15-يونيو-2017

للصوم سياقات مختلفة حسب الحضارات والأديان (محمد العابد/أ.ف.ب)

من المعلوم أن شعيرة الصوم ركن أساسي لدى الديانات التوحيدية الثلاث، الإسلام واليهودية والمسيحية، إلا أن الصيام كطقس ديني في الواقع كان حاضرًا منذ زمن بعيد عند الحضارات القديمة قبل الميلاد، حيث تشير الأدلة التاريخية إلى أن بعض الحضارات الغابرة كان أناسها أيضًا يمتنعون عن الطعام والشراب في بعض الأوقات.

الصيام طقس ديني كان حاضرًا منذ زمن بعيد عند الحضارات القديمة كما تشير لذلك عديد الأدلة التاريخية

اقرأ/ي أيضًا: الصيام الأول للطفل الجزائري.. كأنه ولادة!

1. الصوم عند السبئيين

يتشابه الصيام عند السبئيين إلى حد بعيد مع الصوم الإسلامي، ولاسيما لدى السابئة الحرانية منها، التي كانت تقطن في مدينة حران بالعراق، إذ تذكر مصادر التاريخ العربي أن هذه الطائفة كانت تصوم شهرًا في السنة يبدأ من ظهور الهلال حتى ظهوره من جديد مرة أخرى، فكان الحرانيون خلال هذه الفترة يمتنعون عن الأكل من الفجر إلى غروب الشمس، وبعد نهاية الشهر يختتمون الصوم بعيد الفطر.

وفي هذا الصدد، يورد أبو الفداء في الجزء الأول من كتابه المختصر في أخبار البشر في حديثه عن السبئيين فيقول، "لهم الصلاة على الميت بلا ركوع ولا سجود، ويصومون ثلاثين يوماً وإن نقص الشهر الهلالي صاموا تسعاً وعشرين يوماً وكانوا يراعون في صومهم الفطر والهلال، بحيث يكون الفطر وقد دخلت الشمس الحمل، ويصومون من ربع الليل الأخير إِلى غروب قرص الشمس".

فكان السبئيون الحرانيون يتقربون بصومهم للإله سين، إله القمر الذي كان يُرمز إليه بواسطة الهلال، ويختتمون صيامهم بالذبائح والصدقات تقربًا للإله سين، كما يقول بن الجوزي في كتابه "تلبيس إبليس".

2. الصوم عند البوذيين

يمتنع المتدينون البوذيون عن الطعام فقط دون الشراب من الظهر حتى صباح اليوم التالي، وذلك اقتداء بممارسة الأمير سيدهارثا (بوذا)، الذي كان يلتزم بنظام صارم من التقشف للوصول إلى ما يدعى لديهم بـ"السكينة النهائية"، وتحث البوذية معتنقيها على الصيام عن الطعام والعمل معًا يومًا واحًدا في كل أسبوع.

وتذكر كتب البوذية أنه كان يومًا بوذا يتجول في منطقة كاسي مع كبير الرهبان سانغا وقال له "نحن الرهبان لا نأكل وجبة في المساء، لكي نكون على صحة جيدة ونعيش في راحة، لا تأكل كذلك في المساء".

ما يميز الصوم عند البوذيين هو أنه ليس طقسًا للتقرب من الإله، بقدر ما هو طريق للانضباط ووسيلة لشحذ التأمل والصحة، التي من خلالها يمكن الوصول إلى غاية البوذية النهائية، "السكينة الكبرى"، وذلك عائد إلى أن الديانة البوذية لا ترتكز على مفهوم الإله، وإنما هي أقرب إلى نوع من الفلسفات الدينية.

ما يميز الصوم عند البوذيين هو أنه ليس طقسًا للتقرب من الإله كحضارات وأديان أخرى، بقدر ما هو طريق للانضباط ولشحذ التأمل والصحة

اقرأ/ي أيضًا: غدًا صيام.. ما لا تعرفه عن "رمضان البهائيين"

3. الصوم عند اليونان

ارتبطت شعيرة الصيام في اليونان مع وضع رجال الدين، كطقس يُعتمد في أثينا خلال فصل الربيع بالنسبة للكهنة المبتدئين للمرور إلى المراتب العليا من السلم الكهنوتي، رغم أن بعض أجزاء الشعب اليوناني دأبوا على الصيام بعد انجلاء مخاطر الحرب أو الطبيعة حمدًا للنجاة.

لكن الصوم حضر لدى اليونان أيضًا كممارسة صحية، تحدث عنها الطبيب الإغريقي أبوقراط بإسهاب قبل خمس قرون من الميلاد، حيث كان يعتقد في الصوم علاجًا لكثير من الأمراض وتقويمًا لغطرسة النفس، وبذلك كان أول من انتبه إلى أن الامتناع عن الطعام والشراب