26-أبريل-2024
من أشهر العشاق في التاريخ

في تاريخنا العربي أسماء عديدة لعشاق بذلوا في سبيل عشقهم الغالي والنفيس

في إحدى محاضرات الأدب الجاهلي في الجامعة وأثناء شرح معلقة عنترة بن شداد أخبرنا أستاذنا أن له رأيًا فيما كُتب من غزل عن عبلة حبيبة الشاعر، كان له رأي غريب يتبناه عنها، فقد كان يقول "من المستحيل أن يُكتب هذا الشعر في امرأة" وكان يرجّح أن شعر الغزل في غالبه كتب مرمزًا بأسماء النساء فقط وإنما كان القصد منه الحديث عن الوطن أو عن الحرية المشتهاة في حالة عنترة، على أنني لا أرى في رأيه خلافًا عن قصد الشاعر لو قصَد في شعره محبوبته، أوليست المرأة هي الوطن؟!

عنترة الذي مورست عليه العبودية لأسباب لا يد له بها، كان حامي حمى قومه وفارس خيلها

أشهر العشاق في تاريخ التراث العربي

في تاريخنا العربي أسماء عديدة لعشاق بذلوا في سبيل عشقهم الغالي والنفيس، على أن اللافت في الأمر هو حيلولة الظروف دون لقائهما ومن هذه القصص:

  • عنترة وعبلة

أبو الفوارس، عنترة بن شداد العبسي، وهو أحد أبرز أسماء الشعراء العرب، من أصحاب المعلقات، وعبلة ابنة عمه الحبيبة العصية على النوال التي تعلق بها قلبه، وقد نظم فيها العديد من الأشعار الخالدة ومنها قوله في مطلع معلقته:

هل غادر الشعراء من متردم      أم هل عرفت الدار بعد توهم

يا دار عبلة بالجواء تكلمي         وعِمي صباحًا دار عبلة واسلمي

وقد تميز شعر عنترة بحبيبته عبلة بالعفة الخالصة إذ يندرج تحت مسمى الغزل العذري على أن عبلة بقيت على الرغم من هذا العشق الجارف هدفًا بعيد المرمى مع أنها ابنة عمه، فما هي القصة يا ترى؟

ولد عنترة لأب عربي اسمه شداد العبسي، وأم حبشية وقد كانت سبية عند القوم لما أنجبت عنترة منه، واتباعًا للعرف الذي لا يستمرئ الاعتراف بالابن العبد فلم يتصل نسب عنترة بشداد إلا بعد الحادثة الشهيرة التي أغارت فيها قبيلة طَيْء على بني عبس قوم عنترة، ونظرًا لما كان لعنترة من صفات عفية في بدنه نابعة من فروسية متأصلة؛ حيث كان فارسًا وخيالًا بارعًا باستخدام السلاح، إضافة إلى استماتة القلب والشجاعة. فقال له أبوه: "كرّ يا عنترة" أي تقدم إلى النزال، فقال عنترة: "العبد لا يحسن الكر، إنّما يحسن الْحِلاب والصّر" فقال: "كرَّ وأنت حر". فَكرَّ، وقاتل يومئذ قتالًا حسنًا فادَّعاه أبوه بعد ذلك وألحقه بنسبه، يقول عنترة في ذلك:

ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها      قيل الفوارس ويك عنتَرَ أقدم

إلا أن هذا الإقدام لم يشفع لعنترة عند عمه ليجمع صلته بمحبوبته عبلة، بل أغلظ عليه بالمطالب حتى كادت أن تبدو مستحيلة، وفي الأقوال المأثورة عن العرب أن عنترة خاض العديد من المخاطر والأهوال ليرضي عمه ويظفر بحبه، وقد أشارت بعض المصادر إلى بلوغ عنترة مطلبه نظرًا لبطلان حجة عمه بعد نسبته لأبيه، حيث إنه لم يتبق من الأسباب ما يعيق الوصال، ولكن المصادر الأكثر انتشارًا تقول إن عم عنترة لم يزوجها إياه نظرًا لعادات العرب بعدم تزويج الفتاة بمن شَبّب بها أي "تغزل بها" بل عرض مهرها على فرسان العرب رأس عنترة، ثم زوجها لأحد أشراف قومها.

