23-يونيو-2019

ستيفاني صليبا في دقيقة صمت

في عمله الأخير "دقيقة صمت"، يسير السيناريست السوري سامر رضوان ضمن الخط الذي رسمه لنفسه في عمله الأول "لعنة الطين" في مقاربته للسلطة الأسدية، بقصد فهم كنه طبيعتها القائمة على إخضاع الجميع لها، كشركاء سلطويين أو أناس مستعبدين وقع عليهم التكفل بعبء تأمين المزايا المتعوية لسلطة ذات جوع فجائعي لكل شيء، دون الأخذ بأية اعتبارات لمفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة التي تدعي الدعاية الرسمية تبنيها لها.

في مسلسل "دقيقة صمت"، نتعرف على السلطة الأسدية، أو من ينوب عنها كسلطة مافيوية قابضة على مقاليد الأمور بقبضة من حديد

في الحكاية نتعرف على السلطة الأسدية، أو من ينوب عنها كسلطة مافيوية قابضة على مقاليد الأمور بقبضة من حديد، فهي من جهة سلطة هرمية برأس سلطوي واحد مطلق الصلاحيات ممثلة بالسيد راغب الذي يبدو كما لو كان سياسيًا قادرًا بمرتبة وزير، تقوم بتوزيع الأدوار الإجرامية على مرؤوسيها مع احتفاظها بحق التخلص منهم في حالة فشلوا في القيام بالمهام الموكلة إليهم بها على أكمل وجه، متبنية المثل المافيوي القائل "نجاحك نجاح لرؤسائك وفشلك مسؤولية تقع عليك وحدك". ومن جهة أخرى، سلطة تشعر بفائض قوة عميق في داخلها، بحيث يتيح لها القيام بدور مقرر مصائر، كما في قيامها في التخطيط لتنفيذ حكم إعدام مستعجل في سجينين محكومين بعقوبة الإعدام هما أمير ناصر (عابد فهد) وأدهم منصور (فادي أبي سمرا)، في مناورة خبيثة لإعدام سجينين يهددان بالكشف عن صلاتهم المشبوهة بالسيد راغب وشركائه.

اقرأ/ي أيضًا: "دقيقة صمت".. ثورة في الدراما السورية بعد الثورة

في الظاهر تبدو السطلة المافوية متماسكة ومتناغمة في تنفيذ إحكام قبضتها على المجتمع، أما في العمق فيخترقها التوتر والمشاحنات والتنافس على الاستئثار بالسلطة إلى الحد الذي قد يودي بالإطاحة بها، كما إلى الحد الذي يسمح لنا بالكشف عن الجانب الإنساني الهش الذي ينهش روح متسلطيها الأشاوس، عند شعورهم بالتهديد الذي قد ينتزع منهم قوتهم السلطوية، فنراهم متخبطين في مشاعر القلق والنكوص الطفلي، وكذلك في الاندفاع الانتحاري صوب هدم هيكل السلطة على رؤوس قاطنيه، كما في حالة العميد عصام شاهين (خالد القيش)، المندغم بقوة مع مقولة "عليّ وعلى أعدائي" الكارثية.

العميد المُهدّد بالإطاحة ومن ثم بالتصفية يمر بجميع مراحل التحولات الإنسانية للإنسان الهش والمهدد بفقدان المصير، فلا يجد مفر أمامه من حماية نفسه سوى حياكة المؤمرات وإتباع سياسة حافة الهاوية الموصلة إلى الدنس الروحي، عبر تقنية العمل على الحط من كرامة رؤوسائه والتعريض بهم، بغية إبقائهم تحت سلطته والتلاعب بهم.

تسمتد الحكاية الغرائبية التي نهضت عليها فكرة "دقيقة صمت" معقوليتها من الطبيعة اللاعقلانية للسلطة المافياوية نفسها، التي تعمل على تحطيم كل عقل ومنطق، فالمتسلط المتفلت من كل حد ومن كل قانون هو مشروع مجنون لا عقل له ولا وضمير، عندها يغدو الإيقاع بمتهمين مفترضين لا قيمة له تذكر أمام هدر حياتين بريئتين، فحياة الناس عند المتسلط مجرد أرقام لا قيمة لها ولا بعد، الأمر الذي يصب في تعرية السلطة الأسدية المافيوية الجاثمة على صدور الناس.

لا يعاين مسلسل "دقيقة صمت" السلطة في أقصى تجلياتها كنوع من الجنون، كما في حالة نجاة شخصين مدانين قضائيًا، برئيين وجدانيًا، وإنما يعاينها في السيطرة والتحكم المطلق في كل ما يقع تحت نفوذها، غير عابئة بالسلطة الروحية لرجال الدين، ولا لهواجسهم السلطوية في التحكم بمريديهم، إذ إن المهم هو إنفاذ سلطتها على الجميع، كما لا تلقي بالًا لكسر القواعد القانوية التي تفرضها على رعاياها، تلك القواعد التي لا تجيز إمكانية نجاة شخص من الموت بفعل خطأ تقني في آلية عمل حبل المشنقة. إنها سلطة ضد العقل لا تكف عن انتهاك قواعده، وهي في النهاية لا عقل لها ولاضابط سوى شرعية قوتها العارية الخالية من كل منطق ورابط.

