23-فبراير-2020

الروائي أمين معلوف

يُحاول أمين معلوف ألّا يبدو في كتابه "غرق الحضارات" (دار الفارابي 2019، ترجمة نهلة بيضون)، مستشرفًا، ولكنّه لا يتوانى في تأكيد فكرته بأنّه ليس من الصعوبة إدراك أنّ ما نحن مقبلون عليه هو غرق وشيك للحضارات، شرقية كانت أو غربية. تؤرّق هذه الفكرة، كما يتّضح من فصول الكتاب، الكاتب اللبنانيّ الفرنسي الذي يبني استشرافه للمستقبل بناءً على قراءته السريعة للماضي، متعاملًا مع الأحداث الفارقة كدرجات من الغرق: صعود جمال عبد الناصر، هزيمة 1967، الثورة الإيرانية وبداية حقبة ربط القوميات بالديانات، ثورة مارغريت تاتشر الاقتصادية المحافظة، وصولًا إلى الراهن العربيّ المشتعل.

يُصرّ مؤلّف "صخرة طانيوس" على التعامل مع تلك الأحداث كدرجات من الغرق لأسباب عديدة، أهمّها التذكير بعامل الوقت الذي قد لا يسعف العالم لإنقاذ كلّ ما يُمكن إنقاذه. ولا يعوّل معلوف هنا على فكرة بناء سفينة استعدادًا للغرق المحتمل، ولكنّه يشدِّد على ضرورة الخفض، مجازيًا، من ارتفاع منسوب الماء تفاديًا للكارثة، أي من الكراهية والتعصّب وصعود اليمين المتطرّف في الدول الأوروبّية باعتباره مسؤولًا مباشرًا عن حالة الفوضى التي تُهدِّد مصدر الأمل الأكبر للبشرية وفقًا لمعلوف.

يبني أمين معلوف استشرافه للمستقبل بناءً على قراءته السريعة للماضي، متعاملًا مع الأحداث الفارقة كدرجات من الغرق

ربط الاضطّرابات الأوروبّية بصعود اليمين المتطرّف والمُحافظ يندرج ضمن انشغال المؤلّف بفكرة المركزية الأوروبية التي أولاها في كتابه هذا مُجمل اهتماماته باعتبارها مصدرًا للحلول، حيث يرى أنّ عودة أوروبّا إلى تولّي مسؤولياتها ولعب دور القيادة من جديد، بعد أن انصرفت عنه خلال السنوات الأخيرة، حلًّا من بين حلول عديدة مرتبطة بالمركزية الأوروبية التي يراها دون هذا الدور توغلُ في التيه وتسلك طريقًا عكسيًا يتناقض مع مساراتها السابقة ومكانتها كمركز للتجارب والمعارف الإنسانية، وبوصلة أخلاقية للمجتمعات البشرية.

اقرأ/ي أيضًا: "حوارات لقرن جديد".. الروايات وأسرارها

والحال أنّ معلوف من خلال اهتمامه بالمركزية الغربية وتعامله معها كمصدر للحلول، يُراهن على فكرة أنّ بقاء أوروبا أو صحوتها التي يراها قريبة بهدف إعادة إنعاش روح الاتّحاد فيها بعد أزمة خروج بريطانيا وتصاعد الأصوات اليمينية الانفصالية في عدد من الدول الأوروبية؛ هو العائق الوحيد والأخير في وجه الغرق المُحتمل، الأمر الذي يدفع القارئ بالضرورة للسؤال حول كلّ هذه الدرجات من الغرق عربيًا، ماذا بشأنها؟ ولماذا لم تتمكّن أوروبّا من صدّها؟

يتعامل أمين معلوف مع المجتمعات العربية وفقًا للنظرة المركزية الغربية، وإن كان يُبدي تعاطفًا أكثر من غيره معها بفعل الروابط التي تجمعها به. ولا نختلف كذلك الأسباب التي حددّها وحمّلها مسؤولية المأساة العربية عمّا طرح غير مرّة عربيًا وغربيًا، بمعنى أنّه لا يقدّم جديدًا يُذكر في معالجته للحالة العربية، فهو يدعو من جهة إلى إنهاء حالة الارتهان للماضي والاعتراف بالحاضر وضرورة التحديث كخطوّة أولية من خطوات الانخراط الفعلي في حضارة تلعب دور المنقذ بالضرورة، ومركزها الغرب.

وبدون هذه الحضارة تحديدًا، تبدو المجتمعات العربية، وفقًا لمعلوف، مجتمعات ضلّت الطريق، أو اختارت عمدًا الطريق المعاكس منذ رفضها دعوات الإصلاح والتحديث منتصف القرن التاسع عشر، ومن ثمّ رفضها سلك المسارات الأوروبّية التي أوصلت الغرب إلى حضارة فعلية ابتعدت عنها المجتمعات العربية مرّة أخرى بعد الاستقلال.

يُجري صاحب "الهويات القاتلة" نوعًا من المقارنة السريعة بين الحقبات الاستعمارية والحقبات الاستبدادية التي دخلتها المنطقة العربية بعد الاستقلال بشكلٍ يجعله ميّالًا إلى تفضيل الأولى عن الثانية.

يتعامل أمين معلوف مع المجتمعات العربية وفقًا للنظرة المركزية الغربية، وإن كان يُبدي تعاطفًا أكثر من غيره معها بفعل الروابط التي تجمعها به

يرى معلوف أنّ أبرز عناوين هذه الحقبة هو الرئيس المصريّ جمال عبد الناصر الذي حمّله مسؤولية تدمير الاقتصاد المصريّ والعربيّ وتهجير عدد كبير من عائلات الطبقة الوسطى. بالإضافة لتحميله مسؤولية تفكّك وانهيار الحركات القومية العربية واليسارية والشيوعية وغيرها، باعتبار أنّ عبد الناصر، بعدم بلورته بديلًا يخلفه، خلّف غيابًا ساهم في صعود الأحزاب الإسلامية والإسلام السياسيّ.

اقرأ/ي أيضًا: عوالم الكتابة عند ليلى سليماني

ما يقوله أمين معلوف في كتابه، وببساطة شديدة، أنّ مصير الحضارات البشرية متوقّف على مصير الحضارة الأوروبّية التي لكي تتجنّب الغرق المُحتمل، لا بدّ أن تُعيد تفعيل اتّحادها وتتصدّى لليمين المتطرّف، وتعود إلى لعب دور القيادة الذي يراه مسؤوليتها وحدها باعتبارها النموذج الحضاري الأرقى. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، وبربطه نجاة الحضارات الأخرى بنجاة أوروبّا، يدعو معلوف إلى سلك المسارات الأوروبّية باعتبارها سبيل النجاة الوحيد، لا سيما عربيًا. وهو بذلك ينصرف عن تقديم حلول دقيقة تُراعي السياقات والخصوصية العربية، ويختزل الأمر بالدعوة إلى استنساخ تجارب الفردوس الأوروبّي، وفقًا لما يراه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أوبير حداد.. ماذا لو عشنا في جسد غريب؟

رواية "خليل" لياسمينة خضرا.. الأجوبة الغائبة