02-فبراير-2020

مارست الإدارات الأمريكية تواطؤًا تاريخيًا مع إسرائيل (Getty)

ألترا صوت - فريق التحرير

أثار قرار الإدارة الأمريكية الأخير بفرض تسوية قسرية للقضية الفلسطينية، تحت عنوان "صفقة القرن"، جدلًا واسعًا، بعد أن تضمن عدة بنود من بينها منح القدس "غير المقسمة" لإسرائيل. وهو ما سُبق بقرار آخر بنقل السفارة الأمريكية في إسرائيل من تل أبيب إلى المدينة، ما أثار ردود فعل واستقطاب دولي، وحتى عربي عربي، على مستويات عدة. غير أن هذا القرار لا يمثل علامة فارقة كليًا في تاريخ المواقف الأمريكية من القدس، المنحاز لإسرائيل بشكل واضح وعلني، لكنه يبدو تواصلًا لمجموعة من الإجراءات الرسمية المرتبطة بالمدينة وبمرافقها الدينية.

يقع التحالف مع الدول الكبرى في قلب استراتيجيات الاستعمار الاستيطاني بشكل عام، وجزءًا مركزيًا من الإجابة على سؤال التهديد الذي ينشغل منظرو هذا النوع من الاستعمار بطرحه

يقع التحالف مع الدول الكبرى في قلب استراتيجيات الاستعمار الاستيطاني بشكل عام، وجزءًا مركزيًا من الإجابة على سؤال التهديد الذي ينشغل منظرو هذا النوع من الاستعمار بطرحه[1]. وفي حالة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، فإن هذا التحالف يجيء في سياق أكثر تركيبًا، مع الاهتمام الفج بموضوع الأمن، ومع الشعور الأصيل داخل التصورات الأمنية الإسرائيلية، بخطر الوجود داخل محيط عربي واسع، متفوق ديمغرافيًا وجغرافيًا[2]، ولذلك فقد كان النقاش عن التحالف مع دول ذي نفوذ مركزيًا في الكتابات الصهيونية الأولى، وأدرك آباء النظرية الأمنية الصهيونية أن الوجود في هذا المحيط المتفوق يستدعي هذه العلاقة، التي بنيت إما تمثيلًا للمصالح التوسعية لدول عظمى في المنطقة العربية، أو نتيجة التفاعل بين اللوبيات اليهودية المناصرة لإسرائيل مع صناع القرار في هذه الدول، أو بترويج المسألة اليهودية باعتبارها مسألة أوروبية، يكون استعمار فلسطين حلها الوحيد.

اقرأ/ي أيضًا: ترامب يعمق الانقسام السياسي في الولايات المتحدة بصفقة القرن

تستعرض المقالة الموقف الأمريكي من القدس، احتلالها وضمها والاستيطان فيها، من بداية الاستيطان الصهيوني لفلسطين حتى هذه الأيام، مسائلة وإن بشكل غير مباشر، علاقة تاريخ هذه المواقف مع قرارات إدارة ترامب الأخير بشأن القدس.

من "الييشوف" إلى حرب حزيران

مع أن الولايات المتحدة لم تكن الحليف الإسرائيلي الأهم في مرحلة الاستيطان الأولى قبل النكبة، التي يتعارف عليها إسرائيليًا باسم "الييشوف"، إلا أن الموقف من القدس كان حاضرًا. فقدت اتفقت السياسة الخارجية الأمريكية مع الوكالة اليهودية بخصوص الضغط على بريطانيا من أجل تسهيل الهجرات اليهودية إلى فلسطين، بما فيها القدس، وقد رفضت الإدارة الأمريكية بقيادة فرانكلين روزفلت، الكتاب الأبيض الذي أصدره الانتداب البريطاني عام 1939، الذي نص على التخلي عن فكرة تقسيم فلسطين لدولتين يهودية وعربية، وحدد شروطا أمام الهجرات اليهودية وشراء الأراضي. واعتبرت الولايات المتحدة أن التحول في الموقف البريطاني هو تحول سلبي وضد المسألة اليهودية.

