11-أبريل-2017

السيسي في ليلة عيد الميلاد بالكاثدرائية الأرثوذكسية بالعباسية (أحمد جامل/الأناضول)

بدأت العلاقة بين الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي والأقباط قوية منذ منتصف عام 2013، أي بعد 30 حزيران/يونيو مباشرة، حين ظهر البابا تواضروس في الصف الأول، بينما السيسي يلقي بيانًا يُعلن فيه عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي.

عبَّر الأنبا بولا، أسقف طنطا، عن حالة الهيام بالسيسي بين الأقباط بقوله: "كما ظهر الملاك مبشرًا بميلاد المسيح، فجأة نجد المسيح ظهر داخل الكاتدرائية في يوم ميلاده"، يقصد زيارة السيسي لحضور قدّاس عيد الميلاد في كانون الثاني/يناير 2015، فقابله الحضور بالتصفيق الذي أفسد أجواء الكنيسة، وسلب روحانية الصلاة، وعطَّل القداس.

حشدت الكنيسة الأصوات للسيسي خلال جميع جولاته منذ الإطاحة بمرسي، في التفويض ثم فض رابعة ثم في الانتخابات والاستفتاءات اللاحقة

وخلال الفترة التي تَلت ترشح السيسي للانتخابات الرئاسية، ساندت السلطات المصرية كتم أي صوت قبطي لا يُمثّل الكنيسة، فجعلت منها الممثل الوحيد للأقباط دون أي معارض داخل مصر، وانتظرت ردّ الجميل.

البابا يردّ الجميل

حشدت الكنيسة الأصوات للسيسي خلال جميع جولاته منذ الإطاحة بمرسي، في التفويض ثم فض رابعة ثم الانتخابات والاستفتاءات اللاحقة، وحوّلت المركز الثقافي القبطي إلى مقر للحملة الانتخابية يقيم الندوات السياسية لكبار مسؤولي الدولة في موضوعات لا علاقة لها بالإنجيل والمسيح، بغرض الدعاية.

اقرأ/ي أيضًا: تاريخ الكنيسة والرئاسة المصرية: التاج والسلطان

وعلى مدار عامين من رئاسته، لم يتوقف دعم الأقباط وبخاصة الكنيسة المصرية، للسيسي، إلى حد خلع القمّص بولس عويضة حياءه بتغزّله في السيسي: "أذوب عشقًا فيه. والنساء معذورات في حبه. هو (أمّور) بطبعه، وعندما أنظر إلى صورته أذوب حبًا في جمال منظره وهيئته وشكله".

والأكثر من الغزل، مقال كتبه البابا تواضروس يدعم فيه كل ما يُقدِم عليه السيسي، تحت عنوان "نعم تزيد النِّعَم". وبعد أن بدا أنه مُؤقت ولغرض، امتد التأييد إلى سفريات السيسي الخارجية، بخاصة حين أمرت الكنيسة بتحريك 50 حافلة من ولايات أمريكا إلى واشنطن لاستقبال السيسي بالأعلام، خلال زيارته لإلقاء كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في دور من الكنيسة عادةً ما تلعبه الأحزاب والحركات السياسية.

"ارحل".. بتوقيع شعب الكنيسة!

كل شيء كان هادئًا، فما الذي حوَّل "نعم تزيد النعم" إلى "ارحل"؟ راهن الأقباط على قدرة السيسي على تحسين أوضاعهم ومنحهم قيمة إضافية ومساواة حقيقية، وزيادةً في إنشاء الكنائس وترميم ما يحتاج للترميم، وإنهاء عقود من التمييز الطائفي ضدهم في المناصب العامة والحكومية. وانطلق الأقباط في مراهنتهم على تصدر البابا تواضروس للمشهد خلال إلقاء بيان الثالث من تموز/يوليو 2013. لكنّ ما جرى على الأرض أفسد الخلطة السرّية التي جمعتهم حول السيسي ونظامه. 

