12-يونيو-2023
الجسر المعلق في دير الزور (بطاقة بريدية 1960، مجموعة ميشيل فاغنر)

الجسر المعلق في دير الزور (بطاقة بريدية 1960، مجموعة ميشيل فاغنر)

في أول هبوط لي من فوق سحاب القاهرة انتابني ذعر لم أختبره قط، ولم أكن أدرك وقتها أن الخوف من المدن حقيقي، وله انعكاس فيزيولوجي يمكنك أن تشعر به في أطرافك المرتجفة وشفتيك اليابستين وبرغبتك بالتكور على نفسك.

لم ينتبني هذا الشعور عندما خرجت فارًا من دمشق إلى عمان بعد عام كامل من الثورة. ولا حتى عندما غادرت مدينتي الصغيرة دير الزور إلى دمشق حالمًا بأن أصبح ممثلًا مشهورًا. دمشق التي كانت بالنسبة لابن مدينة صغيرة تبدو ضخمة ومترامية الأطراف متوحشة وعصية على الخضوع. لكن القاهرة من فوق كانت تتخطى كل ما شاهدته من قبل؛ هائلة، كأنها وحش من قرميد وغبار، يقف على أطراف أصابعه ويكاد يمسك بتلابيب الشمس.

من لا أرض له لا يحق له الاستسلام واليأس. وذلك لأنّ اليأس والاستسلام في أرضك يبقيك حالمًا، أما أن تيأس وتستلم في المنفى فإن ذلك يجعلك مشردًا

وما بين وصولي إلى دمشق ووصولي إلى القاهرة تكسرت كل أسلحتي المقاومة للرهبة، سلحت نفسي قبل انتقالي إلى دمشق بالسؤال: "ما هي أسوأ السيناريوهات بالنسبة إلي؟"، والجواب: "أركب الباص وأعود إلى دير الزور". الآن لم يعد هذا الخيار متاحًا، فأنا اليوم لم أعد ذلك المنفي عن جغرافيته بإرادته، ما زلت حالمًا، لكنني لم أعد أمتلك رفاهية اليأس والاستسلام مثل كل الحالمين المحطمين العائدين إلى مدنهم الصغيرة. أنا اليوم فار، هارب، ومن السهل اكتشاف لحن الثورة في صوتي، ولون الغضب في عيني، وأيضًا من السهل أن أتحول خلال ساعات إلى شهيد تحت التعذيب، أو تبلعني هذه الجغرافيا الجحيمية وأصير مفقودًا.

نظرت من فوق إلى أهرامات الجيزة، أحزنني كيف بدت راسخة ولا مبالية، فعرفت أن من لا أرض له لا يحق له الاستسلام واليأس. اليأس والاستسلام في أرضك يبقيك حالمًا، أما أن تيأس وتستلم في المنفى فذلك يجعلك مشردًا.

وعلى عجل ظهرت أمامي كل صور البؤس التي ألفناها عن القاهرة من السينما، وأصبح الفارق الطبقي الملطف سينمائيًا ظاهرًا لي بوضوح تام على أرض الواقع، حضر في مخيلتي "شادر السمك" و"أفواه وأرانب" و"البيضة والحجر" بكل البؤس الذي كان ينطوي عليه حال الشخصيات المصرية في تلك الأفلام، وأدركت من دون أي شرح تاريخي أو معادلات اقتصادية وعوامل اجتماعية أن عبارة "عاوزين نإب على وش الدنيا" ليست إلا حاجزًا يفصل بين عالمين منفصلين؛ عالم سفلي جحيمي يمور "بالغلابة" والفقراء وحطام الطبقة الوسطى، وعالم علوي كل رجل فيه هو "خواجة" أو "سعادة البيه" وكل امرأة فيه هي "ست هانم".

 

القاهرة ليلا

أثرياء بألقاب بلا أسماء. قبل أن تطأ قدماي أرض القاهرة خشيتها، وظننت أني لن أصمد في هذه المدينة سوى أيام قبل أن تبتلعني، لم أتوقع أنني سأصمد فيها لثلاث سنوات تقريبًا.

