04-يونيو-2019

من المسلسل

عندما أُعلن عن تحويل رواية "عندما تشيخ الذئاب" للروائي الفلسطينيّ-الأردنيّ جمال ناجي إلى مسلسلٍ تلفزيوني بالعنوان نفسه، كان الخوف من أن يجري تمييع الرواية الأكثر أهمية بين روايات الراحل، ناهيك عن تسطيح مضمونها وأفكارها أيضًا. ظلّ هذا الخوف قائمًا حتّى بداية عرض العمل. حينها، تبدّلت الصورة، وقدّمت الحلقات الأولى انطباعًا إيجابيًا للمشاهد، لجهة اختلاف المضمون عمّا جاء من مضامين بقية أعمال الدراما السورية لهذا الموسم الرمضاني من جهة، ومن خلال القصّة التي قُدِّمت أيضًا بحبكةٍ متينة عزّزت من قدرة المسلسل على المنافسة وحصد المتابعة الجماهيرية من جهةٍ أخرى.

تعرّض مسلسل "عندما تشيخ الذئاب" لمقصّ رقيب شبكة قنوات أبو ظبي الإمارتية ما جعله يفقد انسجامه

لكنّ هذا الانطباع الذي قدّمته الحلقات الأولى التمهيدية لم يُكتب له أن يصمد طويلًا، والسبب ببساطة أنّ أحداث المسلسل بدأت تسلك من الحلقة السابعة مسارًا مختلفًا عن سابقه، والنتيجة فقدان هذه الأحداث انسجامها بشكلٍ كامل الذي جعلها تفقد وجهتها أيضًا، وتظهر كما لو أنّ هناك أجزاءً منها قد أُسقطت عمدًا من مسار العمل. التفسير الأوّل الذي يتبادر إلى ذهن المشاهد هو أنّ هذا التحوّل المفاجئ قد يكون نتيجة خللٍ انتاجي أو سهوات في السيناريو، ولكنّ الحقيقة أنّ المسلسل تعرّض لمقصّ رقيب شبكة قنوات أبو ظبي الإماراتية، فاقتُطعا منه مشاهد هنا وأخرى هناك، لا سيما المشاهد التي جاءت بخلفياتٍ سياسية لا تروق لسياسات الشبكة ودولتها.

اقرأ/ي أيضًا: "دقيقة صمت".. ثورة في الدراما السورية بعد الثورة

تأسّس العمل (إخراج عامر فهد، وسيناريو حازم سليمان) على حكاية بسيطة لصديقين يفترقا بعد أن تبنّى كلّ واحدٍ منهما مسارًا سياسيًا وأيديولوجيًا يختلف عن الآخر. الأوّل، جبران الشياح (عابد فهد)، تحوّل إلى يساريٍّ دخل دائرة الاشتباك مع نظام الأسد الأب، لينتهي به الحال سجينًا سياسيًا ومطرودًا من الحزب الذي ناضل في صفوفه قبل أن يُفرج عنه أخيرًا بعد أن وشى برفاقه. الثاني، الشيخ عبد الجليل الصرّاف (سلوم حدّاد) وصاحب الماضي الأسود، سلك نقيض طريق صديقه جبران، وتحوّل إلى إسلاميٍّ متشدّد، قبل أن يبدّل ثوبه فجأة ويُصبح صوفيًا فجأة.

عبد الجليل الذي تلطّى بثوبة التشدّد الدينيّ لستر ماضيه القذر، وشخصيته القديمة "الجنزير" جسّد داخل العمل براغماتية الجماعات الإسلامية، إلّا أنّه بدا براغماتيًا أكثر مما يجب، واختلف عن جماعته بأن ترك طريقًا للعودة حين دخل بدوره دائرة الاشتباك مع النظام، على عكس رفاقه الذين ألقوا، كما يقول في أحد المشاهد، بكلّ أسلحتهم دفعة واحدة. وجبران، على اختلاف مشروعه، كان واحدًا منهم، ممن لم يتركوا طريقًا للعودة إن حدث وأن هُزموا.

وحين أصبحت الهزيمة أمرًا واقعًا، بدّل عبد الجليل ثوب التشدّد بآخر معتدل، تماشيًا مع متطلّبات المرحلة، وبدأ يسعى لأن يكون مقرّبًا من السلطة التي كان يُدرك مسبقًا مدى حاجتها الشديدة لخدماته، كواحدٍ من أكثر المؤثّرين على سلوك الناس، لا سيما في الأحياء الشعبية، حيث النشاط الأكبر للجماعات الإسلامية المناهضة للنظام.

حاجة أجهزة الأمن لعبد الجليل الصرّاف سببها تحوّلات وأحداث تسعينيات القرن الماضي، أي أيام غزو العراق، وتصاعد المدّ السلفي، وارتفاع حدّة الخطاب الجهادي كذلك. ومهمّة الشيخ عبد الجليل واضحة، أن يُبعد الناس عن الانخراط في أجواءٍ كهذه، وأن يعمل على جذبهم لا لصفّه، وإنّما إلى نموذجه الدينيّ الذي يرسّخ عندهم فكرة أن الدين مجرّد عبادة وحلقات ذكر وحضرات تصوّف وغير ذلك، ولا علاقة له بالسياسية إطلاقًا، لا من قريبٍ ولا من بعيد.

هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، أن يقنع أصدقاء الأمس ممن حملوا السلاح في مواجهة السلطة، ويمهّدون الآن لجولةٍ جديدة من مواجهتها، بالتخلّي عن أفكارهم وتطلّعاتهم، والعودة إلى "حضن الوطن"، والعمل تحت جناح أجهزة الأمن. إنّه، ببساطة شديدة، عرابًّا لمصالحات تلك الفترة.

في أحد المشاهد، تتجلّى فكرة أو هدف المسلسل، وتكرّ السبحة بعد ذلك لتتأكّد فرضية أنّ العمل، في جانب من جوانبه، يسعى لتبرئة أفعال السلطة مطلع الثمانينيات، حين يُخاطب عبد الجليل أصدقاءه بالقول إنّه يعرف جيدًا أنّ مشروعهم ليس إقامة دولة إسلامية، وهدفهم ليس الحكم بما يقول الله، وإنّما الوصول إلى السلطة فقط. بغضّ النظر عن مدى صحّة ما يُقال، إلّا أنّ ذلك لا يُعفي النظام من مسؤولية ما ارتكبه من انتهاكاتٍ آنذاك، عكس ما يريد المسلسل قوله.

وفي مشهدٍ آخر يتحاور فيه جبران وواحدٍ من كبار المسؤولين في أجهزة الأمن، يقول الأخير بأنّ النظام هو من بنى الوطن، بمفرده، وإن بحجارة رديئة جدًا، ولكنّ المنزل رغم ذلك لا يزال صامدًا. وبالتالي ليس هناك حاجة لمخطّط الأولاد (اليسارين وغيرهم) لبناء دولة/ منزل جديد، وإن كان أكثر حداثة.

على عكس عبد الجليل، لا يزال جبران غير قادر على التصالح مع هزائم اليسار والشيوعية، وانهيار الاتّحاد السوفييتي أيضًا، وخساراته الكبيرة لصالح انتصارات عبد الجليل وزمرته من الإسلاميين البراغماتيين. يعيش الرجل على ذكريات وأحلام حقبة متوهّجة ظنّ أنّها ستطوي صفحة تاريخ البلاد البائس، قبل أن تُطوى صفحته ومن معه من يساريين. هكذا، حافظ على مسافة أمانٍ تفصله عن السلطة، وتقدّر مساحتها بحجم خيباته المتراكمة، هو اليساري أكثر مما ينبغي، فحتّى بعد تحرّره من عب الانتماء الأيديولوجي، ودخوله عالم الرأسمالية بعد أن تخلّى عن مبادئه تحت ضربات الفقر وبطش أجهزة الأمن أيضًا، إلّا أنّه لا يزال مسكونًا باليسار، ويعيش صراعًا بين شخصية جبران اليساري، وبين تلك الرأسمالية التي فُرضت عليه.

عبر التركيز على رجال الدين والدين معًا، بدا الهدف من "عندما تشيخ الذئاب" هو تبرير انتهاكات السلطة بحقّ الجماعات الإسلامية، الإخوان تحديدًا، وبالتالي تبرير ما حدث في حماة سنة 1982

هذه الحكاية، أو الخطّ الرئيسي للحكاية، وضمن إطارها نُسجت التفاصيل والحكايات الجانبية للعمل، مفرزةً خطوطًا عديدة تتشابك وتتلاقى جميعها في عقدة واحدة؛ السلطة والدين والجنس. وخلف هذه الحكاية، هناك ما يُمكن للمشاهد أن يلمسه بسهولة، وهو، كما ذكرنا سابقًا، محاولات تبرير أفعال نظام الأسد الأب، الأمر الذي ينسف مقولة أن يكون المسلسل معارضًا للسلطة، أو يفضح فسادها، ذلك أنّ الفساد الظاهر في العمل محصور بعبد الجليل واختلاسه لأموال الجمعية الخيرية التي أسّسها بمباركة أجهزة الأمن.

اقرأ/ي أيضًا: مسلسل "ترجمان الأشواق".. عن التصوف واليسار المهزوز والمؤامرة الكونية الكبرى

هذا التركيز، بهذه الصورة، على رجال الدين والدين معًا، إنّما الهدف منه تبرير انتهاكات السلطة بحقّ الجماعات الإسلامية، الإخوان تحديدًا، وبالتالي تبرير ما حدث في حماة سنة 1982. هكذا، يكون ببساطة ما قدّمه المسلسل هو روايته الكاملة عن أحداث تلك الحقبة التي حين يجري الحديث عنها داخل العمل، فإنّه يحدث دون الإشارة إلى المجازر الكبيرة والقصف الشديد الذي سوّى حماة وغيرها من المدن السورية بالأرض.

اقرأ/ي أيضًا:

مسلسل الكاتب.. سقوط الدراما البوليسية من المنافسة الرمضانية

مسلسل "دقيقة صمت".. حرب البيانات وسجالات الفيسبوك والحبكة الدرامية أيضًا