20-ديسمبر-2023
مختبر الأسلحة الإسرائيلية والرقابة في فلسطين وغزة

أعمال بحثية اقترحت أن احتلال وفر لإسرائيل ساحة اختبار لا تضاهى في تطوير أسلحتها وتكنولوجيا المراقبة (Getty)

كانت شركات الأسلحة الإسرائيلية، تقدم طوال الوقت "دعاية"، بكون أسلحتها مجربة على أرض الواقع، فيما صقل جيش الاحتلال الإسرائيلي "سمعته المتعلقة بالبراعة التقنية ودمجها مع آلة القتل"، طوال السنوات الماضية، مقدمًا نفسه باعتباره "جيش الدفاع عن أمة الشركات الناشئة" (The startup nation) أو وادي السيليكون في الشرق الأوسط".

وشكلت الأراضي الفلسطينية المحتلة، وجولات العدوان المستمرة، فرصة لإعلان الشركات الإسرائيلية، عن أن أسلحتها الجديدة "قد عادت من المختبر للتو"، أي أنها اختبرت على أرض الواقع، وهو ما يعني تجربتها على أرض وأجساد الفلسطينيين.

ولم تفوت المستويات العسكرية الإسرائيلية، أي حرب للإعلان عن "صرعة" جديدة في عالم الأسلحة. على سبيل المثال، بعد حرب  أيار/مايو 2021 على قطاع غزة، قال المسؤولون العسكريون في دولة الاحتلال، إن إسرائيل خاضت "حربها الأولى في مجال الذكاء الاصطناعي"، باستخدام التعلم الآلي والحوسبة المتقدمة.

ومع حجم الدمار الهائل والقتل الواسع في قطاع غزة، كشف تحقيق استقصائي أجرته مجلة +972 ومع موقع "سيحاه ماكوميت"، عن استخدام جيش الاحتلال تقنية الذكاء الاصطناعي بشكلٍ أوسع، وبالأخص لنشر منصة "صُنع" الأهداف بواسطة الذكاء الاصطناعي، التي تسمى بالعبرية "هبسورا" (وتعني الإنجيل "The Gospel")، والتي ساهمت في تسريع صنف وفرز الأهداف، فيما يوصف إسرائيليًا بما يشبه "مصنعًا للاغتيالات".

كانت الحروب الإسرائيلية، الفرصة من أجل دعم اقتصادها العسكري، القائم على تجارة الأسلحة، التي تصفها دائمًا بـ"المجربة"، إذ تختبرها على أجساد الفلسطينيين أمام العالم

في أوائل تشرين الثاني/نوفمبر، قال الجيش الإسرائيلي، إنه تم تحديد "أكثر من 12 ألف هدف" في غزة من قبل ما يُعرف باسم "كتيبة إدارة الأهداف". وزعم بيان مقتضب للجيش الإسرائيلي، أنه يستخدم نظام "هبسورا" القائم على الذكاء الاصطناعي في الحرب على قطاع غزة "لإنتاج الأهداف بوتيرة سريعة"، وأنه "من خلال الاستخراج السريع والمؤتمت للمعلومات الاستخباراتية"، أصدر النظام توصيات بأهداف مقترحة تراعي المطابقة الكاملة بين توصية الآلة والتحقق من شرعية الهدف بواسطة البشر، وفق زعم الاحتلال.

وحاولت مصادر إسرائيلية، تقدم مزاعم أخلاقية حول دقة وفعالية الذكاء الاصطناعي، والتأكيد على العنصر البشري فيه. إذ ذكرت صحيفة يديعوت أحرونوت اليومية أن كتيبة إدارة الاستهداف "تتأكد قدر الإمكان من عدم وقوع أي ضرر للمدنيين". كما قال مصدر عسكري إسرائيلي كبير سابق لصحيفة الغارديان، إن الذين يقفون وراء النظام يستخدمون قياسًا "دقيقًا للغاية" لمعدل إخلاء المدنيين للمبنى قبل وقت قصير من الغارة، زاعمًا: "نحن نستخدم خوارزمية لتقييم عدد المدنيين المتبقين. إنه يعطينا اللون الأخضر والأصفر والأحمر، مثل إشارة المرور".

