08-مارس-2024
ما أقدم 5 حضارات في العالم؟

أقدم 5 حضارات في العالم

 

إن القراءة في أصل الحضارات وعتاقتها كمثل السفر عبر آلة الزمن، لطالما تخيلت أن الأمر أشبه بالتنقيب عن لؤلؤة خفية في محارة ما إن تجدها وتبدأ بفتح بابها لتسترق منها النور تبهرك بمقدار جمالها، وكلما فتح الباب أكثر زاد شوقك لرؤيتها متجسدة أمامك بكامل حسنها أكثر، حتى ولو خيبك سطوعها قليلًا لن تفقد رغبتك في كشف الستر عنها، فكل مخفي جميل، كل مخفي له سطوة حتى يتجلى أمامك بكل حقيقته، حتى وإن أخفت المحارة حفنة صغيرة من الرمال لن تتوانى عن الرغبة في استخراجها منها.

في هذا المقال سنحاول صيد المحارة واستخراج لؤلؤتها في حديث عن 5 حضارات طوى الزمن صفحتها وأبقت عليها أقلام المؤرخين لتنفض عنها الأجيال اللاحقة غبار الأيام.

 

أقدم 5 حضارات في العالم

فيما يأتي رحلة في تاريخ وجغرافيا أقدم 5 حضارات في التاريخ، وهي:

  1. الحضارة الفرعونية
  2. الحضارة السومرية
  3. حضارة وادي السند
  4. حضارة الأنباط
  5. الحضارة الصينية

وفيما يأتي تفصيل الحديث عنها

 

  • في سراديب الأهرامات..خبايا حضارة عتيقة

في الألفية 4 قبل الميلاد وعلى ضفاف نهر النيل العظيم من قلب مصر "أم الدنيا" سطعت شمس حضارة اعتُبرت على مر التاريخ أحد أكبر وأهم الحضارات القديمة والتي خلدت آثارها لتكون شاهدة على عظمة تطور وإبداع أصحابها بشكل يصعب على العقل البشري فهم كنه سره وحل لغزه المعقد "حضارة فراعنة مصر القدماء".

ولما نقول نهر النيل فإننا نعني بلا شك خصوبة الأرض ونبض الحياة وهمزة الوصل مع الشعوب المحيطة التي جعلت من الحضارة الفرعونية مركزًا حيويًا اجتماعيًا مميزًا يجمع العديد من طوائف الناس والثقافات والقامات العلمية.

اشتهر الفراعنة بالزراعة بفضل فيضان نهر النيل وخصوبة الدلتا حيث كانت من أهم موارد الدولة الاقتصادية، وكانت أكثر المحاصيل إنتاجية في مصر بذلك الوقت محاصيل القمح.

أما بالنسبة للفن فقد شغلت العمارة حيزًا كبيرًا في تشكيل الحضارة الفرعونية، ولعل أبرز ما يشار إليه كشاهد معماري عليها هي الأهرامات. وقد بنيت الأهرامات الواقعة في مدينة الجيزة في مصر بمزيج من الحجر الجيري وحجر الجرانيت الذي تم جلبه من مدينة أسوان. 

تستقطب ظاهرة تعامد الشمس على وجه الملك رمسيس عددًا لا يحصى من السياح في كل عام نظرًا لندرة حدوثها وغرابتها

تحتوي الأهرامات بداخلها على غرف وسراديب تخص مومياوات ملوك الفراعنة، كما تظهر فيها عظمة البناء والفن حيث تحوي جدرانها على كم لا يحصى من الرموز الهيروغليفية الفرعونية والرسومات التي تعكس نظام حياتهم في ذلك الوقت.

إن ما يثير الدهشة أكثر من غيره في التطور المعماري الفرعوني والذي جعل من حضارتهم لغزًا محيرًا للعلماء حتى يومنا الحاضر هو القدرة على ملاحظة الظواهر الطبيعية واعتمادها في اختيار أماكن البنيان وكيفيته، فكيف كان هذا؟

تعامد الشمس على وجه الملك رمسيس

في أيام 22 شباط و 22 تشرين الأول من كل عام وفي الساعة 6:52 صباحًا تتعامد الشمس على وجه الملك رمسيس في معبد أبوسمبل غرب مدينة أسوان وتستمر لمدة 20 دقيقة فقط، وهي أيام تصادف احتفال قدماء الفراعنة بفيضان النيل والاحتفال بموسم الحصاد حيث تخترق أشعة الشمس في هذين اليومين الممر الأمامي لمدخل معبد رمسيس الثاني بطول 60 مترًا، حتى تصل إلى قدس الأقداس، كل هذا  يدل على التطور العلمي في الفلك والهندسة الذي برع فيه الفراعنة بالإضافة للإبداع الفني الذي يحويه المعبد من قدرات فذة في النحت والعمارة. وتستقطب هذه الظاهرة وحدها عددًا لا يحصى من السياح في كل عام نظرًا لندرة حدوثها وغرابتها كذلك.

