29-مارس-2017

هبة الأنصاري/ سوريا

يختار الشاعر عماد الدين موسى، محرّرُ ملفَ الشِّعر السُّوري في الشتات، الذي ضم نقودًا ونصوصًا، عنوانًا دالًا لمادته: "سيرياذا: الشّعر السُّوري في الشتات"، تيمنًا بـ"إلياذة" هوميروس عبر إقامة تماثلٍ بين "حدث طروادة" و"الحدث السوري"؛ ولا شكَّ أن الأخير بوصفه حدثًا انعطافيًا مريعًا في الشرق الأوسط، يستحق ملحمةً تفوق النشيد الهوميري؛ نظرًا لتكالب كل قوى الشر وتعاضدها المثير لخنق صرخة "السُّوري" صوب الحرية المرتجاة!! ومهما يكن من أمر؛ فإن هدف هذه القراءة هي التأمل في الرؤى النقدية حول شعر الشتات السوري؛ فكيف بدت هذه الرؤى للقارئ؟

يستحق "الحدث السوري"، بوصفه حدثًا انعطافيًا مريعًا في الشرق الأوسط، ملحمةً تفوق النشيد الهوميري

يجد الشَّاعر علي جازو صعوبة الخوض في خرائط الشِّعر السُّوري عقب الانتفاضة السورية؛ نظرًا لغياب واضح في أبحاثٍ أو مقارباتٍ أكاديميةٍ يمكن لها أن تخفّفَ من وعورة الطريق أمام القارئ إلى نصوص هذا "الخطاب الشعري"، لكنه يلحظ أنَّه في مقابل "التحولات العاصفة السورية" ثمة إحجامٌ للشِّعر في اجتراح "عاصفة شعر" دون إعطاء تفسيرات من شأنها أن تكشف أسباب العَطالة الشّعرية لدى الشُّعراء السوريين. 

اقرأ/ي أيضًا: رياض الصالح الحسين.. بعيدًا عن التصفيق والتهليل

لكن جازو ينقذ قراءته من ثنائية "الداخل/الخارج" في تقييم النُّصوص الشعرية ويرى في قصيدة "سوريا" لسليم بركات حدثًا استثنائيًا؛ ولكن من دون تقديم تأويلات لهذه "الاستثنائية" التي يتميز بها "قصيدُ" سليم بركات؟ ولا شك بأنَّ كاتب هذه الأسطر يتفق مع الشاعر علي جازو فيما يخصُّ نصوص محمد رشو بوصفها نصوصًا فريدة، وهي تنتظر القراءة النقدية الجادة. وبمقابل هذه الأمثلة ثمة القصيد الذي استبد به "مرض الحنين" للتعبير عن العزلة التي تفتك بالشعراء ولكن من دون تقديم أمثلة، أيضًا، تغني الرؤية النَّقدية؛ وفي النهاية ينظر جازو إلى "القصيدة" بوصفها "حدثًا فريدًا" له خصوصيته في الانبثاق، فهل هذا يعني أننا في انتظار انبثاق هذا الحدث؟ لا شك أن قراءة جازو جاءت مبتسرة ولم تغط تضاريس أخرى يمكن لها أن تكشف عن أسماء غير التي ذكرها.