ما كشف "زيف" الادعاء السابق، هي التصريحات التي قدمت في التحقيق الخاص بـ972+، الذي تحدثت فيه عدة مصادر عن "تخلص" جيش الاحتلال من كافة المحاذير، وتجاوزه لأي مستويات سابقة حول "الضرر الجانبي" في الحرب. فيما قال مسؤول إسرائيلي: "ارتفعت الأعداد من عشرات القتلى المدنيين [المسموح بهم] كأضرار جانبية كجزء من هجوم على مسؤول كبير في العمليات السابقة، إلى مئات القتلى المدنيين كأضرار جانبية"

وقال مصدر إسرائيلي آخر: "لا شيء يحدث بالصدفة. عندما تُقتل طفلة تبلغ من العمر 3 سنوات في منزل في غزة، فذلك لأن أحد أفراد الجيش قرر أن قتلها ليس بالأمر الكبير، وأن ذلك هو الثمن، من أجل ضرب الهدف. نحن لسنا حماس، هذه ليست صواريخ عشوائية، كل شيء متعمد، نحن نعرف بالضبط حجم الأضرار الجانبية الموجودة في كل منزل".

getty

وقال مصدر إسرائيلي آخر، إن ضابط استخبارات كبير قال لضباطه بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، إن الهدف هو "قتل أكبر عدد ممكن من نشطاء حماس"، الأمر الذي أدى إلى تخفيف المعايير المتعلقة بإيذاء المدنيين الفلسطينيين بشكل كبير. وعلى هذا النحو، فإن هناك "حالات يحصل فيها القصف على أساس واسع النطاق لتحديد مكان الهدف، مما يؤدي إلى مقتل مدنيين. يتم ذلك غالبًا لتوفير الوقت، بدلًا من القيام بالمزيد من العمل للحصول على تحديد أكثر دقة".

ويحاول جيش الاحتلال، الترويج لنفسه باعتباره الجيش الذي يجمع التقنية مع العنصر البشري، ويختبر ذلك مباشرة، وسط مزاعم عن "دقة الاستهداف"، وإذا كان الترويج لتقنيات الذكاء الاصطناعي في إسرائيل، يصل إلى مستويات هي الأعلى. إلا أنَّ استخدام الأسلحة وتجربتها على بيوت الفلسطينيين وأجسادهم، كحقل تجارب للتقنيات العسكرية الإسرائيلي، يشكّل العمود الفقري لاقتصاديات الحرب الإسرائيلية، وهو سلوك إسرائيلي، ليس بالجديد.

استراتيجية ودعوة للانضمام لآلة القتل

أطلق الجيش الإسرائيلي استراتيجيةً جديدةً مطلع العام الماضي، لدمج تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في جميع فروعه العسكرية، فيما وصفه بـ "التحول الاستراتيجي الأكثر شمولًا منذ عقود". وفي حزيران/يونيو الماضي، تفاخرت وزارة الأمن الإسرائيلية بأن الجيش يعتزم أن يصبح "قوة عظمى" عندما يتعلق الأمر بإدخال الذكاء الاصطناعي في مجال الحروب المؤتمتة.

وقال جنرال الجيش المتقاعد إيال زمير أمام مؤتمر هرتسليا: "هناك من يرى أن الذكاء الاصطناعي هو الثورة القادمة في تغيير وجه الحرب في ساحة المعركة". ويمكن أن تشمل التطبيقات العسكرية "قدرة المنصات على ضرب أسراب من الأهداف الجوية المعادية، أو قدرة الأنظمة القتالية على العمل بشكل مستقل... والمساعدة في اتخاذ القرار السريع، على نطاق أكبر مما رأيناه من قبل".

وتنتج الصناعات العسكرية الإسرائيلية، مجموعة واسعة من المركبات العسكرية ذاتية القيادة، بما في ذلك مركبات آلية مسلحة توصف بأنها منصات "قوية" و"فتاكة"، وتتميز بالقدرة على "التعرف التلقائي على الأهداف". كما تمتلك غواصة ذاتية القيادة لجمع المعلومات الاستخبارية السرية، يطلق عليها اسم "بلو ويل" (أي الحوت الأزرق "Blue Whale")، وما زالت تخضع لعدد من التجارب قبل الإطلاق.