بدأ الأقباط يتخلون عن السيسي تدريجيًا، والبابا تواضروس الذي جُهّز لتجييش "شعب الكنيسة" وراءه فقد جزءًا من حماسه واكتفى بالصمت المحايد، حتى بدا أن الكيل قد فاض، وتمظهر ذلك بوضوح في حالة القمص مرقس عزيز الموفد لإحدى كنائس الولايات المتحدة، الذي هاجم السيسي عبر مقطع فيديو نشره على حسابه على فيسبوك في آب/أغسطس الماضي، قال فيه: "طفح الكيل، والسيسي أسوأ رئيس جمهورية، انخدعنا فيه بعد أن وقفنا معه".

بدأ الأقباط يتخلون عن السيسي تدريجيًا، والبابا تواضروس الذي جُهّز لتجييش "شعب الكنيسة"  فقد جزءًا من حماسه، واكتفى بالصمت

وقتها، لم يتحرّك البابا ضده رغم أنّ الحجر الساخن ألقي بين يديه، فقال في تصريحات صحفية إن "الكنيسة تسيطر حتى الآن على غضب الأقباط على النظام في الداخل والخارج، لكن لن تصمد كثيرًا أمام تصاعد الغضب بسبب الاعتداءات الممنهجة ضدهم".

قِبلة الأقباط.. إلى اليسار دُر

فقد السيسي جانب من كتلته الجماهيرية بتساقط أقباط المهجر كأوراق الخريف من بين دوائر مؤيديه، فأكثر من مرة يدعون لوقفات احتجاجية في أوروبا للتنديد بالعنف ضد الأقباط في مصر، إلا أنّ أمرًا من تواضروس يُؤجل الوقفة دون أن يلغيها. لكنّه اعترف مُؤخرًا: "مش كلهم بيسمعوا الكلام".

وبدأ تحوَّل الأقباط من يمين السيسي إلى يساره حين تابعوا إعدام تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لـ21 مصريًا قبطيًا في ليبيا تحت عنوان "رسالة موقعة بالدماء إلى أمة الصليب"، ثم التفجيرات الإرهابية المتلاحقة في كل عيد للأقباط تقريبًا نهايةً بتفجيري كنيستي طنطا والإسكندرية، وكذا التهجير القسري لعوائل مسيحية من سيناء دون ذنب، ومع شلل أمني حيال قضيتهم، ومن قبلهم أقباط هُجّروا من منازلهم في العديد من قرى مصر.

يبدو إذن أن السيسي لم يعد المسيح المُخلّص بالنسبة للأقباط. كان يمكن أن يتأخَّر الاعتراف بذلك قليلًا، إلّا أن داعش بهجماته التي يعترف بها ويوفر الأدلة على ارتباطه بها، عجّل بالاعتراف، فخرجت صحيفة "صوت المسيحي الحر" الإلكترونية بمقطع فيديو، رسالة إلى السيسي يصل في النهاية لنتيجة أن "الأقباط مضطهدون"، وأن السيسي سببٌ في ذلك.

اقرأ/ي أيضًا: معضلة أن تكون مسيحيًا في مصر

ثم من أمام الكاثدرائية بالعباسية، وبعدها في الإسكندرية وطنطا، خرج الهتاف واضحًا: "ارحل"، ربما بفعل الغضب اللحظي وربما كان مقصودًا، إلا أنه في النهاية وجد طريقه إلى أسماع الجميع، ليعلن عن شيء ما انكسر بين السيسي والأقباط بعد أن كان "مُخلّصًا" لهم من حكم الإخوان الإسلامي بالمعنى الديني للكلمة، وليس بالمعنى الحرفي فقط. 

هل ينقلب الأقباط على السيسي؟

ثمة إجابات تُشير إلى "لا" بمنطق براغماتي، على أساس توفير السيسي للأقباط الحد الأدنى من الحماية السياسية على الأقل وشراء الخاطر، لكن البراغماتية وحدها لا تكفي لتثبيت أركان الحكم.