لست من أتباع فلسفة الجغرافيا العاطفية، ولا أؤمن كثيرًا بحب المدن للأشخاص، لكنني أعتقد بالرتم والإيقاع، ومذ بدأت سلسلة لجوئي وأنا أقيس انسجامي مع المدن بالطبلة، لكن إيقاع القاهرة كان عصيًا على الضبط، إنها صخب إيقاعي بدرجات متفاوتة، وأحيانًا متناقضة بين حيّين متجاورين.

مع أولى أيامي هناك، بدأت ألحظ جمالًا مستترًا لمدينة عريقة تحجبه تيارات من الأسواق والمقاهي الارتجالية الرخيصة، إذ بينما كان تمثال طلعت باشا ينتصب واثقًا مشرفًا وسط القاهرة القديمة، كانت رزم الألبسة الداخلية الصينية تحتل ثلث قاعدته، "وفرشات" الباعة المتجولين سريعة الطي تمتد كأذرع الأخطبوط عميقًا داخل الأزقة والحارات القديمة. وقد تقودك متعة التتبع والفرجة المصحوبة برنين اللهجة المصرية الحية لتجد نفسك وسط سوق آخر مرتجل للسمك والجمبري. ومع ذلك إن راودتك نفسك الدخول إلى واحدة من تلك العمارات المتجاورة بإتقان والمزدانة بأرقى وأجود النقوش والزخارف، سوف تنقطع عن العالم الخارجي فجأة، ويحملك فيض من التفاصيل عائدًا بك سنواتٍ إلى الوراء، وبتواطؤ بين العتمة ومخيلتك يصبح المشهد فجأة بالأبيض والأسود، ويمنح المصعد القديم قفصي الشكل وبيت البوابين عند الدرج للمشهد مصداقية أكبر، حتى لتظن أنك ستلمح شكري سرحان يلاحقك بنظراته القاسية، وتسحرك عينا زبيدة ثروت وهي تغلق باب شقتها بهدوء.

ما يميز القاهرة عن سواها من المدن هو أن هذا التلاحق البصري المتناقض في كل جزء منها يحدث دون افتعال ويبدو أصيلًا حتى في بشاعته

لم يطرأ على تلك العمارات، لا من الداخل ولا من الخارج، أي تغيير ملحوظ. كانت كما هي منذ قرن، بحلتها وحالتها التاريخية، لكنك ستلاحظ أيضًا أن الحالة المتحفية التي هي عليها تعود لسببين، الفقر والإهمال الحكومي.

لم يكن يعكر صفو الأجواء الكلاسيكية تلك إلا أمواج الكراسي البلاستيكية في المقاهي، واليافطات المطبوعة رقميًا المعلقة على واجهات العمارات القديمة بألوانها الفاقعة وإيحاءاتها الواقعية الفجة. ومع ذلك يمكن أن ترى رجلًا جالسًا بكل وقار على شرفة منزله "بروب" منزلي ثقيل ينم عن أرستقراطية آفلة، يشرب قهوته بهدوء وبطء معاندًا كل الصخب والرتم السريع أسفل الشرفة.

ولا يسعك وسط هذه الفوضى البصرية الخلاقة إلا أن تكون جزءًا منها، لكن ما يميز القاهرة عن سواها من المدن هو أن هذا التلاحق البصري المتناقض في كل جزء منها يحدث دون افتعال ويبدو أصيلًا حتى في بشاعته.

والمصري خفيف الروح يجعلك تتواطأ مع كل هذا وتنتمي إليه، حتى قبل أن تكون مستعدًا. لذلك لم أكن بحاجة إلى وقت طويل كي أترك خطواتي تنساب مع رتم القاهرة، وكل ما خشيته فيها أخذ يتلاشى بعد انقضاء شهر واحد. ربما نحن السوريين كنا أحوج من غيرنا للقاهرة وتأثيرها المخدر؛ تخدرنا سريعًا وتشملنا مع السواد الأعظم من المصريين اللاهثين وراء "عيشها" ومواصلاتها.

بالنسبة لي، كانت سنواتي في مصر عامل اكتمال حاسم لرجولتي، لا تشعر بهذا وحدك بل هو شعور قسري يمارسه عليك المحيط بكل سهولة واقتناع، كيف لك أن تعيش في مصر دون أن تتحلى بصفات الرجل الخشن سليط اللسان، إن كان في علاقتك مع الجيران والباعة أو البوابين، وحتى في مقاومة العيون الشرهة التي تلاحقك وزوجتك في الطرقات.

