03-يونيو-2019

من مسلسل دقيقة صمت

عند سؤاله عن "الخوذات البيضاء" الذين تطوعوا لإنقاذ ضحايا القصف، قال بشار الأسد إن هؤلاء هم عناصر جبهة النصرة، حلقوا ذقونهم وارتدوا خوذات بيضاء ويعملون بأجنداتٍ خارجيةٍ لتجميل صورة جبهة النصرة. هذه لم تكن أكبر كذبات النظام السوري ولا أكثرها ظرافة منذ اندلاع الثورة السورية.

تدور أحداث "دقيقة صمت" قبل الثورة السورية، ما سهّل على سامر رضوان الحديث عن الفساد والقمع والتعذيب في السجون دون أن يُضطر إلى الغوص في تفاصيل ما حدث خلال الثورة

القاسم المشترك بين كل تعليقات النظام السوري وإعلامه على الثورة هو منهج استغباء الناس الذي لا تزال الأنظمة العربية -بشكلٍ عام- تنتهجه في التعليق على الجرائم التي ترتكبها بحق شعوبها. هذا الاستغباء وُلِد من جهل نسبة عالية من الشعوب العربية، وهو البيئة التي ظلت تُراهن عليها الأنظمة لعقود في بسط سيطرتها على شعوبها ومنع النقد والاحتجاج وحشد التأييد، وهو أبرز ما طرحه المسلسل السوري "دقيقة صمت" للكاتب سامر رضوان والمخرج شوقي الماجري.

اقرأ/ي أيضًا: مسلسل "دقيقة صمت".. حرب البيانات وسجالات الفيسبوك والحبكة الدرامية أيضًا

يُناقش مسلسل "دقيقة صمت" موضوعين أساسيين، أولهما الفساد بين كبار المسؤولين في النظام وداخل الأمن السوري، وجاهزية هذه الأطراف لفعل كل شيء من أجل التغطية على فسادها. وثانيهما -وهو الأكثر بروزًا في العمل- حالة الجهل بين الناس التي يستغلها أركان الفساد في تمرير كل ما يريدون من أكاذيب تخدم مصالحهم، حتى لو كان إقناع الناس بأن رجلًا تم تنفيذ حكم الإعدام فيه قد عاد إلى الحياة وخرج من قبره، وأنه "رجلٌ مبروك".

عند ظهور أمير (عابد فهد) وعودته إلى الحياة بعد إعدامه، ينقسم الناس بين مصدّقٍ للحكاية ومؤمنٍ بأن أمير "مبروك وصاحب كرامات"، وبين مُكذّبٍ لها وراغبٍ في فهم ما يحدث والحصول على تفسيرٍ له. الطرف الأول لا مشكلة معه، أما الطرف الثاني فيردُّ عليه أمير بتهديده بمخالفاتٍ قانونيةٍ وأخلاقياتٍ ارتكبها، فيتراجع عن المطالبة بتفسيرٍ لما يحدث.

يؤكد سامر رضوان في حوار صحافي أن حوالي 40% من أحداث "دقيقة صمت" خيالية. لكننا بالرغم من ذلك نستطيع من خلال هذا العمل تفسير الحالة السورية بعد الثورة، أي أننا سنجد إجابة واضحة على سؤال "كيف صدّقت الناس أن نسف مبنى بالكامل وتحويله إلى أنقاض يُمكن أن يحدث نتيجة قذيفة هاون؟". أو سؤال "كيف أنكر الناس استخدام البراميل المتفجرة من قبل النظام رغم وجود فيديوهات تُوثقها؟"، وأسئلة أخرى مشابهة كثيرة.

الجواب ببساطة هو أن المؤمنين بصواب كل هذا إما أشخاصٌ تمكّن منهم الجهل والاستسلام لرواية النظام طوال عقودٍ فصدّقوا ما قاله إعلام النظام. أو أشخاصٌ تمكّن منهم الخوف ففضلوا تصديق هذه الأكاذيب على دفع ثمن تكذيبها.

تدور أحداث "دقيقة صمت" قبل الثورة السورية، ما سهّل على رضوان الحديث عن الفساد والقمع والتعذيب في السجون دون أن يُضطر إلى الغوص في تفاصيل ما حدث خلال الثورة بعد ظهور الجماعات المسلحة وجرائم "داعش" المًصورة. فهذه التفاصيل قادرةٌ على تشتيت العمل وإفلات خيوطه من يد الكاتب الذي قدّم في الواقع سيناريو مُحكمًا يخلو من الفجوات بين مَشاهده وفي البناء الدرامي وتسلسل الأحداث، بل إن كل شيءٍ فيه كان مبررًا ومفهومًا، كما حدث في اكتشاف العميد عصام (خالد القيش) لخطة تصفيته التي وضعها شركاؤه في اللعبة، وكذلك في المعلومات السرية والخاصة التي مثّلت الأوراق التي استخدمها أمير في تهديد من كذّبوا روايته، فهذه المعلومات جاءت من التقارير التي يملكها الأمن السوري عن المواطنين نتيجة الرقابة الدائمة والمخبرين، وكذلك نتيجة مراقبة جميع المكالمات الصادرة والواردة لجميع أهالي قرية أمير، وهذا دليلٌ آخر على الحد الذي بلغته قبضة الأمن.