ويشكّل الفلسطينيون وأرضهم مخبر تجارب لمثل هذه التقنيات، حيث يعتبرون بمثابة دليل على "إثبات المفهوم"، للزبائن العالميين للأسلحة الإسرائيلية. خاصة الدولة المنخرطة في الحرب، سواء دول أوروبا التي تدعم أوكرانيا حاليًا، وتدخل في سباق تسلح كبير، تعتمد فيه على إسرائيل، أو الدول القمعية في شرق آسيا وأفريقيا، بالإضافة إلى الدول العربية التي وقعت اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل، مثل الإمارات والمغرب.

ولا يقتصر الأمر على منصات الإطلاق وقوائم الأهداف، إذ هناك تقنية إسرائيلية جديدة أخرى قائمة على الذكاء الاصطناعي، وهي "نوليدج ويل" (بئر المعرفة "Knowlednge Well")؛ وعملها يتركز على مراقبة الأماكن التي تطلق منها الفصائل المقاومة الفلسطينية صواريخها، ويمكن استخدامها أيضًا للتنبؤ بمواقع الهجمات المستقبلية، كما يدّعي الجيش الإسرائيلي.

ورغم الادعاء الإسرائيلي الكبير عن هذا النظام، إلّا أنّه لم يثبت فاعليته الحقيقية على أرض الميدان، إذ تستمر صواريخ المقاومة الفلسطينية بالانطلاق من قطاع غزة. فيما تحول تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى آلة قتل افتراضية، تطلق العنان لهجمات مرعبة ضد أهداف عسكرية ومدنية بشكلٍ عشوائي دون ردع، في حين أنها لا تنجح تمامًا بتحقيق أهدافها المرجوّة.

ولا تكتفي الجهات الإسرائيلية التي تقف وراء هذه الأنظمة بوعود وادعاءات الدقة وحسب، بل تضفي عليها صِبغة إنسانية "شاعرية" على فظاعة ما طُوِّرت لأجله. إذ يقول إيلي بيرنبوم، كبير خبراء الذكاء الاصطناعي في الجيش الإسرائيلي لرويترز: "ليس سرًّا أنني لا أستطيع التنافس مع رواتب جوجل أو فيسبوك. ماذا يمكنني أن أقدم عوضًا عن ذلك؟ المعنى". في إشارة إلى أن قتل الفلسطينيين من شأنه أن يبعث على الطمأنينة والقبول الفوري بالفرصة، لجنود جيش الاحتلال.

getty

المختبر الفلسطيني.. سلاح مجرب وفعال

تُعدّ فلسطين واحدة من أكثر الأماكن الخاضعة للمراقبة على وجه الأرض. إذ تنتشر كاميرات المراقبة في المشهد الفلسطيني، مع وجود أبراج مراقبة إسرائيلية دائمة، بعضها مسلح بمدافع آلية يتم التحكم فيها عن بعد. وبينما تحلّق المسيّرات دون توقف في سماء الضفة الغربية، وتترواح قدرتها ما بين إطلاق الصواريخ وصولًا إلى قنابل الغاز. أمّا في غزة، فإن المُسيّرات، وعندما كانت تتوقف عن القصف، فإنها لم تغب عن سماء قطاع غزة، منذ بداية الحصار عام 2007.

وفي أواخر العام الفائت، تم الكشف عن قيام الحكومة الإسرائيلية بتركيب مدفع يتم التحكم فيه بواسطة الذكاء الاصطناعي على نقطة تفتيش عسكرية في شارع الشهداء المزدحم في مدينة الخليل الفلسطينية. وغردت مروة فطافطة، مديرة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مؤسسة "Access Now" للحقوق الرقمية: "صدقونا عندما نقول نحن معمل اختبار للمراقبة بكل معنى الكلمة".

