21-أكتوبر-2016

تصوير: جيان حاج يوسف/سوريا

"أن تتعطر بقليل من البارود" (دار مخطوطات، 2016) ديوان للشاعر السوري عماد الدين موسى، ترسم حروفه لوحة مميزة للواقع الجديد الذي تعايش؛ أو على الأقل أقنع نفسه الإنسان السوري أنه يتعايش معه؛ وأقصد بذلك واقع الحرب الذي لم يألفه الإنسان السوري، ولا عرفه. من خلال تسعة قصائد اختار لها الشاعر تسميات فرادى تستطيع أن تتكأ مع الأخريات، لكن كما أراد لها الشاعر: أن تتعطر بقليل من البارود!! وندرك نحن المتابعين للأوضاع السورية لماذا عطر البارود تمامًا! 

تأتي قصائد "أن تتعطر بقليل من البارود" وقد هامت على وجهها من هول ما رأت وترى

لن تذهلك العناوين حتى لو كان عنوان إحدى القصائد "كجندي منشق للتو وبفردة حذاء واحدة"، فأنت تقرأ لشاعر عاش الحرب، بتفاصيلها وشخصياتها بدءًا من الجندي الذي حمل سلاحه حينًا في سوريا، ورماه فارًا من أهوال ما رأى، أو ما يسمى كمصطلح سوري خاص "منشقًا" مرة أخرى، لذلك تأتي القصائد وقد هامت على وجهها من هول ما رأت وترى:
"في الحقل شجرة تشتاق الزقزقات
وتتحسس بين أغصانها دفء الأجنحة،
وفي عيني حلمٌ مقصوص الجناح".

اقرأ/ي أيضًا: عالَمٌ بلا نِساء!

ولعل روح الشاعر أكثر الأرواح التقاطًا لفجيعة زمن الحرب، لذلك ستشعر مع موسى أنك عشت هذا الزمن عبر الصور الكئيبة حينًا، والرمادية حينًا آخر، فليس بعيدًا عن عنوان صادم للكاتب والقارئ معًا "الوقت ليس فجرًا"، سيكتب الشاعر وصفه الدامي لمدينته:
"المدينة التي تلفظ أبناءها
قبل أنفاسها".

بضخ عاطفي غزير، وشجن كبير تتموسق الحروف عبر صفحات الديوان الذي لم تتجاوز صفحاته السبعين، ويكثف الشاعر عرضه لصور الحرب في المدينة، بل وصورها في رؤوسنا، ورؤوس عصافيرها وأشجارها. لقد استطاع صاحب "حياتي زورق مثقوب" أن يخلق مناخًا خاصًا، دون أن يلتزم هذا بنمطية معينة من الصياغة، كما استطاع أن يبتكر عبر رموزه أدوات ساعدته في وصف ذلك الزمن الذي حدده لديوانه، مراعيًا تمامًا الجو العام الذي كتبت فيه القصائد، وهذه الأدوات التي ساندت الشاعر في إمكانية التعبير تبلورت في البارود، والرصاص، والقذائف، والمدينة، والرعب، والخذلان، والخوف، والخيبة، وكلها اجتمعت لتكوِّن نمطًا غير مألوف ولكنه واقعي، ومباشر لما كان ويكون في ظل الحرب.

"طيور العالم/ جميعها
لا تكفي واحدة
من رصاصاتك"
بهذه الكلمات يتوجه موسى بلغته الرمزية الخاصة للحديث مع أحدٍ ما، لكنه لن يرهقك بمتابعة الحوار لأن الحديث من طرفٍ واحد فقط، وهو ما بدا واضحًا في ديوانه، وكأن القصائد بوح رجل أو لنقل إنسان واحد، وما جال في خاطر هذا الإنسان، وما كابده أيضًا. فالبيئة التي اختارها ليست بيئة وردية؛ وبهدوء مدوٍ يلوّن كلماته بوصف فاجع للمكان والغرفة والروح، الروح المكسرة كما تبدو من هول المصائب التي رأتها أو ربما عانت منها:
"ليست القذيفة
التي
بقرب سريري، كمزهرية،
ولا الرصاص الطائش
كمفرقعات رأس السنة
تذكرينها من دون شك
-من أردتني-
بل مدية الحنين إليكِ".

صور الحب في زمن الحرب تتسلسل بنكهة جديدة ظاهرها الرصاص والبارود، وباطنها الحنين والشغف

اقرأ/ي أيضًا: بوزيد حرز الله.. يد عالقة في الصّلصال

صور الحب في زمن الحرب تتسلسل بنكهة جديدة ظاهرها الرصاص والقذائف والبارود، وباطنها الحنين والشوق والشغف، وببراعةٍ واضحة استطاع الكتاب أن يرصد مكنونات النفس العاشقة؛ لكن التي لا تزال ترزح تحت ضربات الرصاص، ومفاجآت القذائف غير السارة طبعًا، هي "قصائد حب متأخرة": 
"لا أستطيع السماء
ولا العشب،
ولم يعد بإمكاني 
المزيد من البحر".
بهذه الكلمات وصف الشاعر قصائده، معلنًا كفاية النفس مما رأت ومما مرّ عليها في ظل الحرب، وهو ما يدفعك للقول بأن تلك القصائد وتلك الدواوين التي قدمها شعراء معاصرون عايشوا الحرب لهي أشبه بوثيقة تاريخية. فإن كانت السجلات القانونية تسطر أسماء الشهداء والمعتقلين الذين غيبتهم الحرب، فإن روايات ودواوين الأدب التي نُظمت في زمن الحرب قد سجلت حال الروح التي هي أيضًا دمرت من داخلها، وودعت كل ملامحها السابقة، لتحيا زمنًا لم تتخيله ولا تقبلته، وهذا ما برز واضحًا في "أن تتعطر بقليل من البارود".

اقرأ/ي أيضًا:

رشا عمران وتشارلز سيميك: سوريا بعين واحدة

حلب.. من التتار إلى التتار الجدد