06-مارس-2023
المفكر العربي عزمي بشارة وكتابه في الإجابة عن سؤال: ما السلفية؟

المفكر العربي عزمي بشارة وكتابه في الإجابة عن سؤال: ما السلفية؟

قدّمنا في مقالة سابقة مراجعة مفصلة للفصل الأول من كتاب المفكر العربي عزمي بشارة "في الإجابة عن سؤال: ما السلفية؟"، الصادر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" عام 2019. وهذا المقال مراجعة مفصّلة لبقية فصول الكتاب "عن التكفير"، و"السلفية والحركات الإسلامية"، و"الوهابية في هذا السياق".

ارتبط التكفير في بداياته بـ "الخوارج"، الذين استندوا في إطلاق أحكامه إلى اعتقادهم بأن الإيمان حقيقة شاملة لا تقبل التجزئة، وأن ارتكاب الفرد لأي معصية من المعاصي يُعدّ سببًا كافيًا لتكفيره ما لم يتُبْ، على أن يُقتل بوصفه كافرًا مرتدًا في حال رفضه التوبة. واستنادًا إلى هذا الاعتقاد الذي لا يميّز بين الكفر والإثم والمعصية، ويكفّر الفرد بالذنوب والمعاصي؛ كفّر الخوارج خصومهم ومخالفيهم، وبرَّروا قتلهم.

بالنسبة لعزمي بشارة، فإن السلفيات المعاصرة حديثة وإن جذّرت نفسها في الماضي وعدّت نفسها امتدادًا أمينًا للفهم السلفي القديم 

يتعارض اعتقاد الخوارج مع ما يعتقده معظم المسلمين المتفقين على أن الإيمان اعتقادٌ وقولٌ وعملٌ وفقًا لأحكام الدين، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. كما يقف أيضًا على النقيض مما يعتقده المرجئة الذين رفضوا تكفير الفرد، مهما ارتكب من الذنوب، ما دام يقرّ بالإسلام اعتقادًا وقولًا. أما الحكم على عمله، فيعود في اعتقادهم إلى الله دون غيره.

أما السلفيون، فيرى عزمي بشارة أنهم افترقوا عن الطرفين معًا في هذه المسألة، إذ رفضوا مبدأ المرجئة وعدُّوه ضلالًا أيضًا. لكنهم رفضوا، في الوقت نفسه، مبدأ الخوارج الذي يتناقض مع اعتقادهم بضرورة وجود نص قطعي يبيُّن أن هذا الفعل كفرٌ مخرجٌ من الملّة، وأن المسلم الذي قال كلمة الكفر وأُقيمت عليه الحجة، يُعدّ مرتدًا يُستتاب ولا يُقتل. لكن بعضهم، رغم ذلك، رأى قتله دون استتابته على اعتبار أنه لا فرق بين الكفر والردّة، في اعتقادهم، إلا من حيث أن هناك كافرًا أصليًا، وكافرًا ارتدّ بعد إسلامه.

وفي سياق تمييزه بين موقف مختلف الفرق والتيارات الإسلامية من هذه المسألة، يقول المفكر العربي إن التيارات السلفية تتفق، نظريًا، على ثلاثة موانع لا يجوز تكفير الفرد إن توافر واحد منها: الجهل، إذ لا يكفَّر المسلم الجاهل بالدين، والإكراه بمعنى قول أو فعل ما يخالف الإسلام تحت الضغط أو التهديد، والخطأ مع ثبوت النية الصادقة.

لكن هذه القواعد لم تكن منطقية بالنسبة إلى التنظيمات الجهادية المصرية، التي شذت عن هذا الإجماع في تحديدها لقواعد التكفير، فاستبدلت قاعدة "لا عذر بالجهل" بأخرى تقول العكس تمامًا، على اعتبار أن الكتب متوفرة والوصول إليها سهل، ما يعني أن من تنطبق عليه قاعدة "لا عذر بالجهل" إنما هو، في اعتقادهم هذا، مرتدٌ عن الإسلام. وأن عدم اعتراف التنظيمات السلفية الجهادية بقاعدة "العذر بالجهل"، واستبدالها بقاعدة "لا عذر بالجهل"، يعني أنها، وفق بشارة، تكفِّر عموم المسلمين حتى وإن ادعت العكس.

يقوض عزمي بشارة الافتراض بوجود خط أصولي في الإسلام يبدأ من ابن تيمية مرورًا بسيد قطب ويصل إلى تنظيم القاعدة كما هو شائع لدى بعض الباحثين

تتقاطع قاعدة "لا عذر بالجهل" مع القاعدة القانونية للدولة الحديثة "لا جهل بالقانون" بحسب قراءة بشارة، الذي يشير إلى أنها تبدو إعادة صياغة للقاعدة الأخيرة فقهيًا واعتقاديًا. ومن هنا يؤكد مؤلف "مقالة في الحرية" أن السلفيات المعاصرة: "حديثة بالفعل وإن جذرت نفسها في الماضي، وعدّت نفسها امتدادًا أمينًا للفهم السلفي القديم. فهي وإن كانت ترفض القوانين الوضعية بدل الشريعة، فإنها تعاملت مع الشريعة كأنها قوانين وضعية مفروضة تنظم المجتمع، ولا تشترط وعي الأفراد بها كي تكون سارية المفعول" (ص 71).