أجاب "دقيقة صمت" على سؤالٍ ساخرٍ نطرحه دائمًا: هل يُصدق الصحافي المؤيد للنظام والشبيحة الأكاذيب التي يُروج لها النظام وإعلامه؟

جهل الناس هذا وقبضة الأمن عليهم لم يسبق أن ناقشته الأعمال السورية من هذه الزاوية وبهذا العمق قبل الثورة إلا في حالةٍ واحدة لكنها أقل عُمقًا، كان ذلك في مسلسل "أيام الولدنة" من تأليف حكم البابا وإخراج مأمون البني. في ذلك المسلسل أجبر الأمن، الناس عامةً، على إنكار وجود شخصٍ حي أبو رزوق (خالد تاجا) والتعامل معه كميّت.

اقرأ/ي أيضًا: مسلسل "ترجمان الأشواق".. عن التصوف واليسار المهزوز والمؤامرة الكونية الكبرى

في "أيام الولدنة" سرق أبو رزوق سلاح شرطي وخزنة بنك وتحرش بامرأة مع زوجها وخلع ثيابه في الشارع وسرق سيارة، لكن كل ذلك لم يُخرج الناس من خوفها ولم يدفعها للتعامل معه على أنه على قيد الحياة. أما في "دقيقة صمت" فقد غاص رضوان في الحديث عن كيف يفعل الأمن كل ذلك، كيف يدفع الناس إلى تصديق ما يُخالف العقل والعلم والمنطق، بل ويُخالف النصوص الشرعية أيضًا.

أجاب "دقيقة صمت" على سؤالٍ ساخرٍ نطرحه دائمًا، "هل يُصدق الصحافي المؤيد للنظام والشبيحة الأكاذيب التي يُروج لها النظام وإعلامه؟". وفق "دقيقة صمت" فإنهم لا يُصدقونه، فأطراف اللعبة (المسؤولون والشرطة) أعادوا أمير إلى الحياة رغم أنهم لا يُصدّقون أن اللعبة ستمر. وأمير ذاته نفّذ اللعبة رغم أنه كرّر على العميد عصام أن هذا جنون ولا يُمكن أن ينجح.

لقد شخّص رضوان على لسان العميد عصام كل هذه الحكاية بقوله "نحنا عم نستثمر في قطاع لا يُمكن يخسر"، قاصدًا بذلك جهل الناس وخوفهم. وفي كل المرات التي قال له أبو العزم (فادي صبيح) وأمير أن هناك من لا يصدق الأمر، أجاب، "شغلتهم بسيطة"، وكانت النتيجة هي تهديد كل هؤلاء وإسكاتهم.

يتطرق "دقيقة صمت" إلى الصراعات داخل المؤسسة الأمنية، لكنه في هذا لا يُضيف جديدًا إلى ما تطرقت له مسلسلات سورية في هذا السياق مثل "العرّاب" من تأليف رافي وهبي، إذ كان الصراع في "دقيقة صمت" تقليديًا بين دفة الفساد ودفة النزاهة داخل النظام، بينما تبقى الإشارة إلى "القيادة" ثابتة كما في كل المسلسلات السورية دون توضيح موقف "القيادة" من هذه الصراعات.

يُمكن القول، إن "دقيقة صمت" شكّل حالة استثنائية في الدراما السورية بعد الثورة

وبالعودة إلى نسبة 40% الخيال، التي تحدث عنها رضوان في الصحافة، لا يبدو واضحًا قصد الرجل هنا إن كان الخيال هنا هو أحداث لا يُمكن حدوثها في الواقع لكنه أدخلها في العمل ليوضح إلى أي حدٍ وصلت الأمور في سوريا قبل انفجار الأوضاع عام 2011، أو إن كان القصد هو أن 60% من الواقع الذي تحدث عنه هي أحداث وقصص حدثت بالفعل، وقد أضاف إليها 40% من خياله. على أي حال، يبدو أن النسبة الأكبر من الـ40% خيال التي تحدث عنها الكاتب تدور في الصراع بين المسؤولين الذي يصل إلى حد اختطاف خمسة مسؤولين كبار (فاسدين وصالحين) من قبل ضابطين برتبة عميد ومجموعة من العناصر "الذين لا يفكّون الحرف" كما وصفهم العميد عصام، ثم الإفراج عن هؤلاء المسؤولين وفبركة كذبة يُصدقها أركان النظام رغم أنها عصية على التصديق.

اقرأ/ي أيضًا: مسلسل الكاتب.. سقوط الدراما البوليسية من المنافسة الرمضانية

يأخذ الصراع بين المسؤولين العمل بعيدًا عن بطله عابد فهد الذي كان محور القصة طوال 25 حلقة، ثم تعود الأحداث لتدور حوله مرة أخرى، وهنا يظهر التأكيد على سطوة رجل الأمن وتحكمه بأمير الذي عرف قاتلًا وقتيلًا، إذ يُهدده العميد عصام محذرًا من استخدام "لهجة" غير مناسبة خلال الحوار بينهما.