وقالت فطافطة في حوار مع موقع "كودا ستوري"، إن معظم، إن لم يكن كل، تقنيات المراقبة التي تطورها وتصدرها السلطات الإسرائيلية تنبع من الأراضي المحتلة. إما أن الجيش الإسرائيلي هو الذي قام بإعداد النماذج الأولية واختبار هذه التقنيات، أو الشركات الخاصة التي أسسها قادة تقاعدوا من المخابرات الإسرائيلية أو جيش الاحتلال. 

وتضيف: "إسرائيل لا تعترف بأن التزاماتها بحماية حقوق الإنسان بموجب القانون الدولي تمتد إلى الأراضي التي تحتلها. وفي الوقت نفسه، يرون في الأراضي المحتلة فرصة مربحة لوضع نماذج أولية ونشر واختبار وتعزيز جميع أنواع الأسلحة وتقنيات المراقبة".

كما تشرح باحثة الحقوق الرقمية والرقابة في جامعة دوك البريطانية صوفيا غودفريند، كيف بدأت دولة الاحتلال استخدام تقنيات المراقبة، باعتبارها عنصرًا أساسيًا في استراتيجية "تقليص الصراع" التي بدأها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق نفتالي بينيت، والتي تدعو القادة عبر الطيف السياسي الإسرائيلي إلى التخلي عن محاولة إنهاء الاحتلال العسكري الإسرائيلي بشكل كامل والسعي للحفاظ على ما يسمى بالوضع الراهن.

إذ تعمل كاميرات التعرف على الوجه عند نقاط التفتيش، وقواعد البيانات البيومترية، والمُسيّرات في الفضاء الحضري، على تشغيل العديد من مكونات الحكم العسكري الإسرائيلي بشكل آلي. ومع استمرار الاحتلال، يقول الجيش الإسرائيلي إن مثل هذه التقنيات تجعل إدارة نظامه العسكري المستعصي أسهل.

ومع ذلك، فإن التقنيات يتم عرضها في المعارض الدولية كمعرض الدفاع الإسرائيلي (ISDEF) الذي يُعقد كل سنتين ويحضره الآلاف من شتى أنحاء العالم، والتي ترسم اتجاهات تكنولوجيا المراقبة في جميع أنحاء العالم، فيما سوّقتها الشركات الإسرائيلية المصنّعة على أنها "حلول أمنية" لاحتواء فيروس كورونا، ودعم مبادرات الشرطة الذكية، ومراقبة الحدود الخالية من الصراع، بينما تمّ تطويرها وتحسينها داخليًا على حساب الفلسطينيين.

وغالبًا ما تروج شركات الأسلحة الإسرائيلية لمنتجاتها من خلال التأكيد على أنها "تم اختبارها في المعركة" (Battle-proven).

getty

وفي كتابه "المختبر الفلسطيني: كيف تصدر إسرائيل تكنولوجيا الاحتلال حول العالم"، يرى أنتوني لوينشتاين، الصحفي والمؤلف الأسترالي اليهودي، أن احتلال فلسطين قد وفر لإسرائيل ساحة اختبار لا تضاهى في تطوير أسلحتها وتكنولوجيا المراقبة.

وفي الوقت نفسه، كانت فلسطين بمثابة قاعة عرض لآثار هذه الأسلحة، والتي يتم تصديرها بعد ذلك إلى جميع أنحاء العالم مما يولد إيرادات كبيرة ونفوذًا سياسيًا قيّمًا لإسرائيل يعود عليها بمنافع دبلوماسية لا اقتصادية فقط. وكما كتب لوينشتاين، فإن "المختبر الفلسطيني هو نقطة بيع إسرائيلية مميزة".

ولا يقتصر الأمر على السوق الإقليمية أو الدول الغربية الأكثر قربًا دبلوماسيًا من إسرائيل، كما أنه ليس سياسة حديثة، إذ يعود هذا السلوك إلى عام 1967 عندما انتهزت إسرائيل استيلاء الجنرال أجوي إيرونسي على السلطة في نيجيريا وقرب اندلاعٍ حربٍ أهلية فرصة لتعزيز العلاقات بين البلدين وترويج الأسلحة الإسرائيلية. كما كانت صفقات السلاح مدخلًا للتقرّب من أذربيجان خلال حربها الأخيرة مع أرمينيا لتوطيد العلاقات التي انتهت بفتح سفارات في كلا البلدين مطلع هذا العام.