يشير المفكر العربي، في هذا السياق، إلى أن أغلبية التيارات السلفية لا تزال ترى أن التكفير يقع على الأفراد وحدهم لا على المجتمع، وأن تكفير الفرد نفسه يتطلب تقديم دليل قطعي على كفره، إضافةً إلى إقامة الحجة عليه ورفع الشبهة أيضًا. ويضرب بشارة من عدم تكفير ابن تيمية لعموم الإسماعيليين، إنما لرؤسائهم فقط، وكذا الاثنا عشرية الذين عدّهم ضالين متأولين رغم وصفه للكثير من أقوالهم بأنها كُفر، مثالًا على ذلك.

في المقابل، وعلى النقيض تمامًا، يكفِّر تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" عامة الشيعة ولا يعتذر لهم بالجهل لأنه يستند في تكفيره لخصومه، وللمجتمعات أيضًا، إلى نهج بعض طوائف الخوارج. لكن ذلك لا ينفي وجود فوارق جوهرية بين الطرفين، حيث يرى المفكر العربي أن: "تكفير تنظيم الدولة يستند إلى نقائض الإسلام عند محمد بن عبد الوهاب، وجميعها عقدية، في حين أن الخوارج أدخلوا القضايا الأخلاقية (المعاصي والكبائر) في صلب نقائض الدين، أي أن التدين عندهم ليس خاليًا من الاعتبارات الأخلاقية" (ص 74). وهذا بالضبط ما يفسِّر إباحة التنظيم للسرقة والغدر والكذب والخداع باسم خدمة قضية الإسلام، بحجة أن الكفّار لا ينطبق عليهم أي معيار أخلاقي.

السلفية الجهادية.. قضاة لا دعاة!

استندت الحركات التكفيرية المصرية، التي ظهرت في الستينات والسبعينات، إلى ثلاث قواعد في تكفيرها للآخرين، وهي: 1. الحكم والتشريع بغير ما أنزل الله شرك، لأنهما عبادة لغير الله بإعطائه الحق في التشريع. 2. من آمن ببعض الإسلام وترك جزءًا منه فهو كافر، لأن الإسلام كل متكامل. 3. الإيمان لا يكفي بل يجب إظهاره والعمل به.

يرى بشارة أن الفرق بين الإصلاح الديني والإسلام الحركي المعاصر هو الفرق بين الإيمان بالتقدّم والإيمان بأن البشرية تتدهور وتتراجع عن عصر ذهبي خلّفته وراءها

في قراءته ونقده لهذه القواعد التي يرى أنها مشتقة من مبدأ شمولي واحد يحتويها جميعًا، يلاحظ بشارة أنه لا يكفي بالنسبة إلى هذه الحركات أن يكون إيمان الفرد معلومًا لله وحده، بل يجب أن يكون معلومًا لأفرادها حتى يتاح لهم الحكم عليه. وهم لذلك يريدون أن: "يفعلوا فعل الله، ويدّعوا لأنفسهم هذا الحق لأنهم يريدون محاكمة الناس في هذا العالم قبل الآخرة" (ص 77)، ما يعني أنهم يريدون أن يكونوا: "قضاة لا دعاة" (ص 78).

يقول بشارة إن هذه الحركات تتفق على أن المسلمين إنما أُمروا بقتال الناس على ظاهر الإسلام، وأن المتشدد منهم: "يتوسع في أحكام نواقض الإسلام والإيمان وهم يفسرون آية ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّين قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ (البقرة: 256)، و﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ (الغاشية: 21 – 22)، بأن الله قال ذلك في نصٍّ، وأمر بغير ذلك في نصٍّ آخر. والآية تعني من منظورهم أن ما لا إكراه فيه هو الاعتقاد. أما ظاهر الدين فيصح فيه الإكراه!" (ص 79).

المهم إذًا بالنسبة إلى هذا النوع من الإسلام الحركي، وفق قراءة بشارة، هو أن يمارس الإنسان ظاهر الدين حتى لو كان في قرارة نفسه كافرًا، ذلك أن المهم هو ما يُظهره فقط. أما العكس، إذا كان مؤمنًا مخلصًا في إيمانه لكنه لا يمارس ظاهر الدين، فيُعدّ مرتدًا يجب قتاله وترك باطنه لله وحده ليحاسبه عليه.

يرى بشارة في ما سبق: "تفسير للدين والتدين تنعدم فيه الروحانية، وتهمش فيه الأخلاق مع حرية الاختيار، ويهمش فيه عنصر الإيمان، وتصبح المسؤولية الفردية عن الفعل والرأي والعقيدة أمورًا لا معنى لها إطلاقًا. ويصبح الأمر الأساسي هو إظهار الدين شكليًا، والتظاهر بالورع والتقوى" (ص 81).

يفسّر فهم الجماعات التكفيرية للدين بهذه الطريقة، موقفها من الثقافة الديمقراطية التي يرى صاحب ثلاثية "الدين والعلمانية في سياق تاريخي" أنها لا تكتفي بمعارضة الانتخابات فقط، حتى وسيلةً، وإنما تعارض أساس الديمقراطية الأخلاقي، أي: "حرية الاختيار واستقلالية إرادة الفرد وحقه في منظومة أخلاقية يؤمن بها، وإظهار حرية اختياره" (ص 81). إضافةً إلى أن الديمقراطية تجعل من: "الشعب، أو الأكثرية أو أكثرية ممثلية هي المشرع، في حين أن الله هو المشروع في الإسلام بمفهومه هذا. وليس للشعب حق "تحليل الحرام" أو "تحريم الحلال"، ولو أجمع الشعب كله على ذلك" (ص 82).

