04-يناير-2022

الدكتور عزمي بشارة

الترا صوت – فريق التحرير

 

 

قدم المفكر العربي، عزمي بشارة، اليوم الثلاثاء، محاضرة بعنوان "الشعبوية والأزمة الدائمة للديمقراطية"، وهي محاضرة تأتي ضمن المدرسة الشتوية التي يعقدها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بعنوان "الشعبوية: أنماط ونماذج".

استهل بشارة المحاضرة بالتأكيد على ضرورة فهم الشعبوية وتحديدها مفاهيميًا، لأن عدم تحديد المصطلح واعتبار الشعبوية تجريدًا من كل ما يوصف بها، يجعل منها نوعًا من الديماغوجيا

واستهل بشارة المحاضرة بالتأكيد على ضرورة فهم الشعبوية وتحديدها مفاهيميًا، لأن عدم تحديد المصطلح واعتبار الشعبوية تجريدًا من كل ما يوصف بها، يجعل منها نوعًا من الديماغوجيا. كما أن هذا التعريف الفضفاض يجعل من كل الحركات السياسية شعبوية.

اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة "في الإجابة على سؤال: ما الشعبوية".. مصادر المفهوم ومساراته

على النقيض من ذلك، يرى المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات أنه يصبح لمصطلح الشعبوية قيمة تحليلية عندما يتم تحديدها كظاهرة قائمة بذاتها، وليس كصفة تطلق على مجموعة ظواهر عديدة. وبنفس الطريقة، فإن الشعبوية رغم أن فيها جوانب أيدولوجية، ليست أيدولوجيا بحد ذاتها، لا ضامرة ولا مكتنزة، وإنما لها مثل أي خطاب جوانبَ أيدولوجية. على سبيل المثال، يرى بشارة أن جزءًا من هذا الخطاب يمجد الشعب ويعتبره جماعة نبيلة، وهذا جانب أيدولوجي، لكنه لا يجعل الشعبوية أيدولوجيا قائمة. الشعبوية كخطاب إذًا، يمكن أن تستخدمها أي حركة أيدولوجية، وهي غالبًا ما تنتج تشكيلات خطابية خاصة بها، مثل الشعب، الذي يتم وصفه كجماعة نبيلة أو حقيقية، والنخبة، التي توصف بأنها سيئة.

وتاريخيًا، بحسب ما يجادل بشارة، فإن العلوم الاجتماعية استخدمت في الخمسينات والستينات مصطلح الشعبوية كثيرًا لوصف أنظمة سلطوية في دول ما بعد الاستعمار، في أمريكا اللاتينية وأفريقيا والوطن العربي. تم وصف هذه الأنظمة بأنها شعبوية لأنها اعتبرت مصدر شرعيتها الشعب، واستنادا إلى هذه الشرعية أرادت القيام بالتحديث من أعلى، كما استخدمت مقولات مثل أن الشعب نبيل وسامٍ ويجب الإيمان بطاقاته مقابل الطبقات القديمة والملكية والنخب المرتبطة بالاستعمار.

مع ذلك، فإن هذه الأنظمة السلطوية التي وصفت بالشعبوية العالمثالثية، اختفت. وعلى هذا النحو، يرى بشارة أن الظاهرة الشعبوية التي تستحق الدراسة ويمكن بلورة مصطلح مفيد منها، هي الظاهرة الشعبوية التي تتولد داخل الديمقراطيات. على سبيل المثال في الوطن العربي يشير بشارة إلى أنه قد كانت هناك حالتا انتقال ديمقراطي، فاشلة وناجحة. فنموذج مصر الذي فشل في إنجاز تحول ديمقراطي، ونموذج تونس الناجح الذي وقع مؤخرًا في أزمة. في مصر لم يتم استخدام مصطلح الشعبوية لتحليل ما حدث، إذ إن هناك نخبًا سياسية فضلت الصراع السياسي العلماني الديني على إنجاح الديمقراطية. كما أنه لم يتم الحديث عن شعبوية، لأن كل الأحزاب استخدمت أساليب شعبوية، مثل الخطابات التحريضية والتبسيطية، والديماغوجيا.