ويشرح لوينشتاين كيف بدأ طريق إسرائيل لتصبح "قوة عسكرية" بعد حرب عام 1967 واصطفاف تل أبيب المتزايد مع واشنطن في سياق الحرب الباردة. وعليه، سرعان ما راكمت إسرائيل الزبائن لأسلحتها، التي بدأت مع إيران الشاه في السبعينات، ولم تنتهِ عند الهند وعدد من الدول العربية التي طبّعت، أو ما زالت في مرحلة المفاوضات، التي لديها برامج دفاعية باهظة الثمن قد توفرها الشركات الإسرائيلية قريبًا. وبحلول التسعينات، أرادت الحكومة الإسرائيلية أن تصبح صناعتها العسكرية أكثر استقلالًا عن الولايات المتحدة. وتزامن ذلك مع خصخصة القطاع، الذي استمر رغم ذلك في تلقي دعم اقتصادي كبير من الدولة.

وفي مطلع الألفية الجديدة، استغلت صناعة التكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية ما يسمى بـ "الحرب على الإرهاب" التي أعقبت هجمات 11 أيلول/سبتمبر، باعتبارها فرصة جديدة للترويج للأسلحة الإسرائيلية. وبينما كانت دولة الاحتلال تروج لنفسها باعتبارها "خبيرة في التعامل مع الإرهاب"، كما تصف المقاومة الفلسطينية، وجاءت فرصتها عندما قفزت الحكومات في مختلف أنحاء العالم إلى وصف المعارضين السياسيين لها بـ "الإرهابيين". وكما كتب لوينشتاين، فقد مُنحت إسرائيل فرصة عظيمة "لتسييل الاحتلال".

ووفقًا لمركز ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي (SIPRI)، كانت إسرائيل من بين المصدرين العشرة الرئيسيين للأسلحة في العالم منذ عام 2004 على الأقل، وفي الفترة 2016-2020، كانت ثامن أكبر مصدّر عالميًا. وفي أعقاب "اتفاقيات أبراهام" التطبيعة مع الدول العربية وحرب أوكرانيا، حطّمت إسرائيل رقمًا قياسيًا في حجم صادرات الأسلحة الذي بلغ 12.5 مليار دولار العام الفائت، ربعها تقريبًا كان للدول العربية، بواقع 1.4 في المئة من حجم صادرات الأسلحة عالميًا.

وخلال العدوان الإسرائيلي ضد قطاع غزة في عام 2014، والمعروفة في إسرائيل بـ"الجرف الصامد" أو "العصف المأكول" فلسطينيًا، أوضح الرئيس التنفيذي لشركة الأسلحة "ميبرولايت" الإسرائيلية، أنه "بعد كل حملة من النوع الذي يجري الآن في غزة، نشهد زيادة في عدد العملاء من الخارج".

ويلقي كتاب "المختبر الفلسطيني" الضوء على الشركات الإسرائيلية الخاصة، التي يعمل بها ضباط مخابرات إسرائيليون سابقون وتنشط بترخيص حكومي، والتي قدمت، على سبيل المثال، طائرات مُسيّرة لروسيا -استخدمتها في تدخلها العسكري في سوريا- وكانت قد اختبرتها سابقًا في غزة. 

ويوضح لوينشتاين أن هذه الشركات الخاصة غالبًا ما تنفذ أوامر الحكومة الإسرائيلية، مما يؤدي إلى عدم وضوح الخط الفاصل بين القطاعين العام والخاص.

ويروي القصة المعروفة لكيفية قيام مجموعة NSO الإسرائيلية ببيع برنامج "بيغاسوس" الشهير لاختراق الهواتف إلى العديد من الحكومات، بما في ذلك المكسيك والمغرب وأوغندا والسعودية للتجسس على معارضيها. ومع ذلك، يشير لوينشتاين، فإن غالبية الإسرائيليين لم يعربوا عن غضبهم حتى استخدمت إسرائيل البرنامج للتجسس على مواطنيها اليهود.