أما بالنسبة إلى علاقتها بالدولة، فتُجمع هذه الحركات على أن لا ولاء للدولة إذا لم تكن إسلامية حتى وإن ظهرت كلمة "إسلامية" في تعريفها الدستوري لذاتها. ولذلك تسمح بالتآمر من داخل الدولة والعمل فيها وفي جيشها إن تطلب الجهاد ذلك. غير أن اللافت هنا أنها لا ترى نفسها بوصفها "جماعة من المسلمين"، وإنما "جماعة المسلمين".

الخلاف بين السلفيين خلافٌ جوهري

يرى بشارة أن الخلاف بين السلفيين، بما في ذلك خلافهم على قضايا استراتيجية العمل، هو خلاف جوهري بدليل بلوغه، خلال السنوات القليلة الأخيرة، حد الانقسام وتكفير المخالفين. ولأن التكفير لا يمكن أن يكون إلا عقديًا، يقول بشارة إنه جرى تحويل قضايا غير عقدية إلى عقدية. والمثال على ذلك صراع الفصائل الإسلامية السلفية الجهادية على البيعة.

يميّز المفكر العربي، في سياق شرحه للخلاف داخل السلفية، بين سلفية مجافية للسياسة يقتصر نشاطها على الدعوة إلى التدين والالتزام بظواهر النصوص وإلزام المجتمعات بمظاهر التدين، وأخرى تتعامل مع السياسة بدءًا بالنصيحة واللاعنف، وصولًا إلى السلفية الجهادية التي تأثرت بـ: "الحركات الإسلامية السياسية (أو العكس)، مثل بعض تيارات الإخوان المسلمين وحتى بالحركات الجهادية" (ص 83).

لا يكفي بحسب الحركات التكفيرية أن يكون إيمان الفرد معلومًا لله وحده، بل يجب أن يكون معلومًا لأفرادها حتى يتاح لهم الحكم عليه

لكن الخلاف بين هذه التيارات لا يمنع تأثرها ببعضها بعضًا حسب قراءة بشارة، الذي يضرب من محمد ناصر الدين الألباني مثالًا على ذلك. فالألباني، ورغم كونه مرجعية من المرجعيات العلمية السلفية المناهضة للنشاط السياسي، وأحد أبرز المعارضين للخروج على السلطان مهما اشتد ظلمه، إلا أنه أثّر عقديًا في شخصيات مثل جهيمان العتيبي، وأبو محمد المقدسي أبرز منظري تيار السلفية الجهادية، وأبو قتادة الفلسطيني أحد أشد منظري السلفية الجهادية تطرفًا ودموية.

في هذا السياق، يأتي بشارة على ذكر "السلفية الطهرانية" التي لا تُعد نفسها حركة سياسية ولا تنظيمًا من أي نوع، بل إنها ترفض أيضًا الاختلاط بغير السلفيين ويبدِّعونهم ويدعون إلى مقاطعتهم اجتماعيًا. وعلى العكس من التيار السلفي الجهادي، يرفض أتباع التيار الطهراني الدعوي الانخراط في أي نشاط سياسي معارض على اعتبار أن هذا الأمر لم يكن رائجًا في زمن النبي.

ويقول مؤلف "في المسألة العربية"، إنه راج بين أتباع هذا التيار أن السلفي الذي ينضم إلى تنظيم سياسي يُعد من "الإخوان المسلمين". ويرى أن هذه العقلية هي التي تدفع بالقيادة السعودية إلى: "اتهام الإخوان بالمسؤولية عن تسييس السلفيين، بل بالمسؤولية عن حوادث مثل عملية "11 سبتمبر" التي دانها الإخوان، فهم لم يستوعبوا حقيقة أنه نشأت عن السلفية تيارات سياسية متفاعلة مع الحركات الدينية السياسية ومتأثرة بها، ولكنها تنتمي إلى التقليد السلفي، لا الإخواني" (ص 87). ويلفت إلى أن: "هذا التسييس المتجدد للسلفية عبر التقاطع مع الحركات السياسية الإسلامية (أو ما يسمى خطأ بالإسلام السياسي) لا يعفي تراث الوهابية السياسي والديني من المسؤولية عما آلت إليه حركات السلفية الجهادية" (ص 87).

السلفية الوهابية والإصلاح الديني

يُعيد بشارة ارتباط "السلفية" بـ"الوهابية" إلى تبنّي المملكة العربية السعودية للوهابية، بعد تحالف الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأبنائه مع ابن سعود وأبنائه، ومأسستها في جهاز الدولة بوصفها مؤسسة دينية رسمية من جهة، وانتشار أفكارها بواسطة المؤسسات التبشيرية الوهابية، التي استفادت من القدرات الاقتصادية للملكة في نشرها، من جهة أخرى. وهذا ما يفسّر أن الوهابية هي أول ما يحضر في أذهاننا عند قراءة مصطلح السلفية.

لكن المصطلح ذاته كان يحيل أيضًا، قبل المد السلفي من الخليج وتداخله مع بعض التيارات داخل الحركات السياسية الإسلامية، إلى الجمعيات والحركات السلفية الدعوية غير المتداخلة تدخلًا مباشرًا بالعمل السياسي. وهي جمعيات يرى بشارة أن سلفيتها لم تكن حنبلية دائمًا، وإنما: "سلفية للجماهير تبدأ باطلاع الناس على مبادئ الدين وتعليمهم فروضه، وتنتهي بدعوات متزمتة في فرض نمط حياة بعينه في التجمعات السكنية المختلفة، مثل اعتبار المواطنين من غير المسلمين ذميين، وتحريم التواصل الأهلي معهم وهو ما كان موجودًا في التدين الشعبي مثل حسن الجيرة وغيره، والتصدي لمظاهر التحديث على مستوى الدولة وفرض رقابة اجتماعية على الحريات" (ص 91).