لقد بدأ الاستثمار بالمشروع الصهيوني "اليهودي" في الانتخابات الأمريكية، من فترة الاستيطان المبكر وقبل النكبة، وقد تضمنت الدعاية الانتخابية للحزب الديمقراطي بقيادة روزفلت نفسه عام 1944، وعودًا بفتح الهجرة بشكل كامل أمام اليهود، وتقديم دعم واضح لإنجاز مشروع الاستيطان اليهودي في فلسطين. وعند استلام هاري ترومان في العام التالي، بعد وفاة روزفلت، استمرت السياسة الأمريكية بخصوص الهجرة اليهودية، وتكثفت المطالبات الأمريكية لبريطانيا بتسهيل الشروط أمام الراغبين بالهجرة. وقد تجسد التوافق بين الإدارة الأمريكية والوكالة اليهودية، في طرح قرار التقسيم في الأمم المتحدة، وطرح تدويل القدس بشكل رسمي. وقد اعترف قيادات في الوكالة اليهودية لاحقًا، كما اعترف الرئيس ترومان نفسه في مذكراته بالدور الأمريكي الحاسم في تمرير هذا القرار، وبين أن الإدارة الأمريكية في زمنه تعرضت لضغوط هائلة من اللوبي الصهيوني.[3] وآل هذا الدعم بطبيعة الحال، من إدارة ترومان، إلى الاعتراف بقيام إسرائيل واستقلالها بعد النكبة، رغم وجود مخاوف عند الخارجية الأمريكية وقتها من خسارة العلاقات مع الدولة العربية لصالح الاتحاد السوفييتي.

ولم تقتصر السياسيات الأمريكية بعد النكبة على الاعتراف بقيام إسرائيل، ولكنها بذلت جهودُا من أجل تشريع وجودها أمميُا، ومن أجل قبول المحيط العربي بالفكرة.

ورغم أن الولايات المتحدة كانت ممن رعى فكرة تدويل القدس، ضمن جهودها لدعم تطلعات الوكالة اليهودية في الأمم المتحدة، إلا أنها نفسها قدمت دعمًا لتشريع احتلال إسرائيل للشطر الغربي من المدينة، وقد صدر البيان الثلاثي الأمريكي البريطاني الفرنسي عام 1950، الذي وعد بضمان الأمن الإسرائيلي وحماية إسرائيل من أي خطر، وقد تجاهلت الإدارة الأمريكية نقل مؤسسات إسرائيلية رسمية إلى المدينة. وصار هناك خلاف بين الخارجية الأمريكية والبيت الأبيض حول نقل وزارة الخارجية الإسرائيلية إلى القدس، وتبين أن هذا الخلاف لم يكن إلا وجهات نظر حول الطريقة الأجدى لحماية الأمن الإسرائيلي داخل المحيط العربي[4].

هزيمة حزيران وضم كامل المدينة

بعد هزيمة حزيران عام 1967، التي كانت حدثا فارقا في التاريخ العربي، كما كانت في تاريخ إسرائيل، عادت القدس إلى قلب السردية الإسرائيلية، وأخذت اهتماما مضاعفا، مع السيطرة على كامل المدينة وإعلانها عاصمة أبدية لإسرائيل، وبدأت العلاقة الأحادية مع الولايات المتحدة تأخذ طابعا واضحا، على حساب العلاقة مع دول أوروبية مختلفة.

ومع أن الخطوة الإسرائيلية اعتبرت انتهاكًا لقرارات تدويل القدس، ومع أن الموقف الرسمي الأمريكي كان ميالًا في البداية إلى اعتبار أن ما قامت به إسرائيل هو إجراء أحادي لا يمكن الاعتراف به[5]، إلا أنه يمكن اعتبار هزيمة الجيوش العربية في حزيران من نفس العام، لحظة فارقة في تاريخ المواقف الأمريكية من القدس. فقد أعلنت واشنطن موقفًا شبيهًا بالموقف الأممي الذي يدعو إسرائيل إلى التراجع عن ضم القدس، واحترام إجراءات تدويلها، لكنها امتنعت عن التصويت على قرار الأمم المتحدة رقم 2253، الذي يدعو إلى نفس المضمون، وكذا قرار 2254. وفي أيار/مايو من العام التالي للاحتلال، امتنعت الإدارة الأمريكية التي كان يترأسها ليندون جينسون عن التصويت على قرار 252 الذي يرفض أي تغيير إسرائيلي في أوضاع المناطق المحتلة.