تسمتد الحكاية الغرائبية التي نهضت عليها فكرة "دقيقة صمت" معقوليتها من الطبيعة اللاعقلانية للسلطة المافياوية نفسها

قد يتساءل المرء عن الدوافع التي تجعل السلطة الأسدية، ممثلة بوزارة الإعلام، تغامر بالموافقة على تصوير مثل هكذا أعمال داخل الحيز الجغرافي العائد لسلطتها، قد تسهم في فضح لا معقولية السلطة العائدة إلى بيت الأسد، فلا يكاد المرء يعثر عليها إلا في اشتراط تلك السلطة الأسدية على أصحاب العمل الفني بالحرص الكامل على تنزيهها من أية ممارسات مشبوهه كالرشوة ونهب المال العام، وذلك من خلال إصرارها على أن تكون نهاية العمل الفني تخدم التوجه السلطوي القائم على محاسبة المفسدين حال علم السلطات بممارساتهم، الأمر الذي لم ينج منه مسلسل "دقيقة صمت" نفسه، فقد قبل على نفسه الانخراط في لعبة السلطة السمجة التي تقوم على فكرة انقسام رجالها إلى أشرار وأخيار، غالبًا ما تكون الغلبة فيها للأخيار الأبرار، فيما الواقع يشير إلى أن السلطة الأسدية لا تعرف مثل هذا التمايز الحدي بين أخيار وأشرار مفترضين، بل هي نوع واحد من السلطة المملوكية القائمة على تنافس شركائها الفعليين على اقتسام الغائم، فالأصل في الإيقاع براغب بيك وشركائه الأشرار ليس السلطوي الخيّر نشأت الوزّان، بل نشأت المتنافس مع راغب على السلطة والنفوذ والحظوة والمال.

اقرأ/ي أيضًا: مسلسل "دقيقة صمت".. حرب البيانات وسجالات الفيسبوك والحبكة الدرامية أيضًا

إن تأويل سامر رضوان لطبيعة العمل الفني من حيث كونه صرخة من قبل الشارع الموالي والمعارض في وجه السلطة الأسدية أمر غير ذي بال، وغير فعّال، كونه يتم خارج العمل الفني ويدخل في السياسي والمباشر أكثر مما يدخل في طبيعة عمله الفني المنحاز فعليًا لفكر السلطة التي تصر على أن تدعي أن الفساد أمر خارج عن طبيعتها.

بعبارة أخرى؛ التصريح والموقف النضالي من السلطة لن يجبر العمل الفني على تحميل ما لا يُحمّل. فالمفقود في تلك الأعمال التي ترتهن لشروط اللعبة الدرامية المتواطئة مع شروط السلطة الأسدية أنها لا يمكن أن تذهب إلى حدّ القول بأن الفساد والرشوة وإفساد الحياة العامة جزء لا يتجزء من طبيعة السلطة الأسدية، التي ترى في تلك التصرفات اللصوصية وتجاوز القوانين والأعراف العامة نوعًا من أنواع تقاسم لغنائم ليس أكثر، الأمر الذي يضع الكاتب أمام احتمالين من أجل الخروج من هذا الكمين السلطوي، فإما الاستنكاف عن المشاركة بمثل هذه الأعمال الدرامية المنحازة لتوجهات السلطة الأسدية، أو اللجوء إلى العمل الروائي كونه مساحة عمل حرة لترسيخ مثل هذه مقاربات.

ظهر في الإطار التمثيلي تباين ملحوظ في أداء الأدوار الموكلة للممثلين، وإذا كان ذلك يقع بطبيعة الحال على عاتق المخرج كونه الشخص الموكل به القيام لاختيار الممثلين، فإنه يُحسب له اختيار خالد القش للقيام بدور العميد صلاح شاهين، وفادي صبيح ورنا شميس واللبنانية ستفياني صليبا وجهاد الزغبي وأندريه سكاف وغيرهم، إلا أنه فشل في اختيار آخرين كفادي أبي سمرا ومحسن غازي وغيرهم، هذا إن لم تكن سياسة الإنتاج المشترك وراء هذه الاختيارات، إلا أنه مع ذلك لا يُلام على وجود عابد فهد بدور أمير ناصر، الذي لم يكن على مستوى تحولات الشخصية المركبة، وما ذلك إلا لأن رضوان من أشار عليه بهذا الاختيار منطلقًا من أن شخصية أمير ناصر قد كُتبت لتتلائم مع الممثل عابد فهد، وهو أمر يجب أن لا يقع فيه كاتب العمل مطلقًا، لأنه ليس الأقدرعلى تقدير أداء الشخصيات التي يجب أن تكون بعهدة المخرج وحده.