يرى بشارة أن هذه الجمعيات نشرت ثقافة سلفية معادية، قياسًا على التدين الشعبي الذي كان قائمًا، لأي انفتاح، وتُعِّد الثقافة الشعبية لتكون ضد أي تجديد غير تجديدها هي للدين بتحويله إلى ثقافة منغلقة. وهنا يبيّن صاحب "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته: دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة" وجود تداخل بين السلفية والإصلاح الديني يتجلى، أولًا، في اهتمام شخصيات ومؤسسات إصلاحية بأعمال السلفيين الأوائل وإعادة طباعتها.

وثانيًا، في ردات فعل علماء هذه المؤسسات الإصلاحيين على قضايا أثارها مفكّرو النهضة على اختلاف توجهاتهم بوصفها ردود سلفية. ناهيك عن تقاطع أهداف بعض هذه الجمعيات، والثقافة التي تنشرها، مع أنماط التدين السلفية الصريحة لناحية محاربة البدع والخرافات. ما يعني أن السلفية لا تعود: "إلى ابن تيمية بالضرورة إذًا، وهي، باعتبارها حربًا على البدع ودعوة إلى الشرع القويم وهدي سيد المرسلين، ليست حكرًا على تيار بعينه مثل الوهابية" (ص 95). خاصةً أن الموقف من التدين الشعبي والبدع السائدة فيه، وفق بشارة، ليس موقفًا سلفيًا من الأصل وإنما علمائيًا تقليديًا كلاسيكيًا تجده في كتب القدماء من الخَلَف.

ليست السلفية الوهابية والإصلاح الديني، كما يوضح بشارة، طرفي معادلة الإسلام صالح لكل زمان ومكان، ذلك أنها قد تعني: "1- ملائمة الإسلام مع كل عصر، من جهة، عبر قابلية الإسلام للتطور انطلاقًا من مبادئه النقية الأولى. 2- نزعة معاكسة تتلخص بملائمة كل عصر مع ظاهر النص الذي تمت العودة إليه من جهة أخرى، والذي يصلح لكل عصر" (ص 101). ما يعني أن الموقف الرافض للتقاليد والبدع يتجسد في نقيضين: السلفية الوهابية التي تدعو إلى العودة إلى السلف والتجمد عنده في نمط أخوية إسلامية، والإصلاح الديني الذي يدعو إلى التطهر من التقاليد والبدع البالية لتجديد الدين انطلاقًا من أساسه وتعاليمه التي شوهها التخلف.

هكذا يكون الفرق بين الإصلاح الديني، رغم العنصر السلفي الذي يتضمنه، والإسلام الحركي المعاصر، هو الفرق بين الإيمان بالتقدم، والإيمان بأن البشرية تتدهور وتتراجع عن عصر ذهبي خلّفته وراءها. وتكون الدعوات إلى العودة إلى السلف وأصول الدين ليست مجرد ردة فعل على الحداثة، وإنما: "جزء من آليات الحفاظ على الذات في الأزمات المتجسدة كانهيار داخلي بفعل عوامل داخلية و/ أو خارجية" (ص 102).

يستنتج مؤلف "الثورة التونسية المجيدة"، مما سبق، أن الدعوات إلى العودة إلى السلف وأصول الدين ليست نمطًا متكررًا، رغم ظهورها كذلك تاريخيًا، لأنها تختلف اختلافًا جذريًا في كل مرة سواءً لناحية نمطها ووظيفتها ودورها والغاية منها نتيجة تأثرها بالظرف التاريخي والأسئلة التي تتمخض عنه حتى وإن استندت إلى مقولات متشابهة. ويخلص هنا إلى عدم وجود: "تاريخ أفكار مستقل يقود إلى السلفية الجهادية في أيامنا، ويحمل تقليدًا من ابن حنبل إلى ابن تيمية وابن القيم بحيث يمتد منهما خيط مباشر إلى ابن عبد الوهاب ومدرسة المنار وغيرها، بل هي تطورات سياسية وثقافية وتبدلات في نمط العيش وأزمات وهزات اجتماعية تدفع إلى تنظير فقهي. وهذا يبحث عن مرتكزات فقهية ومصادر تشرعنه ويجعل من نفسه امتدادًا لها، بحيث تبدو خطًا متصلًا" (ص 102).

ينفي ما سبق وجود خط أصولي في الإسلام يبدأ من ابن تيمية مرورًا بسيد قطب، وصولًا إلى تنظيم القاعدة، كما هو شائع لدى الباحثين الذين أرّخوا لحركات الجهاد والهجرة والتكفير، خاصةً المستشرقين منهم الذين يرى بشارة أنهم سحبوا الخيط ليمر بالوهابية أيضًا من دون أخذ العوامل المحلية والاجتماعية بعين الاعتبار.

يرفض بشارة هنا المقولات التي تربط تنظيم القاعدة بالإخوان المسلمين أو تعتبره امتدادًا للوهابية لمجرد أنه يستند إلى النصوص التي يستند الوهابيون والإخوان إليها. فالقاعدة، قبل أن تتوطن في بعض الدول في نوع من التنظيمات المحلية بدت، بحسب قراءته، ظاهرة منفصلة نسبيًا عن نشوء الحركات الإسلامية القطرية لناحية انتقالها من المحلية إلى العالمية. وهي بدعوتها إلى استخدام العنف ضد الولايات المتحدة دون الحاجة إلى أرض أو وطن، من نتاج العولمة.