لقد تميزت ولاية جينسون بالتعامل مع القدس باعتبارها قضية منفصلة عن القضية الفلسطينية، وكأنها مسألة دينية مستقلة عن الصراع العربي الإسرائيلي، ولذلك فقد عرف عن جينسون في خطاباته، الدعوة إلى احترام الحريات الدينية، والاتفاق بين الأديان الثلاث في المدينة، والتشاور بين زعماء الطوائف حول مصير المدينة، إلخ[6]. 

مع تولي إدارة ريتشارد نيكسون في مطلع عام 1969، بدأ التنازل عن الفكرة الثابتة حول تدويل القدس، لصالح فكرة "المصالح المشتركة" للدول المعنية ومن بينها الأردن، وضمان العبور الآمن للمرافق الدينية، دون الإشارة إلى ضرورة وجودة إدارة دولية للمدينة الموحدة، وتزامن هذا مع استمرار رعاية تهويد المدينة بشكل غير رسمي، وتغيير أوضاعها الجغرافية والديموغرافية.

وقد تجسد إسقاط فكرة التدويل رسميًا من خلال مشروع مبادرة روجرز الأولى التي قدمتها الخارجية الأمريكية في العام نفسه الذي تولت فيه الإدارة الجديدة، والذي لم يتطرق إلى القدس إلا في سياق من العموميات[7].

إدارتا فورد وكارتر ودور اللوبي الصهيوني

مع انتهاء ولاية نيكسون، يمكن الحديث عن مرحلة مغايرة في الخطاب الأمريكي حول القدس، امتدت على مرحلتي فورد وكارتر، أي حتى بداية الثمانينيات، حيث بدت المواقف الأمريكية الرسمية أكثر حذرًا تجاه الاستيطان، واعتبرت القدس منطقة محتلة، مع كثير من التجاهل بطبيعة الحال لعمليات الاستيطان ولبعض القرارات الأممية حول المدينة. لكن مرحلة جديدة من الخطاب المناصر لاحتلال القدس بدأ في نهاية فترة كارتر، الذي تعرض لضغوط من اللوبيات المناصرة لإسرائيل في الولايات المتحدة.[8]

لقد مهد التحول في موقف إدارة كارتر، إلى تغير حاسم في السياسة الخارجية للإدارات الأمريكية اللاحقة، فقد تراجعت حتى رسميًا عن اعتبار القدس منطقة محتلة، وصار هناك فصل بين الموقف من إجمالي الأراضي المحتلة في عام 1967 وبين الموقف من القدس، في تسليم بحساسية القدس ومركزيتها في الخطاب الصهيوني، خاصة أنه بدا واضحًا أن المناطق التي يمكن أن تتنازل عنها إسرائيل مقابل تسويات سياسية مع دول عربية على حدة، لا تتضمن المدينة. وفي هذه الفترة، بدأت الإدارات الإسرائيلية تتعامل حتى مع القدس الشرقية التي ضمت بعد هزيمة حزيران، باعتبارها جزءًا من الحدود غير القابلة للنقاش في المفاوضات، حتى بالنسبة للإدارات المائلة باتجاه عملية سلام مع الدول العربية. وقد خرجت القدس بالتالي في الخطاب الأمريكي من كونها جزءًا من الوضع الطارئ بعد حرب عام 1967.

وخلال ولاية ريغان، تصالح الموقف الأمريكي رسميًا مع الاستيطان ومع تهويد المدينة، مع رفض ملتبس وغير واضح لاستيطان أراض إضافية، لكن مع قبول ضمني بالمناطق المحتلة، ومع اعتبار القدس أرضًا قابلة للتفاوض، بدون تجزيء، في إشارة إلى انتهاء التفريق بين القدس الشرقية والغربية. وقد نصت المادة المرتبطة بالقدس في مبادرة ريغان لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، على أن وضع المدينة الكاملة سيقرر من خلال عملية التفاوض. وقد تقاطعت ميول ريغان وحلفائه الكثر في الكونغرس تجاه إسرائيل، مع سياسيات الليكود الذي سيطر على الحكم في إسرائيل، تجاه الاستيطان وضم الأراضي الجديدة، وتجاه القدس باعتبارها عاصمة أبدية لإسرائيل، غير قابلة للتفاوض.