من جانبه يطرح مازن أكثم سليمان ثنائية "القرب/البعد" لبلورة رؤيةٍ نقديةٍ لهذا الشعر، وهي ترجمة أخرى لثنائية "الداخل/الخارج" التي زحزحها علي جازو من فضاء قراءته، ومع اعتراف الناقد بصعوبة رسوخ هذه الثنائية إزاء الوجود الشعري المنفلت والفائض والمتجاوز للمعادلات الرياضية؛ فإنه يقع رهين هذه الثنائية -حتى مع تأكيده على خطورتها في تناول الشِّعر السُّوري- يكتب: "فإذا كانَ وجود شعراء الدّاخِل حتّى هذه اللحظة في قلب المَعمعة الهائِلة، يعطي قصائدَهُم مصداقيّة تتَّصِل بحساسيّات الخطر والمُعايَشة والصِّراع المُباشَر مع أبسَط مُتطلَّبات البقاء على قيد الحياة في المَناطِق المُشتعِلة، أو على الأقلّ تتَّصِلُ بضرورات الصُّمود المَعيشي والاستمرار الحياتي في أقرب دلالاتِهِ في جميع المَناطِق السورية، فإنَّ شعراء الشتات يمتلكونَ سلاحًا آخَرَ لا يقلُّ أهمِّيَّةً عن أسلحة أو أوراق قوّة شعراء الدّاخِل، وهوَ سلاحٌ يُضفِي على قصائدِهِم مصداقيّةً نوعيّة من ناحية أُولى، ويُحمِّلُهُم مسؤوليّة أخلاقيّة وإنسانيّة مُضاعَفة من ناحية ثانية، وأقصدُ بذلكَ واجبَهُم ودورَهُم المنوط بهم وبشعرهم تحديدًا في إيصال الصوت السوري ومُعاناتِهِ ومَظالِمِهِ إلى العالَم، وهي قضيّة تُعيدُ تعيين الوظيفة الشعريّة لديهِم بما يتجاوَزُ حُدودَ الانهِمام بالمُستوى الفنِّي -على أهمِّيَّتِهِ بوصفِهِ شرطًا مُلزِمًا أوَّلًا وأخيرًا- إلى حُدودِ الرِّسالة الإبداعيّة التي تُنتِجُ تلقائيًّا تعريفًا عريضًا لمَفهوم الالتزام الفنِّيّ لدى شعراء يَعيشونَ في هذه الحقبة الخصبة والمريرة في آنٍ معًا". 

يطرح الناقد مازن أكثم سليمان ثنائية "القرب/البعد" لبلورة رؤيةٍ نقديةٍ للشعر السوري الراهن

هنا؛ يلفي القارئ نفسه مع رسوخ ثنائية "القرب/البعد" في تناول الموضوع؛ فالقرب من الحدث يمنح "المصداقية" لقصائد شعراء الداخل نظرًا لحساسيات الخطر والصراع المباشر مع متطلبات البقاء على قيد الحياة، كما أن ثمة "مصداقية نوعية" يضفيها "الشتات" على نصوص شعراء الخارج وتتمثل بالواجب المنوط بهم وبشعرهم في إيصال "الصوت السوري ومعاناته... إلى العالم"، هكذا وتبعًا لقراءة الناقد؛ فالقرب يمنح المصداقية للقصيدة والبعد يمنحها "عدم المصداقية"، لكنَّ إبلاغ معاناة السوريين يمكن أن تؤديها وسائط التواصل الاجتماعية ونشرات الأخبار بطرائق أفضل بكثير مما يمكن للشِّعر أن يقوم به. ومن ثمَّ تتبَّدى هذه الثنائية عن عطالةٍ في مقاربة الوجود الشعري وبعيدة عن روح "القصيدة" بوصفها "حدثًا فريدًا"، وهي ثنائية لا تخدم القراءة النقدية بقدر ما ترسخ أوهام "القرب والبعد" من الحدث. أعتقد أن الناقد يعيدنا ثانية إلى مفهوم "الالتزام" الذي ولّى زمنه من حيث بنائه على رطانة من الواجبات والقيود التي على الشَّاعر أن يلتزم بها، وهذا ما يحوّل "الشِّعر" إلى خطاب اجتماعي له وظائف مختلفة تمامًا عن الخِطاب الشِّعري، بوصفه "حدثًا"، "اختراقًا"، مسكنًا لكينونةٍ أصيلة. إنَّ الاتكاء على الثنائيات لا بدَّ أن يقودَ إلى تفضيل أحد طرفي الثنائية؛ وهذا يمضي بالنَّاقد إلى تمثُّل دور "الواعظ" وتحميل "الشاعر بالواجبات والتقييدات وهذا ما تنفر منه "الكتابة الشعرية". ولا بدّ من الإشارة إلى أنَّ د. مازن من أوائل النقاد السوريين الذين لم يتوانوا عن مقاربة "الشعر السوري" بعد صرخة الحرية في وجه الطاغية. 