تقودنا قصة عنترة مع عبلة وعمه مالك إلى الغوص في أعماق النفس البشرية الغريبة والمريبة في آن، فكل صفات الفروسية والرجولة المتمثلة بعنترة والتي شهد له فيها العرب لم تغفر له سواد لونه وأصول أمه الحبشية - على اعتبار أنها مَثْلَبة-، في حين أن عمه نفسه كان من القوم الذين استظلوا بسيف عنترة لما حمِيّ وطيس المعركة واشتد الخطب.

وعنترة الذي مورست عليه العبودية لأسباب لا يد له بها، كان حامي حمى قومه وفارس خيلها، ذلك أن المروءة صفة أصيلة في النفس حتى لو تعرض صاحبها للظلم، إلا أنها تتجلى في أحلك الظروف شروقًا نيرًا في ذلك الوجه الأسمر المصبوغ بظلمة الليل.

تشير بعض الروايات إلى أن ليلى كانت ابنة عم قيس ولكنها حُجبت عنه بعد أن كانا مقربين بعد أن كبرت

  • قيس وليلى

وهو قيس بن الملوح المعروف بـ قيس ليلى أو مجنون ليلى، وتشير المصادر إلى أن ليلى ابنة قبيلته ورفيقة صباه، وهذا ما يشير إليه قيس بن الملوح في شعره:

تعلَقت ليلى وهي ذات تمائم        ولم يبد للأتراب من ثديها حجم

صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا   إلى اليوم لم نكبر، ولم تكبر البهم

وبالإضافة للإشارة الواضحة لأنهما كانا رفيقي صبا إلا أن البيت الثاني يشير إلى شرارة قصة حب لم تكتمل، فهذا التمني الذي يطال الشاعر للبقاء صغيرًا يدل على حسرة عاناها بعد أن كبر في قصته مع حبيبته، فأين تكمن الحسرة؟

كما ذكرت آنفًا أحب قيس ليلى وهي ابنة قبيلته ورفيقة صباه، إلا أن عداوة بين أهلها وأهله حالت دون الوصال بين القلبين، فافترقا وبقي القلب على وفائه، حتى بلغ قيسًا خبرُ زواج ليلى من غيره، فـ هام على وجهه في الصحراء ينشد الشعر فيها ويتوسل قربها من الله. ثم يشاء القدر أن تموت ليلى قبل قيس ثم يوجد هو ميتًا بعدها بمدة بين الصخور والرمال تاركيْن وراءهما أجيالًا تتغنى بقصائدهما وقصتهما الحزينة.

والكثير من الروايات تؤكد أن ليلى كانت ما تزال على عهد قلبها مع قيس وفي هذا تقول:

كلانا مظهر للناس بغضًا     وكل عند صاحبه مكينُ

تُحدِثُنا العُيُونُ بما أردنا      وفي القلبين ثَم هوى دفينُ

كما تشير بعض الروايات إلى أن ليلى كانت ابنة عم قيس ولكنها حُجبت عنه بعد أن كانا مقربين بعد أن كبرت، ثم طلبها من عمه إلا أنه رفض تزويجها به لأن العرب لا تعطي ابنتها لمن تغنى بها في شعره، فزوجها أبوها لـ ورد بن محمد العقيلي من ثقيف عنوة، وغادرت معه إلى الطائف.

كان الاندماج الثقافي والتعايش الديني على نطاق واسع في الأندلس سببًا في تغير بعض المفاهيم التي كانت راسخة عند العرب الأوائل

  • ابن زيدون وولّادة بنت المستكفي

هو أبو الوليد أحمد بن زيدون، أندلسي المولد والنشأة، وهي ولّادة بنت المستكفي إحدى أميرات بني أمية، نابغة في القول والفكر والأدب، وواحدة من أجمل نساء عصرها، وكثيرون غير ابن زيدون كانوا يتذللون لها ويسعون لرضاها.