يتزامن حكم اليمين الإسرائيلي الأكثر تطرفًا، وسعيا للاستيطان والضم، مع صعود اليمين البديل في الولايات المتحدة، بوعود فجة بدعم الاستيطان وفرض رؤية من أعلى وغير واضحة للتسوية

لقد أكد ريغان في غير مرة، أن موقف بلاده لا يمكن أن يتفق مع أي إجراء يتعارض مع أمن إسرائيل، وبأن أمن إسرائيل جزء من الأمن الأمريكي، وبدأ الاستثمار بالمفهوم الفضفاض للأمن القومي الإسرائيلي، وصار يمكن رفض أي قرار يتعلق بالحق الفلسطيني بالقدس، من خلال هذا المبرر[9]. 

إدارتا بوش وكلينتون.. فرض الأمر الواقع

لم تختلف إدارة الرئيس جورج بوش الأب عن سابقتها، فقد تذرعت بالبحث عن تسوية شاملة للصراع، بما يشبه حديث دونالد ترامب عن صفقة تسوية تاريخية هذه الأيام، لكن إدارة بوش نقلت الخطاب الأمريكي ضد الاستيطان إلى مستوى جديد، صار الرفض فيه يقتصر على بناء "مستوطنات جديدة" في القدس الشرقية، كما كرر هو نفسه في أكثر من خطاب. وبدأ مفهوم الاستيطان يقتصر أصلًا على بناء وحدات إسرائيلية والسيطرة على أراض في القدس الشرقية، وتم التعامل مع ضم القدس الغربية باعتباره أمرًا واقعًا، هذا على الرغم من أن إدارة بوش أكدت في غير مرة على رفضها لتقسيم القدس، لكن ليس لصالح تدويلها، وإنما .[10]تأجيل حسم أمرها إلى حين الاتفاق على أوضاعها من خلال المفاوضات المباشرة

 وقد عنى هذا الموقف على عكس ظاهره، قبولًا بالواقع الذي أنتجته هزيمة حزيران عام 1967، مع الاستعداد الإسرائيلي بوصاية أمريكية، على تقديم تنازلات تتعلق بأراض احتلت آنذاك، من دون أن تتضمن هذه الأراضي القدس. بالتزامن مع ذلك، فإن الخطاب حول تدويل المرافق المقدسة في المدينة فقط، بدأ بالعودة من جديد مع إدارة بوش، التي استمر التباين بين تصريحاتها الرسمية وإجراءاتها العملية، مثل التصويت في التجمعات الدولية. لكن ما طرأ مع إدارة بيل كلينتون، في مطلع التسعينات، قائم على نوع من التخلي حتى عن هذا التباين، لصالح دعم الاستيطان، وأكثر من ذلك، دعم التمدد فيه وبناء مستوطنات جديدة وتشريعه.

لم يعد الاستيطان في القدس، فجأة، خطوة أحادية، كما دأبت الإدارات الأمريكية على تسميته، وعلى العكس، صار هناك دفاع أمريكي علني عن ضم الأراضي، بحجج تتعلق بالتوسع الديموغرافي الطبيعي للمستوطنين. ومع توقيع اتفاقية أوسلو، صارت القدس جزءًا من القضايا العالقة، على غرار اللاجئين والحدود، وصرحت الإدارة الأمريكية أكثر من مرة أن قضية القدس لا يمكن حلها في مجلس الأمن أو في أي منصة دولية، وهي شأن خاص بإسرائيل ومنظمة التحرير، ويحل فقط من خلال المفاوضات الثنائية، وهو الشرط الذي بدأ يتكرر للحيلولة أمام فتح النقاش حول الأوضاع السياسية والديمغرافية والإدارية في المدينة. وعلى العموم، فقد دأبت الإدارة الأمريكية في سنوات ما بعد أوسلو، على تعطيل أي مشروع للنقاش الأممي حول القدس، بحجة المفاوضات الثنائية، أو بحجة أنه يعطل عملية السلام.

الأهم في الفترة التي أدارها كلينتون، هو التوافق مع الأغلبية في الكونغرس الأمريكي بخصوص القدس، حيث بدأت فكرة نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، والإقرار بالقدس غير المقسمة عاصمة أبدية لإسرائيل. وقد وافق كلينتون على القرار مع الاحتفاظ بحق التنفيذ، بعد أن أرسل الكونغرس ومجلس الشيوخ عدة رسائل للخارجية الأمريكية، تلح عليها بإجراء خطوة في هذا الاتجاه[11].

