة التي يفرضها (972Mag)

في مثل هذه الأيام من تشرين الثاني/نوفمبر 2004، نشرت نيويورك تايمز خبرًا يحمل هذا العنوان:

"مراهق انتحاريّ يفجّر نفسه داخل سوق في تل أبيب ويقتل 3".

الصحفي الذي كتب الخبر على وجه السرعة أضاف هذه التفاصيل: "المشهد في سوق الكرمل بدا مروّعًا، فالصناديق متناثرة في المكان تعلوها شظايا معدنية وبينها حبات من الفاكهة المسحوقة في برك من الدم، حيث اختلطت في المكان رائحة الجوافة الحادّة مع النكهة الصدئة للدم والمتفجرات. أحد القتلى سيّدة لها بوتيك ملابس، وقضت مكان زوجها الذي لم يرافقها للعمل بسبب مرضٍ أصابه. ثاني الضحايا صبيّة بدأت العمل مؤخرًا في بيع الأجبان. أما الثالث فهو شمويل ليفي، وعمره 65 عامًا، وهو من يافا".

أما اليوم، وبعد 32 يومًا من مجازر كبرى ضدّ المدنيين في قطاع غزّة، خلت تغطية نيويورك تايمز من أية صياغة خبريّة مماثلة عن الضحايا من المدنيين الفلسطينيين (بينهم زهاء 4000 طفل) تقترب ولو قليلًا مما ناله أولئك الضحايا الثلاثة الذين أبّنهم ستيفن إيرلانغر في تلك القصّة الصحفية. ليس هذا وحسب، بل تعمد ألوية التحرير في الصحيفة عبر التلاعب المستمر بالعناوين والصياغات، المتلبّس بلبوس الصوابية وتحرّي الموضوعية، إلى تأجيج حالة من الشكّ في كلّ ما هو متعلّق بالمأساة المروّعة التي يعيشها سكّان قطاع غزّة والجريمة الإسرائيلية التي يجري ارتكابها في حقّهم منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، هذا عدا عن طوفان من مقالات الرأي التي اتفقت عمومًا على التمهيد لإبادة جديدة بحق سكّان قطاع غزّة، والحرص على تجاهل أصل مأساتهم وعقود القهر الطويلة التي عاشوا خلالها ضروبًا لا حصر لها من المرارة والإذلال والقتل. 

صحيحٌ أن تقييم تغطية نيويورك تايمز للحرب على غزّة يستلزم نظرًا بحثيًا منهجيًا يمكن من خلاله استبيان السمات المشتركة بين أكثر من 27،000 عنوانٍ حول الحرب نشرت خلال الشهر الماضي وما تضمّنتها. رغم ذلك، فإنه ليس هنالك ما يدعو لافتراض أن تتباين خلاصة أي تحليل موضوعي عن الانطباع العام الذي تشكّله الصحيفة في وعي قارئها، بشأن دعمها الذي يبدو مطلقًا للرواية الإسرائيلية عند مقارنته بما يُمنح فيها لأصوات الفلسطينيين. فالفلسطينيون "ماتوا" وحسب كما تخبرنا به عديد العناوين التي طالعناها، أو "يُقتلون" ويحال قتلهم للمجهول بلا استثناء. أما أعداد القتلى منهم فهو دائمًا رهن التحفّظ المتّكئ على عُدّة تخييليّة استشراقية قديمة حول هؤلاء الضحايا، إذ هم وحدهم من يُحتمل عليهم الكذب ويتوقّع منهم ومن أمثالهم التهويل والمبالغة، وهم فقط من يُطالبون بالدليل على قتلهم إذا قتلتهم الذات الغربية/الإسرائيلية/البيضاء. 

ورغم أنّ التعاطي المتشكّك مع أرقام الضحايا الفلسطينيين ومحاولة التعمية على الفاعل في العناوين عبر استخدام صياغات شديدة الالتواء (كهذا العنوان الذي أثار الكثير من الجدل) كانت هي الأمثلة الأكثر وضوحًا على تحيّز نيويورك تايمز ضدّ الفلسطينيين وخشيتها من أن تعتبر متعاطفة معهم حتى لو اكتفت بالموضوعية في تناول ما تتفق الهيئات الإنسانية والمنظمات الحقوقية على وصفه بأنه "عقاب جماعي"، إلا أنّها راحت أبعد من ذلك بمراحل عديدة، حين شرعت مثلًا في نشر عدّة تقارير عن "أنفاق حماس" وكيف أن المقاومة الفلسطينية بحدّ وصف أحدها "تهيمن على مخزن كبير من الموارد (المخزنة تحت هذه الأنفاق)، بينما يعجز أهل غزّة عن العثور على كفايتهم من الطعام". وحين وقعت المجزرة الأولى في جباليا، فأعلنت التايمز في عنوان عاجل أن "إسرائيل تستهدف معقلًا لحماس في منطقة كثيفة في غزّة: المستشفى يتحدث عن العديد من القتلى" (هكذا، بترجمة حرفيّة لبيان المقصود، وهو محاولة الصحيفة دعم الرواية الإسرائيلية بشأن التماهي بين ما هو عسكري ومدني في غزّة، وحقّ إسرائيل في استهداف أيّ شيء في القطاع). 