خلود الجسد..لكل حاجة اختراع 

نفر الإنسان من الموت منذ أزمان سحيقة وكم سعى  للخلود دون جدوى بطبيعة الحال، ولما لم يجد من الموت بدًا سعى للحفاظ على جسده بهيئته السليمة، شغل هذا الأمر العديد من الحضارات على مر الأزمنة إلا أن حضارة واحدة من بينها استطاعت تحصيل ما أُشكل على البقية وهي الحضارة الفرعونية بكل تأكيد، كان ذلك من خلال المادة المستخدمة في التحنيط، والتي ما يزال سرها عصيًا على الفهم حتى يومنا الحاضر. 

إن ما يميز الحضارة الفرعونية عن غيرها هي الشواهد الحية التي ما زالت خالدة حتى الآن، ولا أقصد هنا المعمار فقط وإنما هذه القدرة على تسخير علوم الطبيعة والظواهر الكونية لخدمة رغبتهم في الخلود، لتكون شاهدًا ناطقًا بلسان أصحابه كحال رمسيس الذي يتململ في نومته مرتين في كل عام لما تداعب الشمس وجهه.

  •  بين دجلة والفرات..لحن يعزف بناي سومري

من أرض بلاد الرافدين العظيمة في الألفية الـ 5 قبل الميلاد قامت الحضارة السومرية على دلتا دجلة والفرات، شريان الحياة ونبضها، وتصنف على أنها أقدم الحضارات الإنسانية التي تم اكتشافها من خلال النقوش المسمارية التي دونت في بعض الآثار التي تشير إليها والتي تعتبر أقدم سجل لغوي على الإطلاق.

وقد امتازت الحضارة السومرية بالتفوق الزراعي والفن المعماري الفذ، بالإضافة إلى البراعة غير المسبوقة في صناعة الأواني الفخارية وعصير الخمور كذلك. أما على الصعيد العلمي فتعتبر الحضارة السومرية متقدمة في علم التشريح بدليل العثور على بعض الأدوات المستخدمة لتلك الغاية في المواقع الأثرية التابعة لها، كما أنهم برعوا في استخلاص العلاجات من الأعشاب كذلك.

وعلى مر العصور كانت بلاد الرافدين (العراق حاليًا) منشأ حضارات عديدة متتالية منذ ألفيات ما قبل الميلاد وصولًا للدولة العباسية التي سطعت شمس حضارتها في كل حدب وصوب.

  •  من قلب العصر البرونزي..ذهب حضارة يلمع

حضارة وادي السند أو"هارابا"، يعود تاريخ نشأتها للعصر البرونزي، وهي حضارة نشأت في حوض نهر السند الذي يجري ماؤه بامتداد باكستان، وعلى طول شبكة من الأنهار المعمرة.

وتعرف حضارة وادي السند بأنها واحدة من أقدم ثلاث حضارات إلى جانب الفرعونية والسومرية، وقد كانت حضارة عريقة اشتهرت بالزراعة نظرًا لوقوعها في منطقة خصبة، إضافة إلى الفن المعماري المميز والمزين بالحجر الآجري الذي اشتهرت به، هذا بالإضافة إلى نظم الصرف الصحي المتطور وتمديد شبكات المياه بشكل فني ومبتكر.

لم تكتشف حضارة وادي السند حتى القرن التاسع عشر، حيث وجدت بعض الآثار المطمورة والتي تم التنبه إليها من قبل بعض العمال أثناء عملهم في تمديد سكة الحديد الواصلة بين مدينتي لاهور وكراتشي في باكستان الحالية على طول وادي نهر السند.

تم بعد ذلك التنقيب في الأرض المذكورة ليتم اكتشاف المئات من الآثار التي تشير إلى وجود حضارة مزدهرة كانت في يوم من الأيام مفعمة بالحياة قبل أن تغيّبها سنن زوال الأمم.