إجمالًا، فقد كان موقف إدارة كلينتون أقل وضوحًا في سنتها الأخيرة، مع المقترحات الأمريكية لكامب ديفد عام 2000، حيث استندت إلى تأكيد مكرر بخصوص الحرص على أمن إسرائيل ومواطنيها، لكنها اعتمدت على مفهوم ضبابي أطلقت عليه الحقائق السكانية الإسرائيلية، الذي بدا وكأنه إشارة إلى رفض تغيير أوضاع الاستيطان، ورفض التراجع عن أراضٍ تم احتلالها، وربما أيضًا، تشريعًا لاستمرار ضم الأراضي في القدس الشرقية بحجة الزيادة السكانية في أعداد المستوطنين.

وفيما يتعلق بالمواد في المقترحات التي تتعلق بشكل مباشر بالقدس، فقد نصت على التالي:

‏ا - يجب أن تكون القدس مدينة مفتوحة غير مقسمة، يتمتع فيها الجميع بحرية التنقل والعبادات. ويجب أن تضم عاصمتها دولتي إسرائيل وفلسطين المعترف بهما دوليًا.

2 ‏- يجب أن يصبح كل ما هو عربي فلسطينيًا، فلماذا تريد إسرائيل أن تحكم إلى الأبد حياة مئات الآلاف من الفلسطينيين؟

3 ‏- يجب أن يصبح كل ما هو يهودي إسرائيليًا، وهذا يسمح بقدس يهودية أكبر تنبض بالحياة أكثر من أي وقت في التاريخ.

4 ‏- ما هو مقدس بالنسبة إلى الجانبين يتطلب رعاية خاصة لتلبية احتياجات الكل. ‏ولن يدوم أي اتفاق سلام إذا لم يقم على الاحترام المتبادل للمعتقدات الدينية ومقدسات اليهود والمسلمين والمسيحيين[12].

ونلاحظ التناقض الفج في بنود المقترحات المذكورة، فهي تطالب بمدينة غير مقسمة، في المادة الأولى، لكنها تطالب بتقسيمها على أساس جزء عربي يقع تحت الإدارة الفلسطينية، وجزء يهودي يقع تحت الإدارة الإسرائيلية، من دون تحديد مرجعية واضحة لتحديد الأجزاء اليهودية والأجزاء الفلسطينية. وعلى ما يبدو، فقد لبس التهرب من سؤال السيادة الواضحة على المدينة، لبوس الحريات الدينية من جديد، وهو موقف لم تنفك الإدارات الأمريكية السابقة عن تطبيقه.

وعلى أية حال، ورغم الإشكاليات المتعددة في مقترحات كلينتون، فإن إدارته والإدارات اللاحقة لم تلتزم بأي من البنود، حتى عندما تم الكشف عن حملات من التنقيب المكثفة تحت الحرم، أو التغاضي، والدفاع أحيانًا، عن الاستيطان في المدينة.

بوش الابن: المساومة بالإرهاب

في هذه المرحلة الإشكالية من التاريخ الأمريكي ومن تاريخ المنطقة، التي قادها جورج بوش الابن، بإدارة مثيرة للجدل، صار الموقف الأمريكي الداعم للاستيطان أوضح، مع تغيير طفيف في الموقف تجاه فكرة الدولة الفلسطينية، لكن ومثل العادة، بدون توضيح تفاصيل تتعلق بالسيادة أو بالحدود، وبدون أي إشارة إلى القدس.

لقد أقحمت إدارة جورج بوش الابن مفردات جديدة في النقاش حول القدس وحول عملية السلام، فإضافة إلى ربطها لأمن إسرائيل (غير المحدد أو المعرف بشكل واضح) بالاستيطان، وربط المطالبة بتفكيك الاستيطان (رغم إقرارها بضرورته نظريًا) أو إيقاف تمدده، بهذا الأمن، فقد دخل أيضًا مفهوم الإرهاب، الذي صار مفهومًا رائجًا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. لقد تحفظ جورج بوش على وثيقة جنيف التي وقعت عام 2003، مشيرًا في غير مرة إلى أنها لم تتضمن محاربة الإرهاب وأمن إسرائيل.