يتجلى ما سبق، على سبيل المثال، في شخصيات منفذي هجمات سبتمبر 2001 التي تمثّل نمطًا من الإنسان الحديث أو المعرّض للحداثة ثقافيًا واجتماعيًا. وهو إنسان يرى بشارة أن تدينه أيديولوجي، بمعنى أنه: "تحديد للهوية في هذا العالم، أو في مواجهة هذا العالم، ويشبه عملية بحث الفرد المستلب أو المغترب عن معنى، أكثر مما يشبه التدين التقليدي بوظائفه المتوارثة" (ص 107).

ليست نصًا أصوليًا يتكرر

في سياق حديثه عن الحداثة والأصالة والنقاء الفكري، ورفض بعض الحركات الإسلامية للحداثة وتكوين الهوية الإسلامية في مواجهة الغرب، ينفي عزمي بشارة وجود نقاء فكري إسلامي داخل هذه الحركات، التي يرى أن رفضها استخدام المصطلحات الغربية وترجمتها لا يجسّد نقاءً فكريًا وإنما موقفًا، ما يعني أن النقاء الفكري متخيّل، وأن مصطلح السلفية لا يعني: "عودة فعلية إلى السلف أو التراث إلا انتقائيًا تخيليًا مختلطًا بمفاهيم حديثة وردات فعل على الحداثة، وتفسيرات حديثة لما يقوله السلف، وذلك في خضم استخدامه في الرد على خصوم معاصرين مثلًا" (ص 118).

يشدّد المفكر العربي على أن الحركات السلفية، سواءً إصلاحية أم جهادية، هي: "حركات حديثة بمعنى أنها حركات أيديولوجية نشأت في العالم الحديث بآليات التنظيم الحديثة ونتيجة ضغوط العالم الحديث نفسه"

يستنتج بشارة هنا أن بنية الحركات الإسلامية، على اختلاف توجهاتها، حديثة مئة في المئة. بل إنه يرى أيضًا أن مشروعها الإحيائي الإسلامي نفسه: "لا يجري، وما كان لينشأ أصلًا، من دون مصطلحات ومفاهيم غربية معاصرة إما مضمرة وضمنية كما في حالة فكرة الدولة، وفكرة الحاكمية بوصفها ترجمة إسلاموية مقلوبة لمفهوم السيادة أو صاحب السيادة في الدولة في فقه الدولة الغربي الحديث (...) وإما سافرة ومعلنة: الجماهير، والاستراتيجيا، والحزب، والولاء الحزبي الحركي، ومصلحة الحزب، والأيديولوجيا، والبرنامج السياسي، ووسائل الاتصال الحديثة" (ص 119 – 120).

هكذا يضعنا مؤلف "المجتمع المدني" أمام حقيقة أن الحركات الإسلامية التي تنشأ في الحداثة، ليست مجرد نص أصولي يتكرر منذ ابن حنبل أو ابن تيمية أو ابن عبد الوهاب. وفي حال تكرر ظهور الأصولية والدعوة إلى الأصل، فإنها تبقى حركات وتيارات في سياق تاريخي محدد في إطار الدولة الحديثة أو المستحدثة وفق قراءة بشارة، الذي يشدد على أن الحركات السلفية، سواءً إصلاحية أم جهادية أو غير ذلك، هي: "حركات حديثة بمعنى أنها حركات أيديولوجية نشأت في العالم الحديث بآليات التنظيم الحديثة ونتيجة ضغوط العالم الحديث نفسه" (ص 120).

وطالما أن هذه الحركات ليست مجرد نص أصولي يتكرر، وأنه لا يوجد في الأصل تطور فكري مستقل عن التطورات التاريخية، يرى بشارة أنه لا يمكن فهم أفكار تنظيمات مثل القاعدة وتنظيم الدولة "داعش" دون الوقوف عند الهيمنة الأمريكية بعد الحرب الباردة، واحتلال أفغانستان والعراق، ونشوء الطائفية السياسية في المنطقة العربية، والصراع السني – الشيعي، وأزمة الدولة العربية، وازدياد اعتمادها على العنف. كما أنه لا يمكن فهم: "العودة الحديثة إلى الأصول الدينية أيديولوجيًا، وإلى السلف المتخيل دون ما طرحته المرحلة الاستعمارية من تداع وترابط للتقدم والحداثة والاستعمار والحضارة المسيحية في عقل المضطهد الواقع تحت الاحتلال" (ص 130). والأخير هو إنسان ما بعد الحضارة الآفلة الذي يستدعي الأمجاد والهوية والعصر الذهبي لمواجهة الحضارة.

الخلاصة أن الحركات الإسلامية حركات حديثة نشأت "بفعل مشكلات المجتمع الحديث المحقق وردة فعل عليه برفضه عقائديًا، مع استخدام منجزاته أداتيًا" (ص 132). ويرى بشارة أن قضاياها كذلك قضايا حديثة، لكنها تجيب عنها بلغة الماضي.

داعش وأمثولة المدينة المنورة المتخيلة

يربط الفكر الاستشراقي ممارسات تنظيم الدولة "داعش" بنصوص معينة في القرآن والسنة النبوية، وهي النصوص التي يستند إليها التنظيم لتبرير أفعاله. لكنها أيضًا النصوص التي يقرأها ويرددها ملايين البشر دون أن يتعاملوا معها بوصفها نصوص سياسية أو دليل عمل سياسي. لذلك يرى بشارة أن فهم تنظيم الدولة لا يبدأ أصلًا بتحليل هذه النصوص، ولا نصوص الفقهاء، ولا ينتهي بها. وأن هذه النصوص بالنسبة إلى التنظيم نفسه ليست سوى "أيديولوجيا بتعريفها كوعي زائف، ويتخذ شكلها الأيديولوجي المتطرف كوعي مقلوب" (ص 141).

