21-مارس-2021

اعتبر عزمي بشارة أن نظريات منشأ الدولة ليس في جعبتها الشيء الكثير في فهم نشأة دول ما بعد الاستعمار (تويتر)

قدّم المفكر العربي عزمي بشارة اليوم الأحد 21 آذار/ مارس محاضرة بعنوان "الدولة والأمة ونظام الحكم: التداخل والتمايز" وذلك في افتتاح مؤتمر العلوم الاجتماعية في دورته الثامنة المخصصة لموضوع "الدولة العربية المعاصرة: التصور، النشأة، الأزمة".

قدّم المفكر العربي عزمي بشارة اليوم الأحد 21 آذار/ مارس محاضرة بعنوان "الدولة والأمة ونظام الحكم: التداخل والتمايز" وذلك في افتتاح مؤتمر العلوم الاجتماعية في دورته الثامنة

أفكار حول نظرية الدولة

تطرق الدكتور عزمي بشارة في هذا المحور من محاضرته إلى الاهتمام الذي باتت تحظى به نظرية الدولة عند بعض الدارسين إلى الحد الذي يوحي بأن العلوم الاجتماعية تعاني من فقر نظري دائم في الدولة، وفي السياق العربي راج عند البعض اعتقاد أن ما ينقص المجتمعات العربية في سبيل بناء الدولة هو طرح نظرية في الدولة، واعتبر بشارة أن هذا التحفيز يبدو للوهلة الأولى منطقيًا ومغريًا في الوقت ذاته لأن الكثير من القضايا التي تواجهها المجتمعات العربية متعلقة بطبيعة الدول لناحية منشئها التاريخي وتماسكها وغياب علاقة عضوية بين الدولة وجماعات السكان التي تعيش في كنفها...إلخ.

اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة في كتابه "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته".. تلك الطريق ومشقاتها

لكن بشارة يستطرد على هذا التوجه نحو النظرية ليتساءل هل المقصود هو المقاربات النظرية التي تتناول ظروف نشأة الدولة الحديثة؟ أم المقصود هو نشوء السياسة وفئة السياسيين واعتبارات الحاكم والمبررات السياسية لقراراته؟ واعتبر أن من بين الباحثين من يعود لنظريات العقد الاجتماعي لفهم الدولة بواسطة إعادة إنتاجها نظريًا، حيث تتلخص النظرية هنا بفصل مصدر شرعية الدولة عن الماورائيات بشكل عام وتأصيلها مقابل ذلك في التجمعات البشرية المكونة من أفراد، وتحديدًا في قوانين العقل التي تستدل على ضرورة  الدولة من الحاجة إلى فرض السلم الاجتماعي والاستقرار، ونشوئها، أي الدولة، بوصفها صاحب السيادة المطلقة أو لحسم الخلافات بين الناس بالقانون ضد المتجاوزين، أو تنظيم اللامساواة بين البشر الناجمة عن الملكية الخاصة والحالة المدنية تحديدًا،  إذا ما افتُرضت الحالة الطبيعية بوصفها حالة سلم وليست حالة حرب الكل فيها ضد الكل كما يرى توماس هوبز.

إلا أن بشارة يلاحظ أن نشوء الدولة العينية وبنيتها ووظائفها فرض تجاوز التنافر أو الإقصاء المتبادل بين "نظريات في الدولة" مثل:

  1. المقاربة الطبقية التي ترى أن أصل الدولة يكمن في الحفاظ على الملكية الخاصة، وأن الدولة الحديثة نشأت مع النظام الرأسمالي تحديدًا، بوصفها أداة لتدبير مصالح الطبقة الرأسمالية وقمع الطبقات الأخرى.
  2. المقاربة الليبرالية التي تحصر الحاجة إلى الدولة في الحفاظ على السلم الاجتماعي.
  3. المقاربة المؤسسية الفيبرية التي تتعامل مع الدولة بوصفها كيانًا حديثًا قائمًا بذاته، ولا تعنى بنشوء الدولة بل ببنيتها الأساسية ووظيفتها، ولا سيما استقلالية البيروقراطية وعقلانيتها.
  4. المقاربة القومية التي ترى الدول تعبيرًا عن تطلع الأمم إلى حكم ذاتها في صبغة الدولة – الأمة، هذا إذا ما استثنينا حسب بشارة مقاربة فلسفة التاريخ المثالية التي تعتبر الدولة نتاج مسيرة التقدم التاريخي المتداخل مع العقلنة، ومن ثم فهي تجسيد لمفهومها العقلي، وهكذا يصبح التفاوت والتنوع بين الدول عبارة عن ابتعادٍ عن هذا المفهوم واقترابٍ منه.