على الجانب الآخر، ومع أزمة الديمقراطية في تونس، نستخدم الآن مصطلح الشعبوية في وصف ظاهرة رئيس منتخب، يستخدم خطابًا شعبويًا ضد المؤسسات الديمقراطية. إذ إن توقعات وخيبات الأمل من الثورة، وتعمق اللا مساواة بعد عشر سنوات من سقوط النظام القديم، وانتخابات برلمانية قدمت منهجًا متشظيًا وحزبيًا، وتنقل الناس بسهولة من حزب لحزب، وعجز البرلمان، أفقدت كلها الناس الثقة بالعملية السياسية وبالنخب السياسية عمومًا. وتم نشر مبالغ فيه للسرديات حول الفساد، وكأنه هو أًصل الأزمة، وليس السياسات الخاطئة والاستغلال، والتخطيط السياسي الخاطئ، والنظام الطبقي.

تسببت خيبات الأمل هذه بعزوف التونسيين عن المشاركة السياسية. وفي خضم ذلك، يأتي شخص غير معروف وبلا ماض سياسي، يتم انتخابه ليس لما فيه، ولكن لما ليس فيه، لأنه ليس سياسيًا ولا رجل أعمال. وبحسب بشارة، فإن خطابه الذي يتبنى نزعة شعبوية كلاسيكية، يضع الشعب الجيد ضد المؤسسات السيئة، ويتحدث عن نخب ومؤامرات، ويصف المعارضين بالخونة، ويتسم بالعداء للمؤسسة البرلمانية.

 يرى بشارة أن الظاهرة الشعبوية التي تستحق الدراسة ويمكن بلورة مصطلح مفيد منها، هي الظاهرة الشعبوية التي تتولد داخل الديمقراطيات

بعد التأكيد على كون الشعبوية قابلة للدراسة تحليليًا داخل الديمقراطيات، يجادل بشارة بأن هذه الظاهرة تنتج آثارًا مختلفة على الديمقراطية الراسخة مقابل الديمقراطية الوليدة. تاريخيًا، وفي الديمقراطيات الراسخة، غالبًا ما كانت الشعبوية مفيدة لتطوير الديمقراطية نفسها، أما في الديمقراطيات الوليدة فغالبًا ما كانت الشعبوية خطرًا حقيقيًا، في ظل غياب تعود على الديمقراطية، وعدم التزام المؤسسات غير المنتخبة بالمبادئ الديمقراطية، مثل القضاء والجيش.

توترات ثلاثة تتغذى عليها الشعوبية

من خلال عدة أمثلة تاريخية، يوضح صاحب "في الإجابة على سؤال ما الشبعوية"، أن التعايش بين الليبرالية والديمقراطية هو تعايش جديد عمره مئة عام بالكاد، وشابته أزمات عديدة. فلا الديمقراطيون كانوا ليبراليين ولا الليبراليين كانوا ديمقراطيين. كان هناك شك دائم من قبل الليبراليين بالمشاركة الشعبية الواسعة التي رأوا أنها خطر على القيم الليبرالية. في حين أن الديمقراطيين اعتبروا الليبراليين نخبًا تسعى إلى احتكار السلطة. وعلى هذا النحو، فإن غالبية الصراعات حول توسيع حق المشاركة بالتصويت كانت بين هذين الطرفين.

هنا، يقترح بشارة أن هناك ثلاثة توترات أساسية تتغذى عليها الشعبوية، أولها الصراع بين مكوني هذا التعايش الديمقراطي الليبرالي.

التوتر الثاني، يأتي بين الديمقراطية المباشرة والديمقراطية التمثيلية. أي التوتر - الذي قد يصل إلى عدم الثقة - بين الجمور والممثلين عنه، واعتبار أن حالة التمثيل هي تشويه لإرادة الناس. من جانب يصبح الوجود في السلطة هدفًا بذاته، وليس مسعى لتمثيل الناس، ومن جانب آخر، يبني الشعبويون على هذه الحالة. لتوضيح كيف تتغذى الشعبوية على هذا التوتر، يمكن النظر في الطريقة التي تستهدف فيها الشعبويات النواب وممثلي الشعب، وكيف يدافعون عن الحكم المباشر، دون تقديم أي صيغة لحكم مباشر.

