07-يونيو-2019

عابد فهد في "عندما تشيخ الذئاب"

مما لا شكّ فيه أنّ تجسيد أيّ ممثّلٍ لأيّ شخصية في أيّ عملٍ درامي يخوض غمار السياسية، لا يعني بالضرورة تبنّي موقفها السياسي الظاهر في العمل. الموضوع في نهاية المطاف مجرّد تمثيل. دورٌ يؤدّيه ويتحرّر منه ما إن يُغادر موقع التصوير. والعمل أيضًا بحدّ ذاته قد لا تكون حكايته واقعية. ولكن، عند الحديث عن أعمالٍ درامية تتناول واقعًا سياسيًا معيّنًا، بمصداقية عالية، فمن غير الممكن ألّا يكون هذا الواقع، بمناخاته وكذلك أجواءه، واقعيًا، وإن بدرجاتٍ قليلة. 

من غير المعقول أن يقوم الممثل بلعب أدوار تكشف حقيقة نظامٍ دكتاتوريّ لا يلبث أن يُغادر موقع التصوير ليرتمي في أحضانه

فكرة ألّا يلتزم الممثّل، أو ألّا يكون ملتزمًا من الأساس بموقف الشخصية التي يؤدّي دورها داخل العمل، هو أمر طبيعي بحت، ولكن ما هو غير طبيعي إطلاقًا أن يقوم بلعب أدوار شخصياتٍ تقدّم أو تكشف، بشكلٍ أكثر من كامل، حقيقة نظامٍ دكتاتوريّ لا يلبث أن يُغادر موقع التصوير، حتّى يعود ليرتمي في أحضانه، لا بل يهديه ما يكسب من جوائز أيضًا، كتكريسٍ للموقف الذي يتبنّاه. والحال هذه هي حال الممثّل السوريّ عابد فهد، الذي لعب ومثّل أدوارًا تتناقض مع موقفه من نظام عائلة الأسد.

اقرأ/ي أيضًا: عابد فهد.. العودة إلى حضن البهيمية

حاول عابد فهد مطلع الأحداث ألّا يتخلّف عن ركب الانتفاضة الشعبية، وأطلق آنذاك تصريحاتٍ وضعته خارج خانة التردّد والمماطلة في اتّخاذٍ موقفٍ واضحٍ من ممارسات النظام، قبل أن يتبدّل الموقف سريعًا، ونكتشف حقيقة أنّ الممثّل السوريّ أطلق تصريحاته بناءً على شعوره بأنّ النظام قريب من الانهيار، وحين شعر أنّ اتّخاذه لهذا الموقف كان قرارًا متسرّعًا، وأنّ النظام باقٍ، وهذا بالمناسبة غير صحيح إطلاقًا، عاد ليتقرّب منه مجدّدًا. والخلط هنا بين المواقف المتّخذة بناءً على فكرة ضمان مكانٍ في المرحلة الجديدة، أي ما بعد رحيل الأسد، ليست إلّا لعبة المستبدّين.

العنوان العريض إذًا هو تدشين عابد فهد لمرحلة جديدة مع النظام، عتبتها إهدائه جائزة "الموريكس". والمفارقة هنا أنّ النظام الذي أهداه الفنّان هذه الجائزة، هو نفسه النظام الذي وضعنا بنفسه أمام حقيقته في أكثر من عملٍ درامي، منهم عملين في الموسم الرمضاني الفائت: "دقيقة صمت" و"عندما تشيخ الذئاب".

اخترق العمل الأوّل جدران مؤسّسات النظام الأمنية دون مهادنة، كاشفًا عن فسادٍ مسؤولٍ عن توزيع النفوذ وشراء الولاءات، والصعود إلى أعلى مواقع صنع القرار. يلعب عابد فهد في هذا المسلسل دور سجين يُدعى أمير ناصر، يقع ضحية لعبة كبيرة أفرزتها صراعات مسؤولين فاسدين في السلطة على النفوذ والسيطرة.