اقرأ/ي أيضًا: محمد أبو لبن.. صفعة الغريق على وجه الماء

وبالمضي إلى آراء يسرى السعيد، "دور القصيدة في الكارثة"، نجد هذه الآراء تسكن قراءة تطبيقية مرهقة برؤى تقليدية تحت ضغوط معجم نقدي مستهلك، وكتابة لا يمكن إدراجها في حقل النقد المعاصر: "أن يصفوا ببلاغة أقلامهم... وما يثلج الصدر.. وما يؤلم... إلخ". أما لواء يازجي فتميز بين الدور الاجتماعي للشاعر في الحياة، وبين كونه شاعرًا، كونه مصدرًا للكلمة الشِّعرية: "ليس للشعر دور أخلاقي، لكنْ للشاعر دور. ليس على الشعر حرج أن يصمت، أن يصاب بالفصام أو أن ينأى بنفسه فيتأمل. إذ إن لتحميل الشِّعر مهمات سياسية واجتماعية وتاريخية تبعات لا يحمد عقباها "شعريًا"، هذا التمييز ضروري بين الدورين؛ فغالبًا ما تنوء الكلمة الشعرية تحت المهمات السياسية والاجتماعية فتبدو ميتة، لا روح فيها، وتغدو مسكنًا لكينونةٍ مزيفة. وليس أمام الكلمة الشعرية إلا أن تكون ذلك الشقَّ الذي يتيح للوجود أن يتمرأى: "ماذا يمكن للكلمة أن تفعل؟ أن تتحرر وأن تُخلص لما يجري داخل مائها الحيوي؛ الداخل كانعكاس للخارج، الخارج كانعكاس للداخل". 

وفي قراءة هادئة وجميلة، وبعنوان بليغ، "كنت بعيدًا، ولكني رأيت" حيث التنادي مع المطلع الأثير لملحمة جلجامش، يسجل الشاعر عيسى الشيخ حسن آراء تعكس صراعًا بين الشَّاعر والمعلم في ذاته، بين الشاعر المندفع نحو مشهد أسطوري منبعث من حلم ببلادٍ جديدة تكون بمنزلة الفضاء الذي سيسمح بانبثاق القصيدة الجديدة، و"المعلم" المقيَّد باليومي والمستقبل والأطفال. ومع هذا البعد كان الشاعر يرى، ويرى القصيدة من تلقاء ذاتها تقف مع الناس، وتخرج من عزلتها إلى البسيط واليومي، ولكن وفي الوقت نفسه إلى "الشعري"، أي تحافظ على شرطها الأول والأخير على "وظيفتها الجمالية" في أن تكون خطابًا مفارقًا، لكن الشَّاعر عيسى الشيخ حسن ينظر إلى زمن آخر، حيث تتوقف الحرب لتنبثق القصيدة الملحمية لتكون مأوى للغرقى والشهداء.

أصبح الشعر أكثر ضرورة، لأنه الأكثر قدرةً على إعادة الاعتبار للفكر النقدي

اقرأ/ي أيضًا: طبقات شعراء البعث

وبدوره يطرح الشاعر محمد أبو لبن حزمةً من التساؤلات عن دور الشِّعر والشَّاعر في سياق انتفاضة هائلة كالتي جرت وتجري في سوريا، حيث كشفت عن لحظة تراجيدية مرعبة عندما جرى اقتلاع حنجرة المغني إبراهيم القاشوش، يكتب: "ما جعل هذا المشهد ثابتًا في ذاكرتي هو اقتلاع قتلة القاشوش حنجرته. في تلك اللحظة رأيت كيف يفتك العنف بالمجاز بتحقيقه على أرض الواقع: اقتلاع حنجرة المغني! هل هناك مصيرٌ أكثر تراجيدية من هذا لمغنٍّ؟!"، لا شكَّ أن المشهد كان تراجيديًا، ولكنه في الوقت نفسه؛ فإن "الكلمة الشعرية، الكلمة المغناة" قد أرعبت هؤلاء المجرمين الذين سارعوا إلى اغتيال المغني-الشاعر ليحدّوا من هدير "الكلمة"! ويرى أبو لبن أن الشعر أصبح أكثر ضرورة؛ لأنه الأكثر قدرةً على استرجاع القوى، وإعادة الاعتبار للفكر النقدي، ومن هنا لا يرى أنَّ: "البحث عن قصيدة جديدة أو السؤال عن قيمة الشعر ضربًا من الرومانسية أو خوضًا في جملٍ نمطية. إنه الشيء الوحيد الذي يتقنه الشعراء حقًا، طريقتهم في الدفاع عن علّة وجودهم ولحظة السلام التي يؤمنون بها أمام العبث الذي يولّده كل هذا العنف"، وهذا هو الاختلاف بين أن يكون "الشعري" فعلًا طارئًا وأن يكون موقفًا وجوديًا وعلامة دالة على الحرية بأبعد ما فيها من دلالة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

منذر مصري وشركاه.. هكذا احتال الشعر علينا!

عماد الدين موسى.. كجندي منشق وبفردة حذاء واحدة