09-يونيو-2018

صار الاحتفال بيوم القدس شاهدًا على النفوذ الإيراني في الوطن العربي لتكثيف امتطاء طهران للقضية (Getty)

في بغداد ومن جهة الرصافة يقع شارع فلسطين. بدأ تأسيس هذا الشارع في الستينيات من القرن الماضي، وكان الاسم يعبّر عن التضامن العراقي مع القضية الفلسطينية، والذي لا يحتاج إلى دافع خارجي، فقد كان الامتداد القومي والتواصل العروبي كفيلًا بأن تتبنى كل الشعوب العربية القضية الفلسطينية.

 يتكرر "يوم القدس" في عواصم عربية عدة، وكأنه وللمفارقة، مشهدية لعرض سيطرة طهران على هذه العواصم

في ذات الشارع، شرقي بغداد، انطلقت صباح أمس الجمعة، مسيرة يوم القدس العالمي، التي أعلن عنها أول مرة، روح الله الخميني، المرشد الأعلى الإيراني السابق، للاحتجاج على احتلال العصابات الصهيونية لفلسطين. كان الاحتفال الذي صار معروفًا يقتصر على إيران فقط في بادء الأمر، لكنه اليوم صار يتكرر في عواصم عربية عدة، وكأنه وللمفارقة، مشهدية لعرض سيطرة طهران على هذه العواصم.

الطموح السياسي يغيّب العلم الأمريكي

عُرف خطاب "المقاومة والممانعة" في العراق بالعداء لأمريكا، وتهديدها دائمًا، مع تبني المجاز الإيراني الذي يسمي أمريكا "الشيطان الأكبر"، والذي صار هو أيضًا، في مفارقة أخرى، بمثابة دليل على الهيمنة الإيرانية. ودأب متبنو هذا الخطاب على رسم علمي أمريكا وإسرائيل على الشوارع في كل عام عندما يحتفلون بمسيرة "يوم القدس العالمي"، تعبيرًا عن الاعتقاد أن أمريكا هي السبب في جرائم إسرائيل وتقويتها على حساب الأمة.

 كان من المفترض أن عداء الجماعات التابعة لإيران سيتعمق في "يوم القدس العالمي" هذا العام، فقد أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 6 كانون الأول/ديسمبر 2017 اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، وعزمه نقل السفارة الإسرائيلية إليها، وقد افتتحت السفارة في الـ14 من أيار/مايو الماضي، في القدس فعلًا بحضور ابنة الرئيس الأمريكي إيفانكا ترامب.

اقرأ/ي أيضًا: هتاف أتباع الصدر ضد إيران.. شرخ في مشروع سليماني

لكن ما حدث كان مختلفًا هذه المرة، إذ نظم العشرات المسيرة، وهم من الفصائل المسلحة الموالية لإيران أو المقربة منها، ورسموا علمًا إسرائيليًا وحيدًا هذه المرة على الأرض، تعبيرًا عن رفض "الاعتداءات الصهيونية المتواصلة"، لكنهم لم يضعوا أو يرسموا العلم الأمريكي، كما هي العادة، لأسباب سياسية.

التقى هادي العامري، زعيم قائمة الفتح، الجناح السياسي للفصائل المسلحة التي أحيت مسيرة القدس والحاصلة على 47 مقعدًا في انتخابات 2018، قبل أيام في بغداد، بالسفير الأمريكي لدى العراق، دوغلاس سيليمان، في حركة عدها مراقبون سعيًا لضمان وجود قائمة للفتح في الحكومة المقبلة، لكون فصائل الحشد الشعبي تنصب العداء الدائم لأمريكا، وترفض وجودها سياسيًا وعسكريًا، لكن اللقاء الذي جمع العامري بالسفير الأمريكي كان إقرارًا على ما يبدو، بدور أمريكا في التأثير على الحكومة وتوزيع المناصب، خاصة وأن العامري طامح لنيل رئاسة الوزراء، ويعتبر منافسًا عليها.

