09-سبتمبر-2023
رسم لـ لويزا ماركيز

رسم لـ لويزا ريفيرا/ تشيلي

"في قرية نائية عانت جرّاء الاستعمار، عاش صبي وجدّته في منزل كبير حامت حوله حكايات خيالية ينسجها العامة الفضوليون، لكن هذا الكلام لم يصل إلى أذني الصبي الذي اكتفى بمنزله وجدّته بعد وفاة والديه. وحتى وإن وصل إليه الأمر، فما كان ليتفاجأ بل سيؤكد لهم هذا الكلام، إذ تُحدِّثه جدته باستمرار عن أشباح المنزل وتنقل إليه إرشادات أهله بنفس النبرة التي تحدِّثه بها عما سُتعد له من طعام، وقد اعتاد هو نفسه على الأشياء الغريبة التي تحدث وإن كان مغزاها ما زال لغزًا بالنسبة إليه، لكنها كتابًا مفتوحًا بالنسبة إلى جدته". 

يمكن بسهولة أن تكون الفقرة السابقة مطلع رواية تنتمي إلى أدب أمريكا اللاتينية أو الأدب العربي، إذ تبيَّن أن هناك الكثير من الأمور التي تجمع هذين الأدبين. 

الجسر الواصل بين العالمين

يشترك العالم العربي وعالم أمريكا اللاتينية في بعض العوامل التاريخية والاجتماعية التي يتردد صداها جليًا في أعمال كُتّابهما، وأول عامل والذي يُعدّ الأكثر وضوحًا وتأثيرًا هو التاريخ الاستعماري، إذ تعرضت العديد من الدول العربية مثل مصر والجزائر وتونس وغيرها للاستعمار من قبل القوى الأوروبية. وبالمثل، تم استعمار العديد من دول أمريكا اللاتينية مثل المكسيك والبرازيل من قِبَل الدول الأوروبية، وكان للاستعمار آثاره الدائمة على الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في كلا المنطقتين.

يمكن من خلال روايتي "مئة عام من العزلة" و"الحرافيش" دراسة التغيّرات الاجتماعية والسياسية في العالم العربي وأمريكا اللاتينية

ومع الاستعمار يأتي قمع الأصوات، والتوق إلى الحرية والكفاح من أجل الاستقلال. وبالفعل ظهرت في كلا المنطقتين العديد من الحركات المناهضة للاستعمار وتكميم الأفواه المبدعة، كما واجهت المنطقتان مشكلات عدة تتعلق بعدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية، والفقر والتفاوت في الثروات.

وكثيرًا ما كانت هذه الفوارق مصدرًا للاضطرابات الاجتماعية والسياسية التي أدلت بدلوها على الإنتاج الأدبي، وهو ما ظهر، على سبيل المثال، في روايتي "بيت الأرواح" للكاتبة التشيلية إيزابيل الليندي، و"موسم الهجرة إلى الشمال" للأديب السوداني الطيب صالح، إذ تتناول الروايتان - بالرغم من اختلافهما البادي من الوهلة الأولى -  تعقيدات ما بعد الاستعمار والهوية واكتشاف الذات.

إذ تعكس رواية "بيت الأرواح" تأثير الاستعمار الإسباني في تشيلي من خلال عائلة "تروبا" وصراعات أفرادها مع هوياتهم داخل المجتمع التشيلي المتغير، وتستكشف "موسم الهجرة إلى الشمال" التجربة الاستعمارية للسودان في ظل الحكم البريطاني وتداعياته، وتأثيرها في أزمة الهوية التي يواجهها بطلها مصطفى سعيد وهو يتنقل بين الثقافات المتناقضة في السودان وإنجلترا.

بالإضافة إلى ذلك، تفتخر كلتا المنطقتين بتراث ثقافي وتاريخي غني يتخلل أدبهما، إذ غالبًا ما يعتمد المؤلفون من أمريكا اللاتينية والعالم العربي على تقاليدهم الثقافية والفولكلور والأساطير لإضفاء العمق والسحر على رواياتهم.