كما يثبت هذا التعاطي الخطابيّ المتحيّز لإسرائيل في نيويورك تايمز تاريخ الصحيفة الطويل فيما يخصّ القضية الفلسطينية ومشروع دولة الاحتلال الإسرائيلي منذ نشأته الأولى، وعلاقات كبار المحررين فيها مع كبار المسؤولين في إسرائيل والشخصيات المقرّبة من لوبيات دعمها في الولايات المتحدة وخارجها، واعتبارها لدى صانع القرار الإسرائيلي ومنذ عقود طويلة وسيلة الإعلام الأهم التي يجب التفكير دومًا بكيفية التعامل معها واحتوائها، بحسب ما يذكره زيف شافيتز، المستشار الإعلامي لمناحيم بيغن في السبعينات ورئيس مكتب الإعلام الحكومي في ديوانه. يكفي أن نذكر من هؤلاء رئيس تحرير نيويورك تايمز في تلك الفترة ذاتها "أبراهام روزنتال" أحدّ أشدّ المتطرفين في دعمهم لإسرائيل، إضافة إلى خلفه ماكس فرانكل، والذي شغل منصب المحرر التنفيذي العام في نيويورك تايمز خلال فترة الانتفاضة الأولى، والذي كان أشدّ ولاءً لإسرائيل، حتّى أنّه قال في مذكّراته: "لقد كنت مكرّسًا نفسي لإسرائيل إلى حدّ فاق قدرتي على التعبير عنه" (بحسب ما ينقلها إريك ألترمان في هذا المقال، ويتوسّع في عرض أمثلة أخرى في كتابه "We Are Not One" (ص235 وما بعدها))

هكذا مثلًا تتكتّم الصحيفة طويلًا على مصطلحات أساسية ذات علاقة بالقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني وأرضه، في مقدّمتها كلمة "النكبة"، التي لم تظهر في أي مقال في نيويورك تايمز إلا عام 1998، وضمن ملفّ خاص في الذكرى الخمسين لتأسيس دولة الاحتلال، رغم شيوع الكلمة وانتشارها في الخطاب العام في الولايات المتحدة فيما يتعلق بفلسطين، ولاسيما في الأوساط الأكاديمية وبين الطلبة في الجامعات (المصدر). وقد ظلّت الكلمة حبيسة المخزن التحريري في التايمز، وبما يعكس غيابها المطلق في البيت الأبيض والإدارات الأمريكية المتعاقبة، وغياب هذه الكلمة في التايمز، وهي الصحيفة السائدة، يعني غيابها في النقاش الصحفي السائد/العام، على اعتبار أنّها الصحيفة التي لها نصيب غير قليل في تشكيل هذا السائد وتحديد المفردات و"اللغة الصحيحة" التي يجدر اللجوء إليها أولًا لتوصيف القضايا الراهنة. ينسحب ذلك أيضًا على كلمة أخرى تختصر سمة الحروب الإسرائيلية على الفلسطينيين (وغير الفلسطينيين) وشكلها، بالنظر إلى أنّها تعتمد أساسًا على استخدام القوّة المفرطة على نحو لا يفرّق بين مدني وغيره. فسياسة التحرير في نيويورك تايمز تتجنّب دومًا وبلا انقطاع وصف أي قصف إسرائيلي بأنه "عشوائي/بلا تمييز" (indiscriminate)، وذلك منذ الثمانينات، حين شطب المحرّر الكلمة من مقال لتوماس فريدمان (وهو من هو في صهيونيته) حول القصف الإسرائيلي على بيروت وحصاره لها عام 1982 (وهي إحدى لحظات التحوّل في الخطاب الغربي المتعلق بالفلسطينيين كضحايا)، ووصولًا إلى هذه الحرب الغاشمة على غزّة، والتي قتلت فيها إسرائيل زهاء 10،000 من الفلسطينيين، نصفهم تقريبًا من الأطفال، وهم جميعًا وفي الحالتين وما عداهما محض موضوعات عابرة، غير مؤهلين بما يكفي لحقّ التفهّم أو لذلك القدر من التعاطف العميق الذي يستحقّه الإسرائيلي/الأبيض.