ويستطرد عزمي بشارة على هذه النظريات بالقول إن بعضها ينجح في توضيح منشأ الدولة الأوروبية الحديثة في ظروف معينة، وبعضها الآخر ينجح جزئيًا في شرح وظيفتها، وبعض منها ينجح في كشف ما يميز بنيتها الأساسية بدرجة أعلى من التعميم كما في نموذج ماكس فيبر.

 إلا أن المفكر العربي لا يعتبر الحصرية النظرية مفيدة كثيرًا في فهم ظواهر اجتماعية مركبة ومتغيرة ومتطورة باستمرار، وقد يقود الإصرار، من وجهة نظره، على مقاربة نظرية واحدة لفهم الدولة ونشأتها ووظيفتها.. إلخ، إلى تحويل النظرية إلى أيديولوجيا.

والحقيقة، حسب بشارة،  أنه في حالة مباشرة البحث في الدولة بوصفها ظاهرة علمية مركبة سرعان ما نكتشف صعوبة أو حتى استحالة قول الكثير المفيد بشأن الدولة، إذا لم يتم التطرق إلى النظم السياسية والمجتمعات المختلفة وتاريخ نشوء الدولة العينية وظروفه. بل إن عزمي بشارة يعتبر أن نظريات منشأ الدولة ليس في جعبتها الشيء الكثير في فهم نشأة دول ما بعد الاستعمار والوصل والفصل ما بين هذه الدول وبين البنى الاجتماعية التي كانت قائمة قبل نشوئها... إلخ.

أما بالنسبة إلى تصنيف الدول إلى دول شمولية أو دكتاتورية أو ديمقراطية أو تقسيمها من ناحية اقتصادية إلى دول ريعية أو رأسمالية أو نامية... إلخ فهو في الحقيقة حسب بشارة تصنيف للنظم السائدة في هذه الدول والمتداخلة مع بنيتها المؤسسية. وبناء عليه يقول بشارة إن "الدولة بما هي دولة، وعلى هذه الدرجة من التجريد، ليست ديمقراطية إلا بمعنى أنه يسود فيها نظام ديمقراطي، ولا معنى آخر لهذا الوصف من ناحية نظرية الدولة بما هي دولة، وفي هذا السياق بين بشارة معنى الدولة الديمقراطية بالقول إنها تتلخص في أن النظام الديمقراطي يعيد تشكيل مؤسسات الدولة (البرلمان، الحكومة، القضاء، وحتى عقيدة الجيش وتبعيته) لتصبح مؤسسات ديمقراطية، أي دولة ديمقراطية.

حول التمايز بين الدولة ونظام الحكم

يتحدث عزمي بشارة عن أساسيين للدول الحديثة، يتمثل الأول في البيروقراطية التي تعتبر الأساس المادي لتصورنا لاستمرارية الدولة على الرغم من تغير الأنظمة السياسية، لكن الأساس البيروقراطي ليس الوحيد حسبه فاستمرارية المواطنة على الرغم من تبدل نظام الحكم هي عنصر أساسي في تصورنا للدولة. كما تحدث بشارة في هذا القسم عن بعض المجازات والتوصيفات غير الصحيحة التي انتشرت أخيرًا في شبكات التواصل الاجتماعي كأنها مجاز مكتمل، مثل مجاز الدولة العميقة الذي يستخدم للحديث غالبًا عن شبكات أمنية ذات أجندة ومصالح سياسية خاصة بها داخل مؤسسات الدولة، لكن صاحب "في الثورة والقابلية للثورة" يطرح توصيفات أخرى مثل القول "بأن نظام حكم ما هو نظام سلطوي راسخ في دولة ضعيفة"، بحيث يقع التمييز بين النظام والدولة.