في أحاديث صحافية قال سامر رضوان، إن نهاية العمل مفتوحة، وإنه "رُبما سيذهب إلى تأليف جزءٍ آخر من العمل إذا رأى أن هناك حاجة لذلك، وهذا مرتبطٌ بردود فعل الجمهور". وبصرف النظر عن كيفية قراءة رضوان لرأي الجمهور، فإن الرجل قدّم عملًا فنيًا قويًا لا يُحسب له وحده طبعًا، بل يُؤخذ هنا بعين الاعتبار أداء الفنانين وأبرزهم خالد القيش وعابد فهد وفادي صبيح ورنا شميس، ثم أداء المخرج الذي قاد العمل بشكل يُحسب له أيضًا كمخرجٍ قادمٍ من بلدٍ آخر (تونس) وإن كان قد عمل سابقًا في سوريا وهذا ليس عمله الأول.

يُمكن القول، إن "دقيقة صمت" شكّل حالة استثنائية في الدراما السورية بعد الثورة، رغم أن العمل لم يتحدّث عن الثورة بل تدور أحداثه قبلها، إلا أنه بتطرقه لما سبقنا الحديث عنه أعاد صياغة رواية معاكسة لتلك التي اجتهد الفريق الموالي للنظام في إنجاز أعمالٍ تدعمها وترسخها.

شهدت السنوات الأخيرة تلميعًا وتزويرًا للتاريخ بشكل مثير للسخرية، وتلميعًا للأمن السوري بشكل يُخالف كل ما فضحته الدراما السورية قبل الثورة في أعمال مثل "مرايا" و"بقعة ضوء" و"أيام الولدنة" و"لعنة الطين" وغيرها، إذ بلغ التزوير والتلميع إلى حد أن ضابط المخابرات يستدعي كاتبًا معارضًا كان هاربًا خارج البلاد فقط من أجل الحصول على توقيعه على كتابٍ من تأليف هذا الكاتب المعارض! كما حدث في مسلسل "ترجمان الأشواق". أو أن النساء في سجن حلب يتحرّشن بالضابط لممارسة الجنس معهن لكنه يمتنع! كما يمتنع الجيش عن اقتحام السجن ذاته لقمع الإرهابيين خوفًا على بعض الأبرياء بداخله! كما أورد فلم "رد القضاء".

النهاية المفتوحة لمسلسل "دقيقة صمت" هي في الواقع مفتوحة أيضًا في مستقبل الكاتب الذي قد يكون من العدل وصفه بأنه الأكثر تميزًا وجرأة في سوريا خلال السنوات الأخيرة

"دقيقة صمت" استثناءٌ في الدراما السورية بعد الثورة ليس في جانب الفساد وتزوير التاريخ فحسب، بل هو كذلك في خروجه عن الطرح التقليدي المُكرر في هذه الدراما مؤخرًا مثل الخيانات الزوجية والتطرف الديني وقصص النازحين "ذوي الأخلاق الفاسدة" كما صوّرتهم أغلب الأعمال. لكن وإن كان "دقيقة صمت" استثناءً في كل ذلك، فإنه ليس استثناءً في رصيد سامر رضوان صاحب "لعنة الطين" و"الولادة من الخاصرة"، وهما من أكثر المسلسلات جرأة في فضح الفساد والإرهاب داخل النظام والأمن السوري في تاريخ الدراما السورية.

اقرأ/ي أيضًا: الدراما السورية في رمضان 2019.. المكتوب الواضح من عنوانه

النهاية المفتوحة لمسلسل "دقيقة صمت" هي في الواقع مفتوحة أيضًا في مستقبل الكاتب الذي قد يكون من العدل وصفه بأنه الأكثر تميزًا وجرأة في سوريا خلال السنوات الأخيرة، فالرجل انتقل إلى لبنان بعد الملاحقة التي تعرّض لها على خلفية مواقفه السياسية والفكرية، وتعرّض مؤخرًا لهجوم من وزارة إعلام النظام التي قالت إنه خرج من سوريا هاربًا من قضية خطف وسرقة وليس بسبب مواقفه الفكرية، وهي القضية التي صدر فيها حكمٌ ببراءة رضوان قبل سنوات، هذا إضافة لتصريحات من منتج "دقيقة صمت" وآخرين تبرأوا فيها من تصريحاته التي قال فيها إن "دقيقة صمت صرخة في وجه النظام"، فهل سيكون مقبولًا بعد الآن التعامل مع رضوان في أعمال فنية أخرى لاحقًا؟ أم سيُصبح الرجل مسؤولًا عن سفك دماء السوريين، هذه التهمة التي وجهها نقيب الفنانين زهير رمضان للفنان جمال سليمان بسبب مواقفه السياسية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

5 من أجمل المسلسلات الإسبانية على نتفليكس

مسلسل "أهو ده اللي صار".. الهزيمة تعيد نفسها مرتين