أما "الأوتوبيا الدينية"، أي حياة المدينة المنورة المتخيلة في عهد الرسول والخلفاء الراشدين التي تعود إليها السلفية بوصفها عصر ذهبي مندثر وأمثولة/ مثال أعلى، فقد تجاوزت لدى التنظيم نفسه الأيديولوجيا السياسية وتحولت إلى برنامج سياسي للتنفيذ والفرض بالقوة على المجتمعات. وهذا، بحسب بشارة، خيار نادر الوجود وكان ليبقى حالة هامشية جدًا في المجتمعات الإسلامية لولا انهيار الدولة في العراق وسوريا، وتفشي الطائفية السياسية، وانهيار الهيئة الاجتماعية، وكذا انتشار العنف الوحشي.

والعنف السادي الذي مارسه التنظيم وباهى به كأنه زينته التي ترعب أعداءه لم يكن من اختراعه، إذ سبقته إليه الأنظمة الاستبدادية التي تفننت في استخدامه بطريق أفظع، ربما، مما فعلته "داعش". لكن الفرق بينها وبين التنظيم هو أنها مارسته في أقبية السجون دون حسيب أو رقيب، على عكس التنظيم الذي حوّله إلى طقس ومشهد استعراضي.

يرى بشارة أن هشاشة التقاليد الدينية القائمة وضعفها وفقرها وغياب مؤسساتها في بيئة نجد وما حولها من أهم عوامل انتشار الوهابية

في العودة إلى "الأوتوبيا"، يقول بشارة إن طرحها بوصفها أيديولوجيا تسعى إلى إعادة الانسجام العضوي في الجماعة، يجعل منها حركة ضد الآخر المختلف، وضد استقلالية الفرد والأقليات الدينية والقومية والثقافية. وأن الأوتوبيا الدينية تجعل من الإيمان الديني نظامًا اجتماعيًا مقدسًا يُرى إلى تنفيذه بوصفه واجبًا إلهيًا. ويشير هنا إلى أن "الأمثولة"، التي تقوم عليها الأوتوبيا، لا تتحول إلى أداة أيديولوجيا بيد الدين دون أدوات سياسية ووكلاء اجتماعيين وظروف تساعد على انتشارها كأداة من هذا النوع، ما يعني أن الأمثولة لا تحول كل من يحملها إلى ناشط سياسي، كما أنها لا تتحول هي ذاتها إلى مشروع جهاد وشهادة من تلقاء نفسها. 

لم يكتف محمد بن عبد الوهاب بتبني أمثولة المدينة المتخيلة في عهد الرسول فقط، بل قارن أيضًا بين الجاهلية التي سبقت عصر الرسول والأوضاع في عصره مقارنةً يقول بشارة إنها تتضمن ادعاءً مضمرًا بالنبوة، مردّه إلى مساواته بين ما فعله الرسول في الجاهلية، وما يفعله هو في عصره. وهنا يرى أن السلفية الحديثة تنطوي أيضًا على هذا الادعاء، وإن لم تعلنه صراحةً، طالما أنها تساوي بين المجتمع المسلم في عصرها، والجاهلية التي سبقت الدعوة الإسلامية. فما تحيل إليه هذه المساواة أن الرشد لم يتبيّن من الغي، ما يعني الحاجة إلى نبوة جديدة جهادية تبيّنه بل وتفرضه وتظهر الحق من جديد.

يلخّص بشارة ادعاء النبوة الضمني في 3 نقاط: فهم الواقع الحاضر بوصفه جاهلية، والادعاء بأن "الرشد لم يتبيّن من الغي رغم تبليغ النبي للرسالة، وإلغاء الشفاعات والوساطات المنتشرة في التدين الشعبي بين الله والناس بوصفها شركًا وبدعًا. لكن غاية السلفيين من إلغاء الوساطة بين الله والناس، كما يوضح بشارة، مصادرتها من التدين الشعبي وحصرها في أيديهم بمعنى احتكارها. ما يعني أن الأمر لا يتعدى استبدال وساطة بأخرى، يوضح الفرق بينهما بقوله إن الأولى وساطة تعبّد، أما الثانية فوساطة تبعية وفهم.

يعرّف صاحب "ثورة مصر" الوهابية بأنها: "تيار صغير ذو توجه طهراني تقشفي في فهمه للدين ولم يخرج من الجزيرة العربية إلا إلى قبائل التخوم، وذلك غالبًا في إطار غزوات البدو الموسمية على ريف العراق وبلاد الشام وحواضرها" (ص 167). ويُعيد أسباب تحوّلها إلى عقيدة سلفية منظمة ومنظومية أو نسقية لدولة ثرية ذات مؤسسة دينية متكاملة، إلى الثروة النفطية والحرب العربية الباردة بين محوري السعودية ومصر في ستينات القرن الفائت، والاستغلال الغربي لها لمحاربة المعسكر السياسي الراديكالي العربي في الحرب ذاتها، إضافةً إلى محاربة اليسار والشيوعية.