الواقعية السحرية مننا وإلينا

وعلى ذكر السحر، لا يمكن إغفال الهدية التي قدّمها أدباء أمريكا اللاتينية إلى العالم الأدبي. أو، على الأقل، وضعوا لها اسمًا، وهي فكرة الواقعية السحرية في الأدب. ومع ذلك، لا بد من الإشارة إلى أنه يُقال إن جذور هذه الفكرة أو المدرسة الأدبية يمكن إرجاعها إلى حكايات "ألف ليلة وليلة" الساحرة باعتبار أنها أسبق نموذج معروف للواقعية السحرية في الأدب العالمي كله.

ولكن ما هي الواقعية السحرية بالضبط؟ إنها تقنية سردية تطمس الخط الفاصل بين الواقع والخيال، إذ تلحق أحداثًا وشخصيات وعناصر غير عادية بالأحداث العادية كما لو كانت جزءًا من الواقع اليومي، ومن دون تقديم أي تفسير لها. ففي الواقعية السحرية، يتعايش ما هو استثنائي مع ما هو عادي، وسرعان ما أصبحت الواقعية السحرية سمة مميزة لكل من الأدب الأمريكي اللاتيني والعربي، حيث تأسر القراء وتدعوهم لاستكشاف الجوانب الغامضة والخيالية للتجربة الإنسانية.

بين ماكوندو والحارة المصرية "فركة كعب"

لا توجد أمثلة أفضل من روايتي "مئة عام من العزلة" للكاتب الكولومبي الحائز على جائزة نوبل غابرييل غارسيا ماركيز، و"ملحمة الحرافيش" للروائي المصري نجيب محفوظ الحائز كذلك على جائزة نوبل، تجسد احتضان نوعي الأدب للواقعية السحرية كأداة قوية وفعالة في سرد القصص، مع التأكيد في الوقت ذاته على أوجه الشبه بين الأدب العربي وأدب أمريكا اللاتينية.

إذ يعمل كلا العملين بمثابة عدسات يمكن من خلالها دراسة التغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية في مناطقهما، حيثُ تجسد رواية ماركيز جوهر ثقافة أمريكا اللاتينية، والفلكلور، والتاريخ والسياسة، مُستخدمًا ملحمة ستة أجيال من عائلة بوينديا لتناول قضايا كبرى عدة مثل الاستعمار والثورة والدكتاتورية، بالإضافة إلى تناول قضايا إنسانية مثل مفهوم العائلة والحب والعزلة.

وكذلك تفعل "الحرافيش" التي تقدم ملحمة عائلية متعددة الأجيال تكشف عن لوحة حية للمجتمع المصري، بتقاليده وعاداته وصراعاته. ولا تقتصر فقط على المجتمع المصري، إذ تستكشف الرواية الجوانب العالمية للطبيعة البشرية بما فيها من طموح ورغبة وحب وجشع تجعل أي شخص من أي عالم كان يجد نفسه في إحدى شخصياتها.

يشترك العالم العربي وأمريكا اللاتينية في عوامل عديدة يتردد صداها جليًا في أعمال كُتّابهما، أولها وأكثرها وضوحًا وتأثيرًا هو التاريخ الاستعماري

أما عن دور الواقعية السحرية في الروايتين، فقد مزجت رواية ماركيز أحداثًا ووقائع خارقة للطبيعة مع الواقع لتخلق قصة تشبه الحلم يمتد أثرها ومحاولات تفسيرها حتى اليوم، ويدمج محفوظ أيضًا التصوف والخيال في الحياة اليومية لشخصياته، ويستخدم الرمزية والعناصر الغامضة لتعزيز السرد القصصي لنقل موضوعات ورؤى أعمق حول مجتمعه وتاريخ البشرية بوجه عام، إذ يقول محفوظ على لسان إحدى شخصياته: "ما تاريخ أسرتنا إلا سلسلة من الانحرافات والمآسي والدروس الضائعة".

أظن أن أي شعب قد يرى في هذه الجملة تعريفًا لوجوده، ويبرهن هذا التقارب بين العوالم المختلفة على القوة الدائمة لسرد القصص، وأنه على الرغم من الاختلافات الجغرافية والثقافية، فإن التجربة الإنسانية وسحر الأدب يظلان عالميين، ويتجاوزان الحدود ليأسرا القراء في جميع أنحاء العالم.