28-يوليو-2017

الشاعرة مريم تمر

العاطفة في الأصل هلام له كينونة بدون شكل، تأخذ خلال تجليها صورًا كثيرة كانت فيما مضى ضحكًا أو بكاء أو غضبًا عارمًا لا يتجاوز - مهما امتدت - فترة حياة الإنسان نفسه ودون أن يترك أثرًا بعد ذلك مثله مثل جبل جليد تحيله شمس الزمن إلى بخار، وبدخول الإنسان مرحلة الوعي بوجوده وفنائه اتخذت تلك التجليات منحىً آخر أقل عنفًا وأكثر بقاء، عبر تجسيد تلك العاطفة على شكل كلمات أو موسيقى أو لوحات فنية خلدت تلك العاطفة، ونقلتها إلى آفاق أبعد مما تستطيعه الانفعالات الزائلة التي أتينا على ذكرها.

تقوم العاطفة التي تتجلى شعرًا على ركنين لا ثالث لهما: الشكل والمضمون

تقوم العاطفة التي تتجلى شعرًا على ركنين لا ثالث لهما: الشكل والمضمون أو اللغة والمعنى، فالمعنى هو الابن الشرعي - المشوه بشكل أو بآخر - لتلك العاطفة، وهو صورتها الخام بعد عبورها برزخ العقل مباشرة، واللغة "واسطة النقل" التي يختارها ذلك المعنى المحتوى من أجل ظهوره للعلن وضمان خلوده.

اقرأ/ي أيضًا: الشعر السوري في الشتات: قراءة في رؤى نقدية (1- 2)

هذا هو فضل الكلام على السكوت، أما ما فضل الشعر على الكلام فلا شك عندي أن بين الشعر والكلام نقطة فصل جامعة مانعة هي الشعور بالجمال، شعور المتلقي أن هذه الكلمات المبتذلة في إفرادها الطريفة في تأليفها قد حركت عاطفته وقالت ما بنفسه وذكرته بمنسياته، أي أن تنقل القصيدة – بعد استيعاب محتواها وتمثله – قارئها المثقل بالمعاش اليومي إلى المرحلة الأولى النقية ذاتها التي عانى منها الشاعر وكانت سببًا في إنتاج القصيدة التي أمامه.

صدر مؤخرًا للشاعرة الكردية مريم تمر مجموعة شعرية تحت عنوان "الأبله الذي يدق في غيابي" (دار التكوين، دمشق 2017). المجموعة ضمت ثلاثة أقسام، تضمّن القسمان الأولان "سرد" و"نهر" نصوصًا طويلة وقصيرة، بالإضافة إلى باقة من قصائد الومضة تحت عنوان فرعي مناسب هو "ضوء".

جاء العنوان الرئيسي للمجموعة على شكل جملة خبرية تامة بمبتدأ محذوف جوازًا تقديره (قلبي) بالمعنى البعيد إن كانت (يدق = ينبض)، وتقديره (حبيبي) بالمعنى القريب إن كانت (يدق = يقرع)، وتلك في حد ذاتها لعبة بلاغية تستحق التقدير.

في مجمل قصائدها، تشعر مريم تمر بالأشياء – وليس فقط بالأشخاص - من حولها: "ذاك الطفل المثقل بكتبه/ العجوز الذي أخطأ طريق بيته/ تلك الحفرة في الشارع الموحل/ تنتظر سيارة تمر بها/ الكلب المنزوي جانب الحائط/ متخفٍّ من البرد الطويل".

ولا شيء عندها غير قابل أن يتحول إلى قصيدة: "نعم.../ أخاف البراميل/ والخيام والمجازر/ أفاصل الباعة/ وأصطدم بالأسعار/ تؤرقني مشاكل/ الخبز والماء والكهرباء/ وملاحظات رب العمل/ وأستمع لنكبات صديقاتي العاطفية/ وأنام منهكة أشتهي قصيدة/ مستغربة من أسئلة أصدقائي/ لمن تكتبين هذه القصائد؟".

تذكرك بساطتها وإتقانها الفطري لفن المفاجأة بشعراء كبار كانوا سادة في هذا الفن الجميل مثل محمد الماغوط، أو شعراء أصبحوا كبارًا مثل رياض صالح الحسين، قبل أن يغطي عليه منطق العقل البشري الآلي المتوارث بطبقة سميكة من الصدأ، اقرأ مثلًا: "كان يمكن أن تكون الرصاصة عصفورًا/ القنبلة حمامة/ يدك لبلابة/ المدفعية طائرة ورق/ وفمك شبكة صيد". وتؤرخ للثورة المذبوحة بكلمات لا يمكن أن تسمعها إلا من ثائر مذبوح الروح: "تعال لأحدثك عن الحرية/ وأننا نُستغل من الإبرة/ وحتى أرواحنا/ تعال لأحدثك عن الثورة/ عن كل جمعة/ ما كان اسمها/ وما كانوا يرددون/ تعال لأحدثك عن أناملك/ عن القتلة الذين لا ناموس لهم/ الشعراء الذين تحبهم/ الأغاني التي تكرهها".