ومن يُرجّح كفة "نعم" في الإجابة على سؤال انقلاب الأقباط على السيسي، يُرجع ذلك إلى وعد الحماية الذي وعد السيسي الأقباط به، والواقع غير ذلك بعد أن تركهم فريسة للتشدد والإرهاب. ففي 20 أيار/مايو 2016 شهدت قرية الكرم بالمنيا خروج مجموعة من 300 شخص مسلح، تعدّوا على سبعة منازل لأقباط، وحطموا محتوياتها وحرقوها وجرّدوا سيدة قبطية مسنة من ملابسها، وعرّوها أمام حشد كبير في الشارع. رُفعت القضية إلى النائب العام، وبعد أن دارت دورتها، خرج المتهمون بحكم براءة.

بعد تسلل الشعور بعدم الأمان بين الأقباط اكتملت دائرة اليأس بتفجير الكنيسة البطرسية ليغلق باب التوبة أمام السيسي بالتفجير الأخير

وفي حزيران/يونيو 2016، شهدت قرية كرم اللوفي التابعة لمركز سمالوط في المنيا، اشتباكات بين المسلمين والأقباط بسبب تردد شائعات حول تحويل منزل إلى كنيسة، فأُحرق المنزل دون أن يبقى منه شيء. بعد تلك الحادثة بقليل قُتل مجدي مكين، ضحيّة التعذيب في قسم شرطة الأميرية وفسّر الأقباط ذلك بكونه مسيحية، ولربما خانهم الظنّ في ذلك، فقضايا الاختفاء القسري والتعذيب في الأقسام في مصر لا تفرق على أساس طائفي.

وبعد تسلل شعور بعدم الأمان بين الأقباط بتوالي الأحداث الداعية لذلك، اكتملت دائرة اليأس بتفجير الكنيسة البطرسية ومقتل 25 قبطيًا، ليغلق باب التوبة أمام السيسي بإحكام بتفجير كنيستي طنطا والإسكندرية وسقوط عشرات القتلى.

ويُذكر أنّه بعد حادثة تفجير البطرسية بالعباسية، طرد الشباب القبطي الغاضب عددًا كبيرًا من المسؤولين من محيط الكنيسة، على رأسهم وزير الداخلية ورئيس الوزراء، فقد رفض أهالي الضحايا مرورهم، واعتدوا على الإعلاميين المحسوبين على السيسي، ومن بينهم أحمد موسى ولميس الحديدي وريهام سعيد.

لهذا لن يعود الأقباط إلى حظيرة السيسي

تحمل حالة "الأخذ والرد" بين السيسي والأقباط عدّة دلالات، فعلى ما يبدو خسر السيسي دعم البابا تواضروس أو جزءًا منه، ويُمكن رؤية ذلك في تقليص عدد الحافلات التي نقلت الأقباط من الولايات المختلفة لاستقبال السيسي في زيارته الأخيرة للولايات المتحدة، إذ قلّت الحافلات من 50 في المرة الأولى إلى 10 فقط في المرة الأخيرة. 

أيضًا يبدو أنّ سيادة الكنيسة على الأقباط، باعتبارها صاحبة الرأي الأوحد، قد انتهت، فهناك عدّة آراء معارضة لم تصمد أمامها الكنيسة إلى حد إعلان الاستسلام أمام القمّص الذي هاجم السيسي من واشنطن.

الشيء الثالث الذي خسره السيسي وبه قد يخسر كل شيء في هذه القضية، هو شعور الأقباط بأنهم "مضطهدون" في عصره، فقد منحهم عهد أمان فشل في الحفاظ عليه، حتى سقط منهم ما يزيد عن 100 قتيل، وبات كل مواطن مصري مسيحي يرى في نفسه "مشروع قتيل محتمل".

 

اقرأ/ي أيضًا: 

كيف يستغل النظام المصري حادثة الكنيسة؟

الفولكلور القبطي.. اضطهاد الكنيسة وتجاهل الباحثين