فيما لم تهتم الولايات المتحدة لمخاطر تقنيات الشركة على الدبلوماسية السياسية إلا عندما كُشف عن استخدامها للتجسس على دبلوماسيين أميركيين؛ ما دفع لوضعها على قائمة الشركات السوداء. وما يظهر الحرب باعتبارها "فرصة" إسرائيلية، هو محاولات الشركة المتكررة للتواصل مع وزير الخارجية أنتوني بلينكن للضغط عليه في سبيل إزالتها عن القائمة السوداء وتحسين صورتها، بالتزامن مع بداية العدوان احلالي على قطاع غزة.

ووصف لوينشتاين لكيفية استخدام رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، لبرامج التجسس هذه لتأمين مكاسب دبلوماسية على وجه التحديد مع الدول العربية، والتي بلغت ذروتها في "اتفاقيات أبراهام" التطبيعية لعام 2020، لا يتوقف عند NSO، إذ تحدث عن العديد من الشركات الأخرى، من بينها بلاك كيوب، وإلبيت، وسيليبرايت، وهو ما أشار إليه تحقيق نشرته صحيفة نيويورك تايمز مطلع العام الفائت.

getty

كما تم بيع تكنولوجيا المراقبة الإسرائيلية إلى وكالات الحدود في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، رغم ما تنطوي عليه هذه التقنيات من انتهاكات لحقوق الإنسان. بالإضافة إلى بيع تكنولوجيا المراقبة التي تم تطويرها في إسرائيل، واختُبرت في مدن وبلدات الضفة الغربية، إلى الولايات المتحدة -التي لطالما لاحقها هاجس بناء جدار فصلٍ على حدودها الجنوبية يشبه ذاك في فلسطين-، في هيئة أبراج مراقبة ممتدة على الحدود المكسيكية، وإلى الاتحاد الأوروبي، حيث استخدمت وكالته الحدودية "فرونتكس" تكنولوجيا مُسيّرات "هيرون" الإسرائيلية لمراقبة اللاجئين، بعدما "نجحت" إسرائيل باختبارها في غزة.

ويجادل لوينشتاين، في كتابه أيضًا بأن "أعدادًا متزايدة من الأنظمة على مستوى العالم تتعلم كيف تفلت إسرائيل من العقاب السياسي"، مستشهدًا بتعريف الأكاديمي الإسرائيلي باروخ كيمرلينج بأن ما يفعله الاحتلال هو "حلّ وجود الشعب الفلسطيني ككيان اجتماعي وسياسي واقتصادي شرعي".

وقالت منظمة العفو الدولية في أيار/مايو، إن السلطات الإسرائيلية تستخدم نظامًا تجريبيًا للتعرف على الوجه يُعرف باسم "ريد وولف" (وتعني الذئب الأحمر "Blue Wolf") لتعقب الفلسطينيين وأتمتة القيود الصارمة المفروضة على حريتهم في الحركة. إذ وثقت كيف أن "الذئب الأحمر" يشكل حلقة من شبكة مراقبة متنامية تعمل على ترسيخ سيطرة الحكومة الإسرائيلية على الفلسطينيين، ويتم نشرها عند نقاط التفتيش العسكرية في مدينة الخليل بالضفة الغربية المحتلة، حيث يقوم بمسح وجوه الفلسطينيين وإضافتهم إلى قواعد بيانات المراقبة الواسعة دون موافقتهم.

كما وثقت منظمة العفو الدولية كيف تزايد استخدام إسرائيل لتكنولوجيا التعرف على الوجه ضد الفلسطينيين في شرق القدس، وفي المناطق المحيطة بالمستوطنات غير القانونية. وفي الخليل والقدس، تدعم تكنولوجيا التعرف على الوجه شبكة كثيفة من كاميرات المراقبة لإبقاء الفلسطينيين تحت المراقبة شبه المستمرة فيما وصفته المنظمة بـ "الأبارتهايد الرقمي" الهادف لتقليل تواجد الفلسطينيين في المناطق التي تعدها إسرائيل استراتيجية.