في القاهرة فقط فهمت الضغط الذي كان يرزح تحته الرجال في مدينتي دير الزور، إذ لم أجد قبلًا شبيهًا لدير الزور مثل القاهرة، بخشونة رجالها وطرافتهم في آن معًا، وفي قوة نسائها وحضور بديهتهن، حتى في شكل العلاقات العائلية ومستوياتها، وربما حتى في سمات الشر التي تميز مجمل مراهقيها وشبانها. وكما أسلفت، لم أكن بحاجة لوقت طويل كي أجد مكاني في هذه المدينة بسرعة، وكأنني قد عشت هنا قبلًا. جهدت كثيرًا في محاولة كشف السر الذي يجمع بين دير الزور والقاهرة، تارة كنت أرده إلى الطبيعة المحافظة للمدينتين، وأحيانًا إلى المناخ الحار، لكنني استرحت لتفسير؛ جمع كل هذه التقاطعات في نقطة واحدة، وهو، أن كلانا، أنا والقاهريين يعيش بجانب نهر عظيم، يعكس تأثيراته علينا بطرق متشابهة، أهمها التركيبة النفسية والاجتماعية، وذلك التناقض الصارخ بين الخشونة والطرافة معًا.

أصبحت أشعر أن القاهرة هي نسخة مضخمة عن دير الزور، وزدت شغفًا بلعبة التقاطعات تلك عندما دخلت شخصية "الصعيدي" مقابل شخصية "الشاوي" مجال المقارنة؛ فتلك الشخصية ليست مجرد صورة نمطية تطابق الموروث الهزلي لأهل المدن تجاه أهل الريف الزائرين، مثلما هو الحال في مدينتي، وإنما هزلية تعكس تنافسية وندية، وأحيانًا عداوة غير مفهومة تتجلى باندفاع "الصعيدي" و"الشاوي" لإشغال أكبر مساحة ممكنة له في فضاء المدينة وتشكيل هذا الفضاء، وفق منظومته القيمية الواضحة والبسيطة، وكلاهما يعيش لحظة تاريخية غير منتهية على شكل ظهور عبد الناصر مجددًا والقضاء على الاستغلال والإقطاع، يقابله عشق الريفي من دير الروز لصدام حسين وفتوته ورجولته الصارخة، وميل النموذجين لتبجيل واحترام مظاهر السياسة المعسكرة.

يمكنك معه أن تتظاهر في ساحة الأمويين في دمشق، أو ساحة السوق في دير الزور، ثم لا تحتاج سوى أن تقطع الشارع المقابل لتكون في ميدان التحرير في القاهرة

هذه العلاقة المركبة بين مدينتين قد لا يجد أحد أي رابط يجمع بينهما، هي من جعلتني أواجه الحنين بالتأقلم السريع والاندماج، وربما كان هذا الرباط ليس إلا رباطًا نسجته مخيلة غريب منفي يحاول أن يحيل منفاه إلى فرصة لاكتشاف الذات مجددًا، واستعادة ما انقطع عني في مدينتي الصغيرة دير الزور، ووصله بالقاهرة، متكًا على تقاطعات نفسية واجتماعية، ومتشبثًا بتفسير النيل على أنه امتداد للفرات وليس بديلًا عنه.

لم أكن لأحظى بفرصة تجميع هذه التقاطعات ووصل ما انقطع، لولا المناخ التوأمي الذي خلفته رياح الربيع العربي بين البلدان التي عصفت بها، كان هذا المناخ عابرًا للجغرافيا وللبيئات الاجتماعية المختلفة، وميسرًا لاستقبال هذا النوع من التفسيرات، خاصة أننا كنا نعتبر أنفسنا أبناء ثورة، واحدة وإن اختلفت مواقيتها ونتائجها.

لم يكن هذا مجرد شعور فردي يحدد علاقتي مع القاهرة. بل لمسته يدي ورأته عيني، فأحسسته. كانت لجان "البوليس" المنتشرة على الطرقات السريعة تفتح الطريق أمامنا بمحبة مشفوعة بالدعاء بالنصر على طاغية الشام بمجرد أن تقع عينهم على وثائقنا، كان هذا يشعرني أنني أعبر من حي "الحميدية" إلى حي "الجبيلة" المحرر في دير الزور.