لم تحدث وثيقة جنيف سبقًا بخصوص موقفها من القدس، لكن سبب التحفظ الأمريكي على ما بدا، كان مرتبطًا بأن الوثيقة نصت على ضرورة تفكيك مناطق استيطانية في القدس، وعلى تقسيم أكثر وضوحٍا بقليل من المقترحات الأمريكية للمدينة، على الرغم من أنها جاءت بصيغة باهتة، ولم تستخدم مفردة احتلال أو مناطق محتلة، ولم تقدم موقفًا واضحًا من الحدود والسيادة. وهناك بطبيعة الحال أسباب أخرى لهذا التحفظ الأمريكي، تتعلق بقلق الإدارة الأمريكية من أي مشروع تسوية لا يديره البيت الأبيض[13].

وقد أدخلت إدارة بوش الابن أيضًا مساومات جديدة فيما يتعلق بالاستيطان، فقد صار هناك حديث، بنبرة جديدة نسبيًا، عن تجميد مشروط للاستيطان، مقابل أن يوقف الفلسطينيون العنف، ومن أجل استئناف المفاوضات الثنائية المباشرة. وتطور أيضًا في عهد بوش مفهوم النمو الاستيطاني الطبيعي، أي الزيادة الطبيعية في عدد المستوطنين في نفس المستوطنات، بمنطق وكأنه قبول بالاستيطان الموجود، ويساوم حول إجراءات ضم جديدة، من دون تعريف واضح. وقد استمر الوضع على حاله، حتى تسلم إدارة باراك أوباما في مطلع 2009.

إدارة أوباما.. تصعيد متأخر

ليس سهلًا إعطاء حكم واحد على موقف إدارة أوباما من القدس، فهو موقف جدلي ومتقلب ومركب، تغير طوال 8 سنوات، نتيجة للظروف الإقليمية، وللضغوط التي مارستها أغلبيات الكونغرس ومجلس الشيوخ. وعلى العموم فقد بدأ أوباما عهده بوعود حول تسوية تستند إلى حل الدولتين، على أساس حدود ما قبل حزيران عام 1967، بما يعني تقسيم القدس إلى قسمين شرقي وغربي. وعلى الرغم من أن أوباما قد وعد اللوبيات اليهودية بأن القدس كاملة غير مقسمة ستبقى عاصمة إسرائيل الأبدية، إلا أنه تصرف على غير هذا النحو مع تسلمه للسلطة.

لم تحدث إدارة أوباما فروقًا حقيقية في ملف الاستيطان في القدس أو في غيرها، وقد واصل اليمين الإسرائيلي تهويد المدينة واستيطان أراض جديدة فيها، مع غض نظر من البيت الأبيض، أو مع إدانات شكلية بدون استحقاقات واضحة. وإجمالًا تقلب موقف الإدارة الأمريكية في هذه الفترة، إلى أن وصل في عامها الأخير إلى الإدانة الواضحة للاستيطان، واعتباره غير شرعي وعائقًا أمام عملية السلام، وسببًا في غياب الأمن لإسرائيل والمنطقة. وقد اعتبر أوباما في أكثر من مرة في السنة الأخيرة من إدارته أن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس خطوة غير بناءة. ولم تستخدم الإدارة الأمريكية حق النقض "فيتو" من أجل إبطال قرار 2334 الذي نص على ضرورة إيقاف الاستيطان في الضفة الغربية والقدس الشرقية.

وجاء خطاب وزير الخارجية الأمريكي جون كيري في الثامن والعشرين من كانون الأول/ديسيمر 2016، ليؤكد وبنبرة غير مألوفة، على ضرورة وقف الاستيطان في القدس، وأن تكون المدينة عاصمة معترف بها لدولتين عربية ويهودية، وضرورة إنهاء الاحتلال وضمان حرية العبادة[14].

لقد انتهت فترة أوباما مع قلق إسرائيلي من تصعيد محتمل، قد يذهب إلى خيار الحل النهائي، مع أن أوباما نفسه أكد أنه لن يذهب إلى هذا الخيار. انتهى هذا القلق وبدأت فترة ذهبية لحكومة اليمين الإسرائيلي بقيادة بنيامين نتنياهو، مع تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في مطلع عام 2017، للحكم، بوعود عجائبية، وصلت إلى نقل السفارة فعلًا من تل أبيب إلى القدس، وتبرير الاستيطان، وإعلاء قيمة الأمن الإسرائيلي على أي قيمة أخرى، وفرض التطبيع على دول عربية كثيرة.