التصريح والموقف النضالي من السلطة لن يجبر العمل الفني على تحميل ما لا يُحمّل

بدا في بعض المشاهد أن عمل  المخرج شوقي الماجري لم يتعد في طبيعته نقل النص المكتوب إلى حيّز الواقع دون خلق بديع، إذ غاب الكثير من الرؤية الإبداعية عن الإخراج، فعند عثور أهل القرية على أمير ناصر كعائد من قبر، بدا المشهد كما لو أنه خارج من حمّام خمسة نجوم، لا شخصًا قادمًا من ظلمات قبر، في حين يمكن تصوير قيامته المفترضة على نحو مختلف، وذلك إمكانية العثور عليه في ساحة المقبرة مع حالة جسدية ونفسية يُرثى لها، فلقد كانت قسمات ومشاعر عابد فهد غابئة عنا، كونه ظل رهين الكفن الذي لُفَّ به. وكان من الأفضل أن نرى جسده من أعلى وأسفل، كل مطرح لإيقاع الأثر المرجو منه في نفس من يشاهد رجلًا عائدًا توًّا من القبر. هذا ناهيك عن إخراج التمرد داخل السجن، الذي سمعنا فيها الرصاص ولم نر قتلى، رأينا جزءًا من حريق تافه ولم نر خرابًا.

اقرأ/ي أيضًا: عابد فهد.. انفصام في الموقف وخلط في الأدوار

يشكل عنوان العمل الفني مدخلًا مناسبًا لتلمس مقاصده الكلية، إلا أن كلمات أغنية شارة البداية الجميلة والشذية لا تسعفنا في فهم المقصود بدقيقة صمت، فهل هي دقيقة الصمت التي تمت الدعوة إليها على نحو كاريكاتوري وغير عقلاني من بائع طحين القرية أشرف العوّاد في معرض إصراره على بناء مزار للمبروك أمير ناصر، كما لو الأمر يتعلق بالوقوف أمام نصب تذكاري للشهداء؟ أما أنها دقيقة الصمت التي تلمح لها الأغنية بالوقوف على أطلال الماضي، وبالتحديد ماضي أمير ناصر بقصد التفكر والتدبر الذي آل إليه وضعه؟

لا شك أن "دقيقة صمت" لا تكمن في هذا ولا في ذاك، إذ إنها ولا شك متضمنة في دعوة المشاهد في تأمل طبيعة السلطة الأسدية المتغولة التي تتولى إدارة شؤون حياته اليومية، بدليل وجود شخص روبن هوديّ مثل أمير لحل مشاكل الناس التي تخلت السلطة عن واجباتها تجاههم.

ثمة خلل كبير في أغنية الشارة التي ظلت عاجزة عن دعم فكرة العمل الرئيسة، المنصبة على كشف لاعقلانية السلطة ولامبالاتها بالناس التي تحكمهم بالبطش العاري، حيث ظلت الأغنية تلف وتدور لتخبرنا عن ظلم وجودي ألمَّ بالبطل، بينما الظلم الذي تعرض له نتاج سياسة السلطة اللامبالية بمشاكل البشر وهمومها.

امتاز "دقيقة صمت" بسيناريو محبوك، حيث تجد الأحداث تبريرًا منطقيًا لها على نحو دائم، رغم لا منطقية الحدث الرئيسي

امتاز "دقيقة صمت" بسيناريو محبوك، حيث تجد الأحداث تبريرًا منطقيًا لها على نحو دائم، رغم لا منطقية الحدث الرئيسي القائم على نجاة أمير من مصيره القدري الذي كان ينتظره بفعل شجاعته الشخصية من جهة، ورغبة السلطة من جهة أخرى، التطورات التي طرأت على مسيرة الشخصيات بشكل عام كانت مقنعة رغم بعض الأفكار، التي لا تنتمي لطبيعة شخصية سلطوية مثل العميد شاهين الذي أسرّ لأمير ناصر بدافع غير منطقي يقف وراء عدم تصفيته بعد موت أدهم يتمثل بإعجابه بشجاعته ووفائه، في حين أن المنطق يقول إن الدافع وراء ذلك المصلحة، مصلحة شاهين بوجود شخص مثل أمير ليستخدمه كرأس حربه في صراعه مع شركائه في السلطة.

اقرأ/ي أيضًا: مسلسل "عندما تشيخ الذئاب".. مآلات درامية تناسب رواية النظام السوري

المؤكد أن الصراع مع السلطة المتغولة على الناس في "دقيقة صمت" لم يكن داخل العمل بل خارجه أيضًا، يحدوها رغبة عميقة لدى الكاتب بأن ينتقل فعل التأمل لدى المشاهد تجاه عسف السلطة من داخل العمل الفني إلى خارج الواقع المعاش، هناك حيث تتجلى ضروب هدر الكرامة التي تمارسها السلطة الاسدية ضد رعاياها.

اقرأ/ي أيضًا:

مسلسل "ترجمان الأشواق".. عن التصوف واليسار المهزوز والمؤامرة الكونية الكبرى

مسلسل الكاتب.. سقوط الدراما البوليسية من المنافسة الرمضانية