روغم أن حضارة الأنباط غير مغرقة في القدم (تعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد)، فقد تميزت بفن ورقي ورسوخ في ذاكرة التاريخ

  • وردية الوجنتين..بعيون بدوية كحيلة

مهد الأنباط "البتراء الوردية"، وعلى أن الطابع الذي عرف من الدراسات التاريخية التي أجريت على الحضارة النبطية في عاصمتها البتراء هو الطابع البدوي (نظرًا لعدم العثور على أي أوان أو أدوات تشير إلى ترفيات حياة المدينة) إلا أن الأنباط تميزوا بالعديد من الفنون والأعمال التي خلدت ذكرهم حتى الآن، ولعل حفر عاصمتهم في الصخر بهذه البراعة أشد دليل على نبوغهم الفذ في فن العمارة، أضف إلى ذلك التطور الكبير الذي شهدته قنوات الصرف الصحي وقنوات المياه المحفورة في الأرض، كما عمل العرب الأنباط في التجارة وقد دعمهم موقع البتراء الاستراتيجي على خط التجارة آنذاك.

وأن أكثر ما يرفع من شأن الحضارة النبطية اهتمامها بالمرأة ومعاملتها كفرد مستقل على خلاف ما ساد في ذلك العصر من ازدراء وتهميش لدورها، فقد تمتعت المرأة في عهد الأنباط بالقوة والرأي والإنصاف القانوني.

وروغم أن حضارة الأنباط غير مغرقة في القدم (تعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد)، فقد تميزت بفن ورقي ورسوخ في ذاكرة التاريخ يجعل منها واحدة من أهم الحضارات القديمة الجديرة بالدراسة والفهم.

تميزت الحضارة الصينية بفرادة مبانيها وزخرفتها الغريبة، مثالها تشييد واحد من أعتى الحصون في العالم وهو سور الصين العظيم

  • في كنف سورها حكمة..وشاي يختمر

حضارة الصين العظيمة، كـ "سورها"، واحدة من أقدم حضارات العالم ولها يرجع فضل اكتشاف الشاي قبل 5000 عام، وحتى يومنا الحالي يعتبر الشاي في الصين من أكثر الزراعات المشهورة فيها، ومزارعه تشكل للناظر لها حيزًا جماليًا لا يضاهيه وصف.

عرفت الحضارة الصينية بالحكمة منذ الأزل، ربما يعود ذلك لاتصال أهلها بالطبيعة واللجوء إليها للحصول على أكبر قدر من الاسترخاء الذي يمكنهم من مواصلة ضنك العيش والتعب، ففي الطبيعة جلاء للبصر والبصيرة، وفي الوحدة مع النفس فرصة للتفكر الصافي.

كما اشتهرت الحضارة الصينية بنبوغها في طب الأعشاب خاصة، ولها العديد من الوصفات التي ما تزال تستخدم للآن على نطاق واسع من العالم، كما تميزت الحضارة الصينية كذلك بمهاراتها القتالية الفذة التي تستلهم قوتها من العقل قبل الجسد، كما برع أصحاب الحضارة الصينية في الأدب والشعر وفنون الرقص وتصميم الأزياء.

أما على صعيد الفن والعمارة فقد تميزت الحضارة الصينية بفرادة مبانيها وزخرفتها الغريبة، وقد استخدمت هذه القدرة المعمارية والحرفية البنائية في تشييد واحد من أعتى الحصون الحربية في العالم وهو سور الصين العظيم، الذي بني بمجهود الشعب الصيني وتعبه بل ودمائه كذلك، ويعتبر شاهدًا حيًا وإرثًا مرموقًا يشار إليه بالبنان في أيامنا الحاضرة كأحد عجائب الدنيا السبعة.

أما تأثيرها في العلوم الإنسانية فإن الحضارة الصينية تعتبر أساس أكثر التقاليد الفلسفية الأكثر تأثيرًا في العالم و هي:

  1. الكونفوشيوسية
  2. الطاوية 
  3. القانونية

أما في مجال الصناعة فإن الصين القديمة تعتبر الأساس الأول لصناعة الورق واختراع الطباعة مما ساهم في خلق ثورة علمية وتقنية كبيرة لاحقًا لها ولدول الجوار من حولها.

 

إن كل ما يمكن أن يقال عن حضارات العالم القديمة هو بمثابة إعادة إحياء لأزمنة طواها النسيان بشخوصها ونجاحاتها وخيباتها كذلك، ولا ندري لعلها تحاكي واقعنا الآن، لعلنا إن تمعنا فيها كنا أكثر حذرًا وأشد تيقظًا لما يدور حولنا، قد يقول قائل: في النهاية ما هو إلا تاريخ، أقول: وهل وجودنا على حالنا اليوم إلا بسبب هذا التاريخ؟