نهر الفرات في دير الزور عام 2011
نهر الفرات في دير الزور عام 2011

لقد تداعت الجغرافيا بأبعادها المكانية والزمانية، كان شعورًا أشبه بركوب آلة الزمن، يمكنك معه أن تتظاهر في ساحة الأمويين في دمشق، أو ساحة السوق في دير الزور، ثم لا تحتاج سوى أن تقطع الشارع المقابل لتكون في ميدان التحرير في القاهرة.

بعد عامي الأول في القاهرة، أصبحت أكثر قربًا من فهم التركيبة الإيقاعية لهذه المدينة، ولم أعد مكبلًا بالصور النمطية المسبقة عنها، أصبحت أكثر تسامحًا مع الكراسي البلاستكية المنتشرة أسفل البنايات الكلاسيكية، وأقل تزمتًا في التلقي في مختلف المناحي الثقافية والفنية والإعلامية، صرت أفهم كآبة وسوداوية أغاني هاني شاكر، وصرت أقرب لربطها بسياقها المجتمعي والثقافي، فالحزن في مصر ثقافة، لها هواتها ومحترفوها وجمهورها الواسع وأنماطها الاستهلاكية الخاصة، وهذه الثقافة ليست شأنًا خاصًا بالأغنية الشعبية أو مزاج الطبقة الوسطى الفني، بل هو وجه من أوجه القاهرة الأصيلة، صرت أفهم أن هاني شاكر لم يخترع هذا النمط الغنائي السوداوي، بل هو اختار التخصص في مزاج محدد من ضمن أمزجة فنية عدة في مصر، تمامًا كما هو الحال في مدينتي الصغيرة دير الزور التي شكّل الحزن العراقي جزءًا مهمًا من هويتها المناطقية، ومزاج رجالها ونسائها الفني. الحزن والسوداوية هي الطريقة المفضلة للتعبير عن الحب العميق والجاد عند الشبان والشابات في دير الزور. حتى ظاهرة النجم الإعلامي ومفهوم الإعلام الشعبوي هو شيء ينتمي للخصوصية المصرية، ومهما حاولت، لن تجد مرادفًا لعمرو أديب أو توفيق عكاشة أو ياسمين عز أو رضوى الشربيني في سوريا أو لبنان أو الأردن، فهذا النتاج مرتبط بشدة بالخصوصية المصرية، واستجابة طبيعية لها هذه الخصوصية التي تسجل حضورها في كل شيء في الحزن والفرح، في الميديا، في الثقافة والفن.

الآن وبعد مغادرتي لمصر أدركت حجم تأثيرها علي. سنواتي فيها جعلتني أكثر إلحاحًا في تحديد عناصر هويتي السورية. فيها أدركت أن المجتمع ليس مرآة لطبيعة السلطة، وأن درجة تأثير السلطة على المجتمع قيميًا وسلوكيًا ضعيفة، وأن أكبر تجلياتها يتمظهر في الفساد المالي والإداري.

اليوم وأنا أتابع أخبار مصر، وأعود بالذاكرة إلى الشوارع والـ"كباري" والحارات والعشوائيات، أدرك حجم القوة التي تمنحها الخصوصية والمحلية لأي أمة أو شعب في تحديد ملامح الهوية الوطنية على مستوى اجتماعي وعلى مستوى فردي أيضًا.

سنوات القاهرة كانت بحق وصل ما انقطع عني في مدينتي الصغيرة دير الزور، وربما لو لم أعش سنواتي الثلاث هناك لكنت شخصًا بوعي وقناعات مختلفة، لكن عواصف الغبار في القاهرة أعادت لرئتي طعم "العَجَاج"، وحرارة قيظها أعادت إليّ صورتي الصبيانية في حرّ الدير، وأفسحت لي المجال لإعادة تقييم تلك المرحلة وفهمها من جديد، ولا شك أن سحر النيل ونسائمه أعاد إليّ اتزاني وهدوئي في الساعات التي كنت أقضيها على ضفاف الفرات.