اقرأ/ي أيضًا: "صفعة القرن".. حربٌ لا سلام

لقد غيرت إدارة ترامب من القواعد التي اصطلح عليها دوليًا، ولم تعد القدس بالنسبة لأمريكا، كراع لعملية المفاوضات، قضية متروكة لمفاوضات الوضع النهائي، أو للتفاوض الثنائي[15]، حيث تبنت الإدارة المتطرفة في واشنطن مسعى لفرض تسوية قسرية للقضية الفلسطينية، تجلت في إعلام ما اُصطلح عليه بصفقة القرن.

في حالة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، فإن التحالف مع دول مثل أمريكا يجيء في سياق أكثر تركيبًا، مع الاهتمام الفج بموضوع الأمن، ومع الشعور الأصيل داخل التصورات الأمنية الإسرائيلية

ليست خطوات ترامب استثنائية، لكنها تبقى ذات أهمية واضحة، حيث يتزامن حكم اليمين الإسرائيلي الأكثر تطرفًا، وسعيا للاستيطان والضم، مع صعود اليمين البديل في الولايات المتحدة، بوعود فجة بدعم الاستيطان وفرض رؤية من أعلى وغير واضحة للتسوية أو لـ"صفقة القرن"، ومع تزايد نفوذ اللوبيات الصهيونية واليهودية في واشنطن، وبطبيعة الحال، مع راهن عربي مفكك، وواقع تسيطر عليه خلافات متزايدة.

 

المصادر 

[1]  Shaiel Ben-Ephraim. Do unto others as they have done unto you: explaining the varying tragic outcomes of settler colonialism. Journal of  Settler Colonial Studies. Vol: 5.  Issue: 3 2015. Pp 236 -250.

[2] عزمي بشارة (2005). من يهودية الدولة حتى شارون. رام الله: المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية "مواطن". 

[3] عبد الناصر محمد سرور. الموقف الأمريكي تجاه قضية القدس، 1967 – 2009. المجلة العربية للعلوم السياسية. العدد 26. ربيع 2010. 

[4]  إبراهيم أبو حليوة (2001). القدس في السياسة الأمريكية 1947-2000. بيروت: مركز الدراسات الإستراتيجية للبحوث والتوثيق.

[5] محمد رشيد عناب (2001). الاستيطان الصهيوني في القدس، 1967-1993. عمان: دار الشروق.

[6]  هالة أبو بكر سعودي (1983). السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الإسرائيلي. 1967 – 1973. بيروت:  مركز دراسات الوحدة العربية.

[7] وثائق فلسطين: مائتان وثمانون وثيقة مختارة، (1839 - 1987) ،"تونس: منظمة التحرير الفلسطينية 1987.

[8] حمد ربيع، "سياسة أمريكا الخارجية تجاه القضايا العربية،" شؤون فلسينية، العدد 162.

[9] عمرو هاشم ربيع، "العلاقات الأمريكية - الإسرائيلية، 1981-1987،" شؤون فلسطينية، العدد 84 تموز/ يوليو 1988.

[10] نادية السيد، نشاط ووثائق الأمم المتحدة، السياسة الدولية، العدد 107. يناير 1992. 

[11]  للاطلاع على بعض هذه الرسائل، يمكن مراجعة قسم وثائق في العدد 23 من مجلة الدراسات الفلسطينية صيف 1995.

[12] جمال البابا، "الأرض والمستوطنات والقدس في مقترحات كلينتون،" مجلة مركز التخطيط الفلسطيني، العدد 1. كانون الثاني/ يناير- آذار/ مارس 2001.

[13]  بشير عبد الفتاح، "وثيقة جنيف: تسوية حقيقية أم مناورة سياسية؟‏،" السياسة الدولية، العدد 155 كانون الثاني/ يناير 2004.

[14]  تصعيد إدارة أوباما مع إسرائيل.. الدوافع والآفاق. تقدير موقف صادر عن المركز العربي للأبحاث والسياسات. الدوحة: يناير 2017.

[15] خلفيات اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل وتداعياته. الجزيرة نت. 11 ديسيمبر 2017.