وابن زيدون سليل عائلة عريقة كذلك، وعرف عنه قول الشعر في مرحلة مبكرة من عمره، وقد التقى مع ولّادة في إحدى ندواتها الأدبية حيث كانت تقعد مجالس الأدب في بيتها وتدعو له الشعراء والأدباء، وكان من بينهم ابن زيدون الذي أحبها وأحبته، وكان بينهما الكثير من الرسائل والشعر والمقابلات.

ولعلنا إن تمعّنا بقصة ولادة مع ابن زيدون وقارناها مع القصتين السابقتين سنلحظ فرقًا شاسعًا بينها، فوفقًا لما تعارفت عليه العرب لم يكن من المروءة التقاء الحرة بحبيبها في الجاهلية، بل كانت العرب كما ذكرنا تأنف تزويج ابنتها لمن تغنى بها في شعره، على أن الحال اختلف كثيرًا بعد عقود من الزمان.

كان الاندماج الثقافي والتعايش الديني على نطاق واسع في الأندلس سببًا في تغير بعض المفاهيم التي كانت راسخة عند العرب الأوائل، وكان لهذا الاندماج أثرًا واضحًا على قصة ولّادة مع ابن زيدون التي أرسلت له تقول في إشارة واضحة منها لطلب الوصل على خلاف عادات بنات العرب سابقًا:

يسترقب إذا جنّ الظلامُ زيارتي     فإنّي رأيتُ الليلَ أكتم للسرِ 

وبي منكَ ما لو كان بالبدر ما بدا     وبالليل ما أدجى وبالنجم لم يسرِ

أما نهاية قصة الحب العنيفة هذه فانتهت بأعجب الطرائق وأكثرها سخفًا، حيث يروى أن ابن زيدون طلب في يوم من جارية ولادة أن تعيد عليه ما غنت، فظنت ولادة به السوء واتهمته بأنه غازل جاريتها، فابتعدت عنه وهجرته وقالت في عتابه:

لَو كنت تنصفُ في الهوى ما بيننا    لم تهوَ جاريتي ولم تتخيّرِ

وَتركتَ غصنًا مثمرًا بجماله       وجنحتَ للغصنِ الذي لم يثمرِ

 ولقد علمت بأنّني بدر السما      لَكن دُهيتُ لشقوتي بالمشتري

وما يزال بعدها ابن زيدون يخطب ودها ويستعطف قلبها عليه حتى علم بأنها بدأت تتقرب من الوزير ابن عبدوس، وقد كان وزيرًا له صيت وصاحب نفوذ، فلما لم تستجب ولادة له انتقل يهجو ابن عبدوس ويرسل له رسائل تهديد صريحة ومنها الرسالة الهزلية الشهيرة التي كتبها بهجاء ابن عبدوس على لسان ولادة مما جعلها تستشيط منه غضبًا، فيما أمر ابن عبدوس بزجه في السجن، إلا أنه هرب إلى إشبيلية واستقر فيها حيث قرّبه الوالي منه "المعتمد بن عباد" وهو ما يزال باقيًا على حب ولادة.

 

كثيرة هي قصص العشق التي سطرها التاريخ وأورثتنا إياها الأجيال جيلًا تلو جيل، ولعل أكثر ما يلفت فيها هي أن معظمها بقي عالقًا دون وصال، ربما بإشارة قدرية بأن ليس كل جميل يكتمل، وربما هي مجرد حكايات جميلة من عالم وردي كتبت بقلم الشوق بغية تجسيدها في الخيال، لعلها تكون حلمًا جميلًا محفوظًا في الذاكرة حتى لا تكون عرضة للتحطم على صخرة الواقع.