تجعلك هذه الرواية الفانتازية تشعر بالحنين إلى الروايات الواقعية، هناك حيث الشخوص يحاكون بشرًا عاديين من لحم ودم، يسيرون على أرجلهم مثلنا، ويسكنون بيوتًا مثل بيوتنا، ويأكلون كما نأكل، ويموتون كما نموت، وليس لديهم أجنحة يطيرون بها، ولا يقررون موتهم بأنفسهم بأن يضعوا أصابعهم في آذانهم إلى أن يتلاشوا شيئًا فشيئًا، ولا يُزرعون في الأرض كالبطاطا، ولا تنجبهم أشجار عجائبية. وحيث الطبيعة تسير وفق قوانينها الراسخة، لا كما يشاء لها العرافون والكهنة والسحرة. وحيث الأموات يغزون الأحلام والكوابيس وحسب، والأشباح هم أبطال الحكايات التي نعرف جميعًا أنها خرافية.
عندما يصبح تحطيم قيود الواقع طريقة راسخة وشبه رسمية في الكتابة، ويصبح "الخيال المجنح" واجبًا لازمًا على كل كاتب، فإننا نصير بحاجة إلى التغيير مجددًا
شيء آخر تقدّمه الرواية الفانتازية هذه (لا داعي لتحديد هويتها فهي مجرد مثال): التذكير بالحكمة الذهبية التي مفادها أن كل شيء في الحياة، عملًا أو فنًا أو طبخًا أو صناعة، هو رهن بالمعايير والنسب والمقادير.. لا قيمة مطلقة، ولا عنصرًا حاسمًا أبدًا، ولا ورقة رابحة في كل وقت، وما من كلمة سحرية تنفع في كل زمان ومكان.
النجاح نتاج خلطة خاصة تضبط المقادير، وتوازن العناصر، وتتكيف مع السياق، وتتواءم مع المقاصد والغايات.
على خلاف ذلك، فإن الرواية التي بين يدي تنطوي على النقيصتين: الرهان على عنصر واحد هو الخيال الجامح، وإذا بالصفحات تزدحم إلى حد الإملال بالخوارق والعجائب والأشباح الغاضبة والأرواح الهائمة والبشر الذين ما هم ببشر، ما يثير الحنين إلى أمر طبيعي أو كائن عادي واحد.
وبالتالي، فالنقيصة الثانية هي غياب أي توازن في الخلطة، بل غياب الخلطة نفسها، لنكون أمام فوضى شاملة وانعدام تام للانسجام.
والواقع أن الأمر لا يقتصر على هذه الرواية، فنحن أمام ظاهرة لا تزال مزدهرة، حيث تكثر الروايات الفانتازية و"السحرية" التي يُطيّر فيها الكتّاب بشرًا وحيوانات وجمادات، ويحولون الطبيعة إلى مهرجان من الجنون المستمر، محاولين بذلك تجسيد عبارة مكرورة إلى حد الابتذال: "إن الرواية هي ميدان الخيال".
لقد كانت الواقعية السحرية نعمة على فن الرواية، إذ أنتجت عددًا من الروايات الفاتنة الخالدة التي كسرت تقاليد راسخة مستنفدة، وجددت رؤى وطرائق كتابة عتيقة.
ولكنها كانت نقمة أيضًا، إذ أطلقت موجة، بل موجات، من المقلدين المستنسخين الذين ابتذلوا الفانتازيا، واستسهلوا ركوب الخيال، وبالغوا في الخروج على الطبيعي حتى لم يبق طبيعي نشتهي الخروج عليه، ولا عادي نتمنى التعالي عنه.
لقد كانت الواقعية السحرية نعمة على فن الرواية، لكنها كانت نقمة أيضًا، إذ أطلقت موجات من المقلدين المستنسخين الذين استسهلوا ركوب الخيال
والفارق بين المعلمين الأوائل وبين المريدين المتأخرين المقلدين، هو الفارق بين الأصيل والمصطنع. وبين العفوي، أو الذي يبدو عفويًا، وبين المفتعل الزائف. بين ما تمليه الموهبة، وما تفرضه الموضة الشائعة.
يثير الأوائل الدهشة إذ يخرجون عن المألوف ويحطمون قيود الواقع الثقيلة. ولكن عندما يغدو الخروج عن المألوف، وتحطيم قيود الواقع، طريقة راسخة وشبه رسمية في الكتابة، وعندما يصبح "الخيال المجنح" واجبًا لازمًا على كل كاتب، فإننا نصير بحاجة إلى التغيير مجددًا، إلى الخروج عن الخروج عن المألوف، وإلى ترشيد ما لتحطيم قيود الواقع.. نحتاج إلى تجديد الدهشة عبر تقنين محاولات الإدهاش.