18-ديسمبر-2022
نجيب محفوظ

نجيب محفوظ

 يورد جورج طرابيشي في الجزء الأول من أعماله النقدية الكاملة قسمًا خاصًا يتتبّع فيه "الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية"، ويتحدّث طرابيشي في هذا القسم حول الكيفيات التي حضرت فيها "مشكلة الله" في روايات وقصص نجيب محفوظ، وذلك منذ روايته "أولاد حارتنا" التي نُشرت في أواخر الخمسينيات مسلسلة في جريدة الأهرام، وواجهت العديد من الاعتراضات من قبل العديد من الفئات المجتمعية المحافظة، حيثُ هوجم محفوظ على إثر نشرها، وطالبت العديد من الجهات المصرية بمحاكمته، وتمّ منع الرواية من الطباعة والنشر في مصر حتى عام 2006.

لم تنته قصة رواية "أولاد حارتنا" عند حدود المنع لسنوات طويلة، بل تجدّد الحديث عنها عند حصول محفوظ على نوبل عام 1988، حيث عاد النقاش حول الرواية ومضامينها إلى الواجهة، لتتجدّد معه دعاوى تكفيره

لم تنته قصة رواية "أولاد حارتنا" عند حدود المنع لسنوات طويلة، فقد تجدّد الحديث عنها عند حصول محفوظ على جائزة نوبل للآداب عام 1988، فحصوله على الجائزة أعاد النقاش حول الرواية ومضامينها إلى الواجهة، لتتجدّد معه دعاوى تكفيره، ولتصدر العديد من فتاوى الشيوخ التي تطالب بمحاسبته وإهدار دمه نتيجة كفره وخروجه عن الملة.

وكانت نتيجة هذه الدعاوى والفتاوى محاولة الاغتيال المعروفة التي تعرّض لها محفوظ في تاريخ 14 تشرين الأول/أكتوبر من عام 1994، وذلك عندما قام شاب بالاستجابة للفتاوى التي تُبيح إهدار دمه، وقام بطعنه في رقبته عدة طعنات تضرّر منها لكنّه نجا.

والتفكير في حادثة الاغتيال التي تعرّض لها محفوظ نتيجة قيامه بمعالجة "مشكلة الله" في روايته "أولاد حارتنا" تدفع إلى التساؤل حول كيفية حضور هذه المشكلة في كتابات نجيب اللاحقة على الرواية، وإذا ما كانت الاعتراضات التي وجهّت له قد دفعته إلى اتخاذ منحى خاصًا في الكتابة عن هذه المشكلة ومعالجتها.

وعن ذلك يورد طرابيشي في الجزء الأول من كتاباته النقدية، بأنّ محفوظ ونتيجة للاعتراضات التي وجّهت له على "أولاد حارتنا"، فقد وُضع أمام أحد الأمرين "إما أن يُقلع نهائيًا عن معالجة مواضيع مماثلة، وإما أن يلجأ إلى الترميز ويشتط في التورية إلى حدّ التجريد، بحيث تخفى الحقائق وراء برقع صفيق من الظواهر".

وبحسب طرابيشي فإنّ محفوظ قد اختار "المضي قدمًا إلى الأمام في استخدام الرمز، البالغ في التعقيد والتجريد درجة اللغز، أداة للتعبير الفني".

فبحسب طرابيشي، فإنّ الضغط الاجتماعي الكبير الذي تعرّض له محفوظ جراء لجوئه إلى الترميز المباشر في معالجة "مشكلة الله" في روايته "أولاد حارتنا"، قد دفع به إلى اتباع أسلوب ترميز أكثر تعقيدًا وتجريدًا في معالجة هذه المشكلة في كتاباته اللاحقة.

وفعلًا فإنّ المطلّع على القراءة التفسيرية التي أوردها طرابيشي في بعض أعمال نجيب محفوظ التي حضرت فيها "مشكلة الله" كمشكلة مركزية مثل روايتي "الطريق" و"الشحاذ"، وقصص "حكاية بلا بداية ولا نهاية"، يُلاحظ بأنّ هذه القراءة تفتح له آفاقه التأويلية، وتُساعده في فكّ نظام الترميز الصعب والملغز الذي استخدمه محفوظ في معالجة تلك المشكلة فيها.

ويُمكن التأكيد بأنّ الإنسان العادي غير المتخصّص في النقد والتأويل، ومهما كان يمتلك من ملكات تأويلية وتأملية في النصوص التي يقرأها ويطالعها، سيقف عاجزًا عن فكّ هذا النظام الترميزي المعقد الذي استخدمه محفوظ في كتاباته التي عالج فيها هذه المشكلة.

فكأنَّ هذا النظام الترميزي الذي استخدمه محفوظ في كتاباته حول "مشكلة الله"، لم يُرد منه فقط مواجهة الضغوط الاجتماعية التي وقعت عليه، بل أراد منه أن يمكّن كتاباته من أن تكون موجّهة إلى فئة خاصة، تمتلك الجلد والصبر على قراءة مؤلّفاته بروح تأويلية حاضرة، لا تكتفي فقط بالقراءة والتأويل الذاتي، بل تتوجّه إلى قراءات تأويلية وتفسيرية أخرى ليتوضّح لها ما استعصى عليها فهمه.

وربّما كان استخدام نجيب محفوظ وغيره من الأدباء الآخرين للرمز المعقّد في كتاباتهم هو أسلوبهم الخاصّ في استقطاب ومعازلة القارئ النخبوي، الذي لا يقف عند الحدود السطحية للكلمة المكتوبة، بل يلجأ إلى استخدام تأويله الذاتي وتأويلات الآخرين وقراءتهم التفسيرية حولها من أجل الولوج إلى ما فيها من معانٍ مبهمة وطبقات خفية.