أما تحولها إلى حركة أيديولوجية عالمية أثّرت في أنماط التديّن في بلدان أخرى بتفاعلها معها، وانتقالها من حركة دينية سلفية ذات بعد شعبي إلى مؤسسة دينية رسمية تابعة للدولة، وتؤثّر شعبيًا وتكوّن أتباعًا وجمعيات وتنظيمات دعوية في كثير من البلدان؛ فيعود إلى تصدير المملكة لها بوصفها نمطًا دينيًا عبر دعم المساجد والجمعيات الإسلامية والمدارس الدينية.

لكنها عادت وانشقت إلى: "مؤسسة دينية بأتباعها على مستوى التدين الشعبي وبوعاظها ومناهجها وجمعياتها ذات التوجه المتزمت دينيًا بالشكل والفرائض وغيرها، و"المعتدل سياسيًا"، أي التوجه التبريري للحكم، والمنصاع لأوامره من جهة، وسلفية داخل السلفية ذات بعد حركي تدعو الوهابية ذاتها إلى العودة إلى أصولها، ويلتف حول أتباع من المتضررين من سياسات الدولة وذلك في مجتمع جماهيري، من جهة أخرى" (ص 169). ويضيف بشارة: "من هذه الناحية تثبت الوهابية أن الحركة الدينية السلفية الطابع حين تتحول إلى مؤسسة تدعمها الدولة وتدعم هي الدولة بدورها، تعود وتفرز سلفية معارضة تحركها عوامل كثيرة، من ضمنها المرارة من الفجوة بين الخطاب والممارسة" (ص 169).

مرحلة تاريخية أم منهج حياة؟

ينبّه المفكر العربي إلى أن ابن عبد الوهاب، وبخلاف ما هو رائج، قد سبق كلًا من أبو الأعلى المودوي وسيد قطب في استخدامه لمفهوم الجاهلية في وصف حالة ذهنية اجتماعية لا مرحلة تاريخية سابقة على الإسلام، أي بوصفها: "مفهومًا نظريًا ينقل حالة الجاهلية والحكم الإسلامي عليها من التاريخ السابق على ظهور الإسلام إلى حالات يعيشها مجتمع ما بعد الإسلام حتى لو كان مؤلفًا في غالبيته من المسلمين" (ص 171).

المسعودي، في المقابل، استخدم المصطلح بوصفه نوعًا من أنواع انعدام الحكم وغياب الدولة، وهو استخدام يرى بشارة أنه أقرب بكثير إلى الاستخدام الذي فهمه الرسول والصحابة كحالة من انعدام المدنية ومؤسساتها. فالجاهلية عند المسعودي هي غياب شريعة ملزمة وموحى بها بغض النظر عن نوعها. أي أنها مجتمع غير منظم لا وجود فيه لما يضبط القيم والمعايير الأخلاقية والسلوكية، وكذا الترتيبات والمؤسسات والأعراف التي تمكّن من حياة اجتماعية منظمة وفق قراءة بشارة. ما يعني أن الانتقال: "من الجاهلية إلى الإسلام في حالة الجزيرة العربية في نظر مفكرين متأخرين مثل المسعودي هو انتقال من حالة الفوضى إلى حالة وجود مرجعية هي الشريعة الإلهية والقائم على تطبيقها، ما يعني الملك/ السلطان في مناطق أخرى من العالم" (ص 173).

يشير بشارة إلى أن غاية السلفيين من إلغاء الوساطة بين الله والناس مصادرتها من التدين الشعبي وحصرها في أيديهم بمعنى احتكارها

ولأنها منهج حياة يقف على النقيض من منهج الإسلام ونظرته إلى مسائل الحياة الأساسية، قوبلت الجاهلية لدى المودوي وسيد قطب من بعده بفكرة "الحاكمية" التي أتاحت لمجال نشوء الحركات التكفيرية من رحم الإخوان منذ منتصف السبعينات في مصر كما يقول المفكر العربي، الذي ينبّه هنا إلى أن "منطق حركات مثل القاعدة وما نشره الأفغان العرب في بلدانهم تستند سياسيًا إلى نهج سيد قطب في تجهيل المجتمع المسلم بما يكفّره، أي التجهيل والتكفير معًا، إذا لم يتبع فهمه لنواقض الدين كما أعاد المودوي بناءها" (ص 176).

ومع أن الوهابية أثّرت في نمط التدين الشعبي باتجاه أكثر تزمنًا، إلا أنها لم تقدّم وفق بشارة "نظرية سياسية شمولية ثورية كالتي قدّمها قطب المستند إلى نظرية الدولة الإسلامية لدى المودوي الملخصة بـ "الحاكمية"، وحل مسألة السيادة في الدولة الإسلامية" (ص 176). ما يعني أن الحاكمية كانت: "طريق الجهاديين الأوائل في تلك الفترة إلى سلفية ابن تيمية والسلفية الوهابية وليس العكس، فأعيد فهم السلفية والسلفية الجهادية جهاديًا تكفيريًا" (ص 176).

اعتبر محمد بن عبد الوهاب مخالفة الآخرين له في الرأي من نواقض الدين، ورأى إلى عقيدته بوصفها الدين نفسه لا مجرد مذهب من المذاهب الأخرى. وهذا بالضبط ما تفعله أيضًا التنظيمات التكفيرية التي ترى أنها تمثّل الدين القويم الذي أصبحت متطابقة معه بعد أن اهتدت إلى بساطته ونقّته من الشوائب. وبخلاف السلفية الكلاسيكية، عند ابن تيمية مثلًا، عدَّ الوهابيون معاصريهم من المسلمين مشركين بل وأشد شركًا من جاهليي الجزيرة في عصر الرسول، واعتبرو أن الذين سمعوا بدعوتهم ولم يتبنوها كفرة. وقد شكّل هذا التكفير، بحسب بشارة، أساسًا "لهوية مختلفة متميزة عن بقية المسلمين، ومبررًا شرعيًا لإعلان الجهاد عليهم" (صفحة 185).

