05-يناير-2023
عزمي بشارة

لا يخشى المفكر عزمي بشارة على اللغة العربية التي لا بديل لها

بثّ التلفزيون العربي، مساء الأربعاء، مقابلةً مع المفكر العربي ومدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عزمي بشارة، ضمن برنامج "قراءة ثانية" حول موضوع "الهوية والهوية العربية.. الإشكالات والمحددات". وتوزعت محاور اللقاء الذي استمر لساعة على مناقشة ثلاث مسائل في هذا الموضوع الإشكالي الذي خصّص له عزمي بشارة حيزًا مهمًا من مؤلفاته. وانصب التركيز في المحور الأول من المقابلة على تفكيك سؤال كيف تتحدد الهوية في عالم متغير، وتناول المحور الثاني من المقابلة الإشكالات التي تطرحها مسألة الانتماء، في حين ركز المحور الأخير على سؤال مركب يتمثل في الكيفية التي تتداخل فيها العلاقة بين الفرد والجماعة وبين الهوية والطائفية السياسية مع التركيز على الحالة العربية.

وحول تعريف كلمة "الهوية"، قال بشارة إن مصطلح الهوية بالأصل مفهوم فلسفي بالدرجة الأولى تاريخيًا ويتداخل مع مفاهيم أخرى كالشخصية الحضارية والطائفية السياسية والإيمان الديني والمظلوميات، ويحمل مفهوم الهوية بناءً على ذلك بعدًا تصنيفيًا بتحويل الصفات إلى انتماءات وتمايزات، وتمتاز الهوية بقابليتها للمأسسة عبر المؤسسات المختلفة مثل المؤسسات الثقافية التي تعبر عن هوية جماعية للمجتمع الموجود، بالإضافة إلى دور النشر والمناهج والجامعات والمدارس والمواطنة والقوات المسلحة والجنسية، وكل هذه الأمور لديها مؤسسات تعمل باستمرار على تكوين شخصية الإنسان، وهذا يؤثر على هوية الناس وفي بعض الأحيان ينصب الناس أنفسهم (بالانتخاب أو بدونه) للتعبير عن الهوية الثقافية في إنتاجهم الفكري والثقافي، وتسهم في إنتاج هذه الهويات.

وأضاف بشارة، أن قضية الهوية هي قضية حديثة تتعلق في نشوء الفرد، لأنه قبل ذلك كانت فقط مصطلح فلسفي، ولكن تحول الهوية إلى قضية اجتماعية وقضية ثقافية في علم النفس الاجتماعي والأنثربولوجيا، هو قضية حديثة ولم تكن قائمةً في الماضي. وقال المفكر العربي إنه في الماضي، عندما كان الإنسان يولد في عائلة ممتدة أو قبيلة، كان ذلك الانتماء الرئيسي، والحياة واضحة والمكانة في الجماعة تحدد كل ما يفعله الفرد منذ مولده حتى مماته، ولا توجد هنا قضية هوية أو تفكير انعكاسي بالذات، إلّا في حالات نادرة مثل الرحالة والشعراء، ولكن حتى في هذه الحالات، يشير بشارة إلى أن القضية بسيطة ولا يوجد تفكير في تعدد الهويات والجماعات والتفكير الإشكالي في الذات. ومن هذه الزاوية تدخل مسألة الكرامة التي تصبح فيها الهوية جزءًا من كرامة الإنسان وتشكل هويته.

أمّا عن انتقال الهوية من الجماعي إلى الفردي، فبين أنه في المجتمعات الحديثة عمومًا يتفرد فيها الفرد ويحصل فيها تذرر، ولا تعود الجماعات العضوية التي يولد فيها الفرد هي المكون الرئيسي في شخصيته، وفي بعض الحالات تتفكك. ويحصل ذلك لأنّها ناتجة عن تفكك المحددات الأوّلية بفعل الانتقال إلى المدينة للعمل والتعليم، ونشوء مؤسسات حديثة لها علاقة مباشرة بالفرد لا تقبل بوساطة الجماعة بينها وبين الفرد، وكلها تدخل في تشكيل هوية الفرد.