المسؤولون بدورهم يقعون في مأزقٍ كبير حين تعتقل الشرطة شريكين لهما يهدّدان بكشف أوراقهم إن لم يطلقوا سراحهما، فيلجئون للتخلّص منهم من خلال مؤامرةٍ كبيرة يتكفّل عميدٍ بالشرطة بإدارتها. أمير ناصر كان شريكًا غير مباشر في هذه المؤامرة، وكان كذلك شاهدًا على فساد سلطة يتصارع ضبّاطها ومسؤوليها ورؤوسها على مواقع النفوذ والقوّة، لذلك، لن نستغرب أن يكون عميد في الشرطة أقوى ممن يعلوه رتبة، وأن يطرق باب الوزراء مهدّدًا أو مبتزًّا، وأن يحيك لمسؤولين آخرين مؤامراتٍ تحمي مصالحه وشركاؤه، وتضمن أن يظلّ فسادهم طي الكتمان.

في العمل الثاني، يستمرّ عابد فهد في لعب دور الضحية. هذه المرّة، يلعب دور شخصية يسارية ماركسية تعيش وتناضل من أجل تغيير السلطة وهدم النظام القائم وتشييد نظامٍ آخر بمخطّطات جاهزة، وأساساتٍ أكثر صلابة ومتانة من تلك الموجودة في بنية نظام الأسد الأب. تصطّدم هذه الأحلام بطبيعة الحال بأجهزة أمن النظام الذي يصوّر نفسه بأنه من بنى الوطن حجرًا فوق حجر، وإن كان ذلك بأساساتٍ قديمة، ما يعني أنّه ملكٍ شخصي لن يسمح لأحد بإعادة بنائه حتّى ولو كان ذلك بأساساتٍ أكثر حداثة.

اصطدامه بالنظام يقوده إلى سجونه دون شك، حيث يختبر وحشيته بشكلٍ مباشر، قبل أن يخرج منه بعد أن يخبر عن مكان رفاق الحلم المشترك. خروجه من السجن يضعه في سجن أكبر من حيث المساحة، إذ يجد نفسه ممنوعًا من العمل في دوائر الدولة، ومحرومًا من الكثير من الحقوق، ويجري التعامل معه بوصفه خائنًا لبلاده وعمليًا للقوى الخارجية. وبما أنّ دوام الحال من المحال، يتحوّل جبران/عابد فهد فجأةً من اليساري العتيق إلى واحدٍ من أكبر الرأسماليين في البلد، قبل أن يتبوأ أخيرًا منصب وزير في سلطةٍ أمعنت في إذلاله وتعذيبه حين عارضها. ومن موقعه الجديد هذا، يتابع حجم الفساد الهائل في كلّ مؤسّسات الدولة، وتعامل أجهزة الأمن مع رجال الدين لتخدير الناس وتقريبهم من النظام القائم، بحيث تصير فكرة الخروج عليه غير واردة، وإن حصلت، تكون قدرة السلطة على اخمادها في متناول اليد.

في سوريا، الدولة بجميع مؤسّساتها ليست أكثر من مدرسةً لتخريج الفاسدين!

اقرأ/ي أيضًا: مسلسل "عندما تشيخ الذئاب".. مآلات درامية تناسب رواية النظام السوري

إذًا، لدينا الآن الصورة الآتية: نظام دكتاتوري فاسد يقوم أو يحفظ وجوده من خلال شبكة مسؤولين فاسدين مقرّبين منه، ينشغلون بجمع الثروات بطرق غير شرعية، شرط قمع وإبعاد أي شخص لا يتماشى مع رغباتهم، بمعنى أنّ الدولة كاملةً، بجميع مؤسّساتها، ليست أكثر من مدرسةً لتخريج الفاسدين. ناهيك عن بطشه وقمعه بمن يعارضه من الشعب، وتحويل البلاد إلى مزرعةٍ أو ملكٍ شخصي. والسؤال هنا، كيف لفنّان يلعب أدوار كهذه، ويعرف حقّ المعرفة أنها أدوار تتقاطع مع الواقع بشكلٍ أكثر من كامل، أن يستمرّ في تأييد هذا النظام؟ ربّما لا يزال عابد فهد يعيش حتّى هذه اللحظة دور المقدّم رؤوف في مسلسل "الولادة من الخاصرة"، ولا يزال مقتنعًا بأنّ الحياة مضرّة بالصحة.

اقرأ/ي أيضًا:

"دقيقة صمت".. ثورة في الدراما السورية بعد الثورة

مسلسل "ترجمان الأشواق".. عن التصوف واليسار المهزوز والمؤامرة الكونية الكبرى