كم شاعرًا ممن يكتبون في زمننا يعيش بالفعل ما يكتب عنه؟

وتمزج بحرفية عالية الهم الخاص بالهم العام، وهم الحرب بهم الحب: "كطفل مات أبوه في الحرب/ وأخذ قناص روح أمه/ وظل وحيدًا في شارع المدينة/ يقف في منتصف الطريق/ يستغرب صوت زمور السيارات/ التي تقصده/ هكذا أنا مذ تركتني".

اقرأ/ي أيضًا: محمد أبو لبن.. صفعة الغريق على وجه الماء

كعاشقة ملوّعة يدعوها داعي الحياء إلى مغازلة غيابية، اقرأها وهي تذوب رقةً: "صباح الخير/ لكل الأشياء التي تحترف اسمك/ للحارات التي تقترف غيابك/ للذي وضع لايكاً على منشورك الأخير/ للشفاه الأخيرة التي نطقت أحبك/ لقلبي إذ ينطقك ولا يمل".

واقرأها وهي تقول كل ما تريد قوله دون تحفظ وبشكل أمين ومنسجم مع فولكلور المرأة الشرقية في البوح والثرثرة حول أشياء كثيرة لن تجد بينها رابطًا في الظاهر: "شارعنا بابونج/ جدران بيتنا تصفق/ ثرثرة صديقتي الهاتفية/ صار لها بهجة أخرى/ أمي التي تشكو قلة ابتسامتي/ سعيدة بها اليوم/ أبي الذي نتشاجر ملياً/ أحبه الآن عميقاً/ أخوتي العشرة/ لم أعد أشتكي من كثرتهم/ كل الأصابع تشير إليك".

ثم وهي أم منهكة وابنة شرقية مضطهدة ومواطنة دون وطن: "كالآخرين أستيقظ/ على صراخ أطفالي/ وأقف مكتوفة الأيدي/ أمام طلباتهم الكثيرة/ يصيبني الملل/ من غسل جواربهم وأحذيتهم/ وقص أظافرهم/ وإعداد وجبة غدائهم/ لي أب يظن صوتي عورة/ وأم لم تقرا قصيدة/ وأخوة يرفعون رايات رفضهم/ عندما أنشر صورتي في الفيسبوك/ في دفتر العائلة/ أنا الزوجة الأولى/ واسمي مكتوب بخط أعوج/ وليس في الفراغ المعتاد/ "متزوج من الأجنبية مريم تمر".

أتساءل هنا: كم شاعرًا يعيش بالفعل ما يكتب عنه، وكم فتاة وزوجة وأم كردية تمثلها وتنوب عنها "الأجنبيةُ مريم تمر" بقصائد شفافة كهذه؟

من جهة أخرى، يحدث أن تجازف مريم بفطريتها السلسة حين تستعير بعض الجمل الجاهزة من التراث أو غيره، كما يحدث أن تغويها اللغة حين تلقي على لسانها بكلمة أو بجملة فجة ونيئة تقفل بها قصيدة في غاية الجودة، وكما يحدث أحيانًا أن تثقل بكلمات فائضة مثل الشتم واللعنة والكارثة والعاهة والعاهرة كاهل قصيدة مرهفة لا تحتمل هذه الأثقال، الأمر الذي يخدش جناح الفراشة ويجعل قصائدها تتفاوت في جودتها ويجعل القصيدة الواحدة تتفاوت في جمال صورها.

لا تفتقد مريم عاطفة إنسانية جياشة كما لا تفتقد فن تحويل تلك العاطفة إلى كلمات بسيطة ومعبرة، ما تفتقده برأيي شيء واحد هو مراجعة عملها بعين القارئ المحايد، أعني أن تقرأ قصيدتها المنجزة في خلوة وكأنها تستمع إلى شاعر غريب يقرأ قصيدة تسمعها للمرة الأولى مانحة نفسها حقوق الحذف والإضافة.

للغة جرْسها وللكلمة حمولتها وحتى تنجح القصيدة ينبغي لهذا الجرس أن يسوغ في الأذن ولهذه الحمولة أن تبلغ الروح، لنعالج على سبيل المثال التطبيقي قولها: "صباح الخير/ لقلبك يفلح كعادته/ في إبعاد وجع الحرب عني/ إذ أمشي في شوارع قامشلو/ بروحك وجسدي/ روحك التي تسكنني قبل أن ألد/ صباح الخير".

الذي أرى – كقارئ – لو أنه صيغ مع هذه التغييرات الطفيفة ولكن المؤثرة لكان أفضل وأجود: "صباح الخير/ لقلبك يبعد وجع الحرب عني/ أمشي في شوارع قامشلو/ بجسدي وروحك/ روحك التي سكنتني قبل أن أولد/ صباح الخير".

 

اقرأ/ي أيضًا:

حسين الحاج.. الشعر كأشغال يدوية

عماد الدين موسى.. كجندي منشق وبفردة حذاء واحدة