وردًا على سؤال يتعلق بما إذا "كانت الهوية مسألة تعريفية تمييزية وتسييجية وحمائية في سياق الهجرة وتغيير الأمكنة شبه المستمر؟"، اعتبر مؤلف كتاب "في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي" أنّ ذلك يخضع لعدة عوامل، من بينها البنية النفسية وحتى الأخلاقية للفرد بمعنى مدى أهمية الانتماء وإثبات الذات والتأكيد عليها مقابل الآخر، بالإضافة للعوامل الاجتماعية، أيّ كيف يتعامل المجتمع مع انتماءات الفرد، ومدى التسامح في تعدد الانتماءات، وهل يوجد تشديد على هوية واحدة يجب أن تكون أساسية في قضية الولاء مثلًا. ويتابع أنه في قضية الولاء، الدولة الحديثة تطالب بحد أدنى من الولاء لا يشاركها فيه أحد، وإذا دخلت القبيلة وطالبت بالولاء الرئيسي لها، هنا يظهر صراع هويات حقيقي، وقد يدخل الفرد، إذا لم يكن متماسكًا، في أزمة هوية.

ومن خلال هذه النقطة نبّه بشارة إلى أن الدولة الحديثة هي مؤسسة تشريعية أولًا وتمارس السيادة على السكان والأرض، كما تحتكر العنف، وعلى الرغم من كونها بالتعريف مؤسسة قسرية لكن لا بد منها، واحتكارها للعنف هو استثنائي لمنع العنف والفوضى.

وحول اختيار الهوية، قال بشارة لا يختار الإنسان عمومًا هوية -باستثناء بعض الحالات مثل الهجرة- وغالبية الناس لا يختارون المواطنة، لكن العلاقات الاجتماعية والمؤسسية، تؤكد على الهوية كمواطن، سواء اختارها أم لا، وهذا يجعله بالتدريج يتبنى هذه الهوية، وتصبح الهوية المواطنية هوية موجودة.

في المحور الثاني انصبّ التركيز على قضية "صراع الهويات" ضمن الدولة الواحدة وبالتحديد الهويات الأقوامية والطائفية والقبلية التي قد تهز الهوية المواطنية وتهمشها وتجعلها عرضة للتلاشي أمام أي أزمة. وفي هذا الصدد يرى صاحب كتاب "الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيّلة" أن تعامل المؤسسة وهي هنا الدولة مع من ينتسبون إليها يحدد مدى تحولّ مواطنتهم إلى هوية أم لا.

وتابع بشارة حديثه، معتبرًا أن المواطنة هي القضية الرئيسية الآن، قائلًا: "إذا كانت الدولة تتعامل مع المواطنة بجدية، في قضايا المساواة أمام القانون والمساواة في الخدمات، فهذه المساواة تمنح للفرد شعورًا بأهمية المواطنة ويجعلها متينة ومهمة بالنسبة إليه وتأتي على رأس قائمة تعريفه لنفسه، بغض النظر عن عمر الدولة". أمّا عن الهويات الضعيفة، فقال إنه  إذا كانت الدولة تتعامل مع الفرد عبر قناة طائفية أو زعماء طائفيين وبناءً عليها يتلقى الخدمات تحدّد حقوقه فهنا تصبح هويته الطائفية أهم من هويته المواطنية التي تضعف إلّا إذا كان الشخص واعٍ جدًا فكريًا وأخلاقيًا.

وحول ثقافة المشاركة، أشار بشارة إلى أنه لا تكفي الخدمات والمساواة أمام القانون، وهناك بعد ثقافي  يكثّف الهوية المواطنية أو يجعلها ضامرة فقيرة. بمعنى أن الدولة التي تحظى بعمق تاريخي، تكون قد كوّنت لدى المنتمين إليها بعد انتمائيًا ثقافيًا مشتركًا، في ظل نفس الإدارة على مدى حقبة زمنية طويلة، وفي هذه الحالة الثقافة المشتركة تعطي متانةً أكثر للهوية، ولكن في الحالات التي لم يكن الكيان في أي يوم حقيقي وخلق نتيجة التقسيمات الاستعمارية، تحتاج الدولة إلى بذل جهد أكبر في إعطاء بعد وجداني وثقافي للمواطنة، وإذا لم تفعل ذلك وتعاملت عبر انتماءات أخرى مثل الطائفة أو الجهوية أو العشائرية تضعف المواطنة.

وتوظيفًا لهذه المقاربة في سياق الدولة العربية، بمعنى ما إذا كانت الدولة العربية دولة مواطنة تتعامل مع المواطنين على قدم المساواة دون تمييز أو دون توسط قناة طائفية أم دولة لم تتجذّر فيها قيم المواطنة وتترسّخ، يرى بشارة أن دولة المواطنة مسألة لم تنجز عربيًا حتى الآن، باستثناء بعض الدول الريعية التي تبدو كذلك وهي دولة غنية تستطيع توزيع الثروة على المواطنين مما يعطي عمقًا لمسألة الهوية وتوزيع الكثير، لكن هذا لا يعني أن مسألة المواطنة بمعنى المساواة أمام القانون وغيره قد أنجزت، ويظهر ذلك في غالبية الدول العربية بوضوح لأنها لا تمتلك موارد لتوزيعها.

وجرى التركيز في المحور الأخير من الحلقة على النموذجين المصري والعراقي. ففي الحالة المصرية، قال بشارة إن هناك هوية مصرية مشتركة فيها أكثر من مُحدِّد، ولفت إلى أنه في المرحلة الناصرية تم التشديد على الهوية المصرية العربية وتراجعت أو هُمّشت الهوية الطائفية. وجاء التشديد على الهوية العربية للتأكيد على دور مصر القيادي، أي أن هناك شيء مصري وطني وعروبي في الوقت ذاته. ونوّه إلى التجانس الإثني في مصر الذي برز جليًا في ثورة 25 يناير، لكن السياسيين والمزادوات الحزبية والحركات الدينية وغيرها من الأسباب أعادت إحياء وسيست الشروخ الطائفية. فيما أضاف أنه "بالمجمل، مصر من الدول المؤهلة لتكون دولة ديمقراطية نتيجة لهذا التجانس الإثني من جهة ووجود شعور قومي مصري، وهي من الدول المرشحة للديمقراطية لأنه لا يوجد فيها شروخ اجتماعية عميقة تقسم المجتمع عموديًا".

أما بالنسبة للنموذج العراقي فهو حالة نموذجية لتعدد إثني وغياب هوية قومية جامعة، فهناك أغلبية عربية وأقلية كردية، ولا توجد هوية عراقية جامعة، والمواطنة هي الأمر الوحيد الذي يمكن أن يجمع السكان. وأضاف عن العراق "التجربة التي فرضت بالحرب والنخب الطائفية التي أسهمت في دعم الاحتلال للعراق، فرضت محاولات لتهميش الهوية العربية للعراقيين، وكانت النتيجة انقسام طائفي شيعي وسني، وثبت أن البديل للهوية العربية للغالبية في المشرق العربي، ليس هويةً محليةً، وإنما انقسام طائفي أو قبلي، فالهوية العربية هي الهوية الجامعة للأغلبية العربية".

واستكمل بشارة حديثه عن العراق، قائلًا: "إذا تعاملت الدولة مع المواطنين بالتساوي، بالرغم من الاختلافات المتعددة، يمكن أن تكون المواطنة متينة وتحافظ على وحدة العراق". وأكد على اعتبار أن المواطنة تتضمن الواجبات وهي وحدة من الحقوق والواجبات، وهي "مسؤولية وليست مطلبية فقط مع الشعور بالانتماء".

عزمي بشارة: العرب شهدوا في مختلف الأقطار العربية، بما فيها العراق، تيارات وطنية واعتزازًا بالثقافة العربية ومدننة ومقاومة للاحتلال الإنجليزي، انصهرت فيها جميع الحساسيات والإثنيات والطوائف

وناقش المفكر العربي في هذا الصدد مسألتين، المسألة الأولى هي "صخرة الاستبداد وكتم الطائفية"، بمعنى أن هذه المجتمعات كانت طائفية طيلة مسارها التاريخي والاستبداد هو الذي غطّى على الطائفية أو كتم أنفاسها، وبزواله عادت الطائفية. ورفض بشارة هذا الطرح، قائلًا إن تهميش كل شيء واعتبار كل ماضينا سيئًا هو غير صحيح"، متابعًا أن العرب شهدوا في مختلف الأقطار العربية، بما فيها العراق، تيارات وطنية واعتزازًا بالثقافة العربية ومدننة ومقاومة للاحتلال الإنجليزي، انصهرت فيها جميع الحساسيات والإثنيات والطوائف، وتشكلت أحزاب من كل الطوائف. وقال إن الطائفية كانت موجودة لكنها كانت اجتماعية ولم تكن طائفية سياسية عابرة للحدود.

وأضاف بشارة "من لعنات احتلال العراق، أن هناك دول تتبنى طوائف، والطوائف تتحارب"، ولم تكن هذه الحالة إلّا في لبنان الذي كان يشكل استثناءً وليس قاعدةً في تجارب المجتمعات العربية خاصةً في المشرق العربي. بناءً على ذلك ميّز بشارة بين الطائفية السياسية والطائفية الاجتماعية المحلية التي هي أقرب إلى تعاضديات اجتماعية يصفها بالظاهرة الصحية، قائلًا: "لولا هذا التعاضد الاجتماعي لأفقر الناس وماتوا جوعًا، وهذا ما يجعل الناس تستمر في سوريا ولبنان، وهناك شيء أجمل مثل إنشاء أوقاف طائفية للمدراس التي يتعلم فيها أشخاص من جميع الطوائف أو مستشفات يتعالج فيها ناس من جميع الطوائف، ولا أرى أن هذا شيء سيئ حتى لو لم يكن مناسبًا للغرب". والإشكالية كما يقول بشارة تكمن في الطائفية السياسية التي تتعامل مع الدولة كغنيمة ومع أفرادها كقطيع. مؤكدًا على أن الطائفية السياسية تضرب المواطنة والدولة، ونتائجها ماثلة في لبنان والعراق وسوريا.

في المحور الأخير، جرى تناول مسألة الهوية والعولمة، وبالتحديد من بوابة تهديد اللغة العربية باللغات الأجنبية التي سادت في التعليم والبيوت والإعلام، وردًّا على هذه الإشكالية، اعتبر بشارة أن الهوية العربية هوية ثقافية قبل كل شيء تعتمد على اللغة والثقافة المشتركة وليس النسب، مضيفًا أنه لا يخشى على اللغة العربية التي لا يوجد بديل لها لكونها لغة الحياة اليومية وارتباطها بالمقدّس في حياة هذه المجتمعات.

ويتابع المدير العام للمركز العربي للأبحاث بأنه لا توجد دول في العالم، بدون لغة معيارية: "أنت تحتاج إلى لغة معيارية، لغة يشيد من خلالها المجتمع، وفي حالتنا لا يوجد بديل للغة العربية". واعتبر بشارة أيضًا أن العبث بهذا الموضوع يضر دون فائدة.

العروبة هي الثقافة الجامعة لنا، والدولة، على عكس الحالة الأوروبية، ليست واسطة العربي للعروبة

واختتم بشارة حديثه بأن الهوية العربية هوية جامعة لكن متنوعة بحكم الهويات الوطنية ويجب أن نقبل ذلك بحكم الواقع، لكن العروبة هي الثقافة الجامعة لنا، والدولة، على عكس الحالة الأوروبية، ليست واسطة العربي للعروبة.