وهناك أدلة قوية تشير إلى أن "الذئب الأحمر" مرتبط بنظامين آخرين للمراقبة يديرهما الجيش الإسرائيلي، وهما "وولف باك" (قطيع الذئاب "Wolf Pack") و"بلو وولف" (الذئب الأزرق "Blue Wolf"). و"قطيع الذئاب" عبارة عن قاعدة بيانات واسعة تحتوي على جميع المعلومات المتاحة عن الفلسطينيين من الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك أماكن إقامتهم، ومن هم أفراد أسرهم، وما إذا كانوا مطلوبين لاستجوابهم من قبل السلطات الإسرائيلية. أما "الذئب الأزرق" هو تطبيق يمكن للقوات الإسرائيلية الوصول إليه عبر الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية، ويمكنه سحب المعلومات المخزنة في قاعدة بيانات "قطيع الذئاب" على الفور، ويشبه "فيسبوك" الجيش الإسرائيلي.

getty

فعندما يمر فلسطيني عبر نقطة تفتيش حيث يعمل "الذئب الأحمر"، يتم مسح وجهه، دون علمه أو موافقته، ومقارنته بالإدخالات البيومترية في قواعد البيانات التي تحتوي حصرًا على معلومات عن الفلسطينيين. وتُستخدم هذه البيانات لتحديد ما إذا كان الفرد يمكنه اجتياز نقطة تفتيش، ويقوم البرنامج تلقائيًا بتسجيل أي وجه جديد يقوم بمسحه ضوئيًا، وإذا لم يكن هناك دخول سابق للفرد، يتم رفض مروره.

ووثقت منظمة العفو الدولية، من خلال الشهادات التي قدمها أفراد من جيش الاحتلال الإسرائيلي، كيف أصبحت مراقبة الفلسطينيين مجرد لعبة. على سبيل المثال، قال جنديان متمركزان في الخليل عام 2020، إن تطبيق "الذئب الأزرق" يُنشئ تصنيفات بناءً على عدد الفلسطينيين المسجلين، إذ يقدم قادة الجيش المكافأة للكتيبة التي قامت بجمع أكبر عدد من البيانات"، وبهذه الطريقة، يتم تحفيز جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي لإبقاء الفلسطينيين تحت المراقبة المستمرة.

الصناعات العسكرية الإسرائيلية، تحصل على تواطؤ عالمي، إذ تتجاهل الدول تجارب إسرائيل للأسلحة في الأراضي المحتلة، مقابل الحصول عليها بفعالية "مؤكدة"

كما أفادت صحيفة "هآرتس" بدمج برامج شركات مثل "Anyvision"، القادرة على تحديد أعداد كبيرة من الأفراد، مع تلك الأنظمة التي تحتوي على معلومات شخصية، بما في ذلك منشورات وسائل التواصل الاجتماعي.

تواطُؤ مع المأساة

في عام 2021، فشلت عضوة البرلمان الفنلندي آنا كونتولا في تمرير مشروع قانون كان من شأنه أن يمنع واردات الأسلحة من دول، مثل إسرائيل، استخدمت الأسلحة التي تنتجها لانتهاك حقوق الإنسان. 

وكما يوثق لوينشتاين في كتابه، فإن إسرائيل لم تدفع أي ثمن لاحتلالها لفلسطين فحسب، بل استفادت منه اقتصاديًا من خلال نجاح صادراتها من الأسلحة. 

تحولت شبكة التقنيات الإسرائيلية، التي يشكل هدفها الأساس، القتل وغرس الخوف وتعزيز الشعور باليأس، ومنع أي إمكانية انتفاضة للفلسطيني. فيما قال صراحةً رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق، رافائيل إيتان ذات مرة، فإن الهدف من هذه التقنيات هو جعل الفلسطينيين "يركضون مثل الصراصير المخدرة في زجاجة"، أما بالنسبة للزبائن، فهُم "الأداة" اللازمة للوصول إلى منتجات مثالية تستحقّ ثمنها.