يشير المفكر العربي في هذا السياق إلى أن ابن تيمية نادى أيضًا بفكرة هدم وكسر الأنصبة قبل ابن عبد الوهاب بخمسة قرون، لكن الفرق بينهما أن ابن تيمية نادى بالفكرة في بيئة حضرية، بينما نادى بها ابن عبد الوهاب في بيئة بدوية. وهذا ما يفسّر فشل الأول ونجاح الأخير، كما يفسّر أيضًا الانتشار الواسع للوهابية في نجد. إذ يرى بشارة أن لانتشار الوهابية فيها سببين هما: "1. القدرة على فرضها بالسيف. 2. ضعف التقاليد الدينية السائدة ومؤسساتها. فهشاشة التقاليد الدينية القائمة وضعفها وفقرها وغياب مؤسساتها في بيئة نجد وما حولها من أهم عوامل انتشار الوهابية" (ص 189 – 190). على عكس دمشق التي لم تنل سلفية ابن تيمية انتشارًا واسعًا فيها لكونها بيئة حضرية ذات تقاليد ومؤسسات دينية راسخة.

فالفكر الذي يُعيد الدين إلى بساطته الأولى المتخيلة الصارمة والخالية من المؤسسات وتقاليد التدين الشعبي، لا ينال انتشارًا واسعًا في هذه البيئة التي تتميز بمتانة وعميق التراث والتقاليد الدينية، ووجود مؤسسات اجتماعية وسياسية قوية وراسخة ومتصلة اتصالًا وثيقًا بالشعب وعامة الناس كما أوضح بشارة، الذي يقول في هذا السياق إن التقاليد ومن يحفظها في المؤسسة الدينية والتدين الشعبي والبنى الاجتماعية تقاوم "الفكر الذي يرمي عمليًا إلى إلغائها، كما تقاوم من يقوم بعملية تصحير المجتمع ثقافيًا وعمرانيًا للبدء من نقطة الصفر، لا أقل من مقاومتها للتحديث. ويهولها أن الإصلاح السلفي في هذه الحالة يكفّرها ويعبّر عن نفسه بوسائل تشبه وسائل تأسيس ديانة جديدة" (ص 191). لكن الدعوة إلى هذا النوع من السلفية التي تتجاوز التقاليد إلى الماضي المتخيل وليس إلى مستقبل يعد به التقدم في الحداثة، قد تنجح: "في أوساط القبائل والمجموعات السكانية الضعيفة التقاليد الدينية، فتقلد بذلك عملية تأسيس الإسلام كما يتخيلها القائمون على هذه الدعوة الجديدة" (ص 191).

يلفت المفكّر العربي الانتباه إلى أن الجهاد قد ساهم أيضًا في انتشار الوهابية إلى جانب البيئة والتكفير. فالجهاد، بوصفه أحد أهم الفروض الدينية التي لا تنحصر في نخبة منظمة في تنظيم صغير، كان ممكنًا في مجتمع يقوم على الغزو والغنيمة وفقًا لبشارة الذي يرى أن الغزو قد أصبح "جهادًا ضد الكفّار، أما الغنيمة فتكاد تكون بذاتها فريضة دينية وتيمنًا بالسلف لأن الكفار تحل دماؤهم وأموالهم ونساؤهم، وتخمّس أموالهم" (ص 195).

يعرّف بشارة الوهابية بأنها: "تيار صغير ذو توجه طهراني تقشفي في فهمه للدين ولم يخرج من الجزيرة العربية إلا إلى قبائل التخوم"

هكذا أصبح اعتناق الوهابية مجزيًا بعد تعاظم الموارد والغنائم جراء الغزو في بيئة يعيش سكانها حياة فقر وبؤس. والغنائم كما أوضح بشارة، كانت مصدرًا رئيسًا لدخل الدولة السعودية الأولى، وواحدة من أهم الوسائل التي استخدمها عبد العزيز بن سعود لاستمالة القبائل، سواءً عبر توزيع الغنائم أو طمأنتهم بأنهم لن يُمسّوا في شخصهم أو مالهم إن قبلوا بحكمه.

يشير بشارة هنا إلى مسألة مهمة تتمثّل في أن الوهابية لم تمنح قبائل الجزيرة "إمكانية تمويه الغزو بوصفه جهادًا فحسب، بل أيضًا قدرة الأشد تخلّفًا على الشعور بالتفوق على الأشد تطورًا، بل حتى احتقاره بوصفه كافرًا" (ص 198). ويُعيد في هذا السياق نجاح محاولة ابن عبد الوهاب في تقليد البدايات، كما لو أنه ينشئ دينًا جديدًا ويدعو له، رغم الفارق التاريخي الكبير، إلا أن "ظروف دعوته في جزيرة العرب في نجد من النواحي الجغرافية والبيئية والاقتصادية والبشرية لم تختلف جذريًا عما كان سائدًا قبل ثلاثة عشر قرنًا لناحية سيادة العرف القبلي" (ص 199). يختتم المفكر العربي كتابه بالإشارة إلى أن السعوديين الوهابيين قد مارسوا في مرحلتهم الأولى "سياسة مركبة تجمع بين التعصب العقدي من جهة، وبراغماتية السلطة من جهة أخرى (...) وقد انتصرت البراغماتية في النهاية في الدولة السعودية الثالثة، كما أخضعت السلطة الدينية للسلطة السياسية" (ص 207).