 ويرصد بشارة حالة مهمة في هذا الصدد وهي محاولة بعض الأنظمة السياسية المطابقة بينها والدولة، إذ تطابق بين الولاء لسياساتها الداخلية والخارجية وبين الوطنية، وتؤسس لقواعد في العمل السياسي مفادها أن معارضة النظام الحاكم أو انتقاد سياساته ومواقفه هي أنشطة غير وطنية تمس بأمن الدولة وكيانها. ويعتبر أن هذا التمييز بين الدولة ونظام الحكم يكتسب أهمية بالغة في الثقافة السائدة، وخاصة لناحية تطلع الأمم لنظام الحكم الديمقراطي تحديدًا.

ويخلص عزمي بشارة إلى أن التمييز بين الدولة ونظام الحكم قائم في الحداثة، وأن التماثل الذي تصنعه الديمقراطية بينهما هو تماثل مركب يتجلى في وحدة الدولة وتوزيع السلطات، أما في الدولة السلطوية التي يبدو فيها التمايز واضحًا بين الدولة والنظام، فتضعف مؤسسات الدولة لصالح قوى النظام الحاكم. وفي حالة فرض وحدة الدولة بالقوة من أعلى ينشأ احتمال ظهور الشروخ والتصدعات عند تغيير النظام.

تعريفات الدولة

يعتبر بشارة أن معظم التعريفات المتداولة للدولة غالبًا ما تفي بغرض محدد فقط، مثل اختزال الدولة في جوهرها إلى كونها مؤسسة لإدارة شؤون الطبقة الرأسمالية، أو أنها أداة قمع بيد الطبقة الحاكمة. وينطبق نقد الاختزالية هذه حسب بشارة على تعريفات أخرى تلخص الدولة بالسيادة أو الشرعية، حيث تعرّف السيادة بحدودها القصوى مثل إعلان حالة الطوارئ، ويعتبر بشارة أن هذا النمط من التعريفات يؤسس عمليًا لسلطة الحاكم المطلقة، ويعد كارل شميث حسبه الممثل الرئيسي لهذا الاتجاه.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| جيمس سكوت: هناك دائمًا ما هو تحت رادار السلطة

كما يرى المفكر العربي أن جهد ماكس فيبر الذي ينطلق من كون الدولة جهازًا يحتكر العنف هو محاولة لتجنب تعريف الدولة بذاتها والقيام بدلًا من ذلك بتعريفها بعناصر من خارجها، إلا أن بشارة يلاحظ أن فيبر يقع في تعريف الدولة بذاتها مرة أخرى عندما يعتبرها تنظيمًا سياسيًا قسريًا يحتكر حق العنف الشرعي الذي ليس إلا العنف الذي تمارسه الدولة ويستمد شرعيته من كون الدولة هي التي تمارسه.

اعتبر عزمي بشارة أن نظريات منشأ الدولة ليس في جعبتها الشيء الكثير في فهم نشأة دول ما بعد الاستعمار والوصل والفصل ما بين هذه الدول وبين البنى الاجتماعية التي كانت قائمة قبل نشوئها

ويخلص عزمي بشارة إلى القول إن الدولة الحديثة هي سلطة تحتكر العنف ولديها القدرة على ممارسة هذا الاحتكار على إقليم وسكانه، كما أنها سلطة تشريعية لسن القوانين السارية التي تدار بموجبها شؤون السكان الذين أصبحوا مواطنين بتعريفهم بالقانون وخضوعهم للقانون، وهي كذلك سيادة على إقليم محدد بحدود تسمى الدولة ويمارَس فيها احتكار العنف والتشريع، وحيث أيضًا تمارِس الدولة السيادة على شعب يقع ضمن حدودها خاضعٍ لسلطانها وتمثله السلطة رسميًا أمام الدول الأخرى، فهي دولتُه، هذا بالإضافة لتمتعها بجهاز بيروقراطي محترف متخصص بإدارة الشأن العام بموجب قوانين تنظم عمله.