ولا يعفي نيويورك تايمز بطبيعة الحال أنها تنشر من حين لآخر- وبعد تفتيش وتمحيص وغربلة وقفز على حواجز تفتيش صوابية وخطابية وقانونية مرهقة- مقالات وتقارير وقصصًا صحفية أكثر موضوعية واتّزانًا، تتضمّن نقدًا لسياسات الاستيطان وعنف المستوطنين والتطرّف الصهيوني، أو تصف صنوف المعاناة التي يعاني منها الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزّة، سواء خلال الشهر الماضي منذ السابع من أكتوبر (كهذا المقال الهامّ عن الشهيد الشابّ "عطية النباهين" الذي أقعده الاحتلال برصاصه قبل تسعة أعوام، قبل أن ينال منه أخيرًا وعائلته في قصف منزله في مخيم البريج وسط قطاع غزّة) أو في فترات سابقة (كهذا التقرير المصوّر عن عدد من الشهداء الأطفال الذين قضوا في الحرب الماضية على غزّة عام 2021، والذي أثار انتقادات كثيرة من جماعات ضغط في الولايات المتحدة وحملات لمقاطعة الصحيفة). فهذه المواد لا تشكّل إلا استثناء مشروطًا عند مقارنتها بمجموع ما تنشره الصحيفة من موادّ تصطف بجانب الاحتلال وتبرّر الحرب على الفلسطينيين وتتربّص بأي خطأ أو شبهة لدى أصحاب الأرض وتعرضها كحقائق بعد تلقّفها من المؤسسة الرسميّة في دولة الاحتلال أو من ألسنة داعميها في البيت الأبيض. كما يتّضح ذلك أكثر عند النظر لا إلى ما يُكتب وحسب، بل ومن يكتبه أيضًا وهويّته ولونه، إذ لا تتجاوز نسبة ما يكتبه فلسطينيون من مقالات الرأي عن فلسطين/إسرائيل 2 بالمئة من مجموع المقالات التي تنشر في هذا الموضوع، وحتى هؤلاء واختيارهم يمرّ على مفرزة صارمة لضمان الامتثال ممّن يُقبل منهم انتقاد إسرائيل والتأكّد من استخدامهم تلك "اللغة الصحيحة" حين يفعلون ذلك. فإدارة التحرير في نيويورك تايمز تلتزم بسياسة صارمة تقضي بتجنب التعاون مع أي كاتب ذي موقف أساسي مناهض للاحتلال الإسرائيلي، وقمع أية حالة تضامنيّة تنشأ بين كوادرها مع الفلسطينيين ونضالهم، مثلما حصل قبل أيام مع الكاتبة المرموقة جازمين هيوز، والتي طلبت منها الصحيفة الاستقالة بعد أن وقّعت مع آخرين على عريضة تصف ما يقع على قطاع غزّة بأنه "محاولة إبادوية ضد الشعب الفلسطيني"، وأنّ الحرب "لم تبدأ في السابع من أكتوبر" بل تعود قصّتها إلى لحظة سرقة الأرض التي كان يقطنها غالبية سكّان القطاع اللاجئين قبل طردهم وتهجيرهم عام 1948.

يلزم القول أخيرًا أنّ إصرار نيويورك تايمز وغيرها من الصحف ووسائل الإعلام الغربية على "غسل" الجرائم الإسرائيلية صحفيًا، ومسايرتها خطابيًا من أجل الحدّ من دواعي إدانتها ومحاسبتها وإرغامها على وقف حربها الدمويّة ضدّ الفلسطينيين، يكشف عن الحدود المتوقّعة للمعايير المهنية المدّعاة في الإعلام الغربيّ السائد كما تمثّله التايمز- التي تعملقت في السنوات الماضية حتى باتت أشبه بمنصّة تواصل اجتماعي في فرط تأثيرها وحضورها عالميًا- كما يدلّل على حجم الإشكالات التي يجدر فحصها في كلّ عنوان وقطعة صحفية يجري تناول الفلسطينيين وقضيتهم عبرها، والتي يمكن بثقة القول أنّها تحرص دومًا على تمثيلهم كموضوعات متباينة في قيمتها وفعاليتها عن المستعمر الإسرائيلي وغير متساوية معه، أو الحرص في حال لزم شكليًا تمثيلهم كبشر وضحايا ضمن استثناءات محسوبة، على أن يكونوا غير مرئيين قدر ما أمكن، خاصة في السياقات التي يستأثر بها الإسرائيلي مطلقًا على استحقاق التعاطف والحقّ الحصري في "الانتقام".