وقد حدثت انشقاقات داخل قائمة الفتح وبين فصائل الحشد الشعبي نفسها، وصلت إلى أن يقاطع المنشقون مسيرة القدس التي يشاركون فيها كل عام بسبب لقاء العامري بالسفير الأمريكي. وقد نشر الأمين العام للواء أبو الفضل العباس، أوس الخفاجي، وهي إحدى فصائل الحشد الشعبي، مساء الخميس الماضي، مقطع فيديو بشأن مسيرة يوم القدس العالمي، وقال الخفاجي في المقطع الذي تناقله نشطاء في فيسبوك: "لن نشارك في مسيرة يوم القدس العالمي، لأن أمريكا هي من نقلت السفارة الإسرائيلية إلى القدس، وهي من تقتل الأطفال الفلسطينيين بذراعها إسرائيل.. لا يجتمع حبان في قلب واحد".

ويضيف الخفاجي: "بعض الفصائل تحاول أن تخرج في يوم القدس، وقد اجتمعت مع السفير الأمريكي في العراق"، متسائلًا "كيف تجتمع تلك الفصائل مع السفير الأمريكي وتخرج إلى تظاهرة ضد اسرائيل بعنوان القدس؟"، موجهًا رسالته إلى من اجتمع مع السفير سيليمان: "الم تقف بعينيك دماء الشهداء الذين قتلوا بيد داعش ربيبة أمريكا والأرواح التي أزهقت بما يسمى النيران الصديقة".

ليست المشكلة في السلوك البراغماتي في سياسة هذه الأحزاب، لكن المشكلة مع قادة الحشد الشعبي، حسب مراقبين، أنهم حتى في الأوقات التي تريد فيها الحكومة العراقية أن تكون مرنة مع الأطراف العربية والعالمية لأجل مصالحها الخاصة، يكونون منغلقين ومتمسكين بالشعارات الكبرى، لأن إيران لا تريد ذلك، لكنهم، حين تصل القضية إلى مصالحهم، ينفتحون ويتعاملون بمرونة حتى مع الأمريكيين، الذين كانوا يطلقون عليهم مجاز "الشيطان الأكبر".

لا علم فلسطيني ولا عراقي.. العلم الإيراني سيد الموقف!

ما أثار سخطًا واسعًا لدى العراقيين، في مسيرة أمس، هو رفع المشاركين في مسيرة "يوم القدس العالمي" أعلامًا إيرانية في بغداد، وهي حركة عدها مراقبون لاستعراض النفوذ الإيراني في العراق، الذي بدا مهتزًا بعد الانتخابات النيابية الأخيرة، سيما وأن معظم صور المسيرة كان للخميني وعلي خامنئي.

اقرأ/ي أيضًا: هل كان صدام حسين إسلاميًا في أواخر حكمه؟

الملفت في الأمر، أن الأعلام الفلسطينية غابت عن المشهد، وحتى الأعلام العراقية التي من المفترض أن تكون عالية للتعبير عن تضامن الشعب العراقي مع فلسطين، لكن الأعلام الإيرانية كانت هي الحاضرة بشكل واضح أمام كاميرات التصوير.

حدثت انشقاقات داخل قائمة الفتح وبين فصائل الحشد الشعبي نفسها، وصلت إلى أن يقاطع المنشقون مسيرة القدس

ولدى هؤلاء الذين رفعوا الأعلام الإيرانية، أجنحة سياسية وقادة كانوا حاضرين في المسيرة، وسيكونون في السلطة التشريعية العراقية بعد وقت قصير، وقد حصلوا على عدد مقاعد لا يستهان به.

يقيم هؤلاء مسيراتهم ويرفعون الأعلام الإيرانية وسط بغداد دون أن يستطيع أن يمنعهم أحد، ويستثمرون بالقضية الفلسطينية، بشكل فج أكثر من أي وقت مضى، لإثبات حضورهم الإشكالي في العراق. إنهم يمتلكون المال والسلاح، ولا يمتلك العراقيون غير أمنياتهم في استقلال قرار بلادهم، وبناء مشروع وطني لا تتحكم به الأطراف الإقليمية والدولية بشتى مصالحها، بعد أن تحوّل العراق إلى مسرح لحروبها بالنيابة!

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل تستطيع أمريكا لجم مليشيات إيران في الفلوجة؟

صورة كاملة للصفقة الكبرى.. هكذا سعى ابن سلمان للاعتراف بالقدس والضفة لإسرائيل