أما التوتر الثالث بحسب بشارة، فهو مع المؤسسات غير المنتخبة التي يركز عليها الليبراليون، مثل المحكمة الدستورية. في حين أن الشعبويين يركزون على عدم الثقة بالسياسيين، فإن الليبراليين يقومون بالأمر نفسه أيضًا، من خلال المطالبة بمؤسسات غير منتخبة لممارسة الرقابة على السياسيين المنتخبين. عمومًا فإن اليمين الشعبوي يضيق بهذه المؤسسات، التي تتحول إلى أحد أهدافه الأساسية.

إن هذه التوترات كما يشرح المفكر العربي موجودة في أي ديمقراطية، حتى لو كان فيها نظام اجتماعي عادل. وستبقى قائمة في جوهر وبنية الديمقراطية، وغالبًا ما كانت محركًا لتطور الديمقراطية نفسها، باتجاه توسيع حق الاقتراع واحتواء الحركات الشعبوية منذ الستينات التي أصبحت جزءًا من المؤسسة الديمقراطية. مع ذلك، وفي الديمقراطيات الهشة، فإن الشعبوية قد تكون تهديدًا حقيقيًا.

أخيرًا، يتطرق بشارة إلى الحركات الشعبوية الجديدة التي نشأت ما بعد دولة الرفاه والتحولات ما بعد الصناعية، وصولًا إلى انتصار نموذج النيوليبرالية، وتعود الديمقراطية الليبرالية عليها، والعولمة، واستيراد الهجرة من الخارج، الذي حول من الهوة الاقتصادية المتسعة أصلًا أزمة ثقافية، متعلقة بتعدد الثقافات، وطرح أسئلة متعلقة بالهوية. هنا، ترافق الاحتجاج الاقتصادي مع احتجاجات إثنية وهوياتية، تركز على الشعب و"نحن" الإثنية المتخيلة، وليس على الطبقات. وأصبحت الجركات الشعبوية تركز خطابها ضد النخب الكوزموبولتية المعولمة التي أضاعت هويتها من وجهة نظر هؤلاء.

 يقترح بشارة أن هناك ثلاثة توترات أساسية تتغذى عليها الشعبوية، أولها الصراع بين مكوني هذا التعايش الديمقراطي الليبرالي

وفي عالم من اللايقين، يرى بشارة أن اليقين قد بات يكمن في الهوية، وفي الحميمية وهذه الـ"نحن" الإثنية، وهو أمر لا يمكن لليسار أن ينافس اليمين فيه. حيث يتم افتراض وجود شعب حقيقي وأصيل، غالبًا ما يكون ضحية غاضبة، ودائمًا ما يكون العدو غير معرف إلا بأنه "الآخر"، الذي يتم تحديده خطابيًا. هذا الشعب، المتخيل خطابيًا، لم تتح له الفرصة لأن يحكم، إما نتيجة للبرلمانيين الذين يسيئون التمثيل، أو بسبب المؤسسات غير المنتخبة، سواء المحلية أو الإقليمية مثل حالة الاتحاد الأوروبي.

أخيرًا، يلخص بشارة حديثه باقتراح أن التعريف التحليلي للشعبوية كظاهرة، لا بد وأن يستند إلى ثلاث عناصر، وهي أولًا الخطاب وتركيباته، مثل الشعب والنخب، وثانيًا السياسيين والقادة الشعبويين، وأخيرًا الحركات الشعبوية.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

انطلاق أعمال الدورة الثالثة للمدرسة الشتوية بعنوان "الشعبوية: أنماط ونماذج"

"المدرسة الشتوية" في دورتها الثالثة.. نقاشات حول أنماط الشعبوية ونماذجها

عزمي بشارة "في الإجابة على سؤال: ما الشعبوية".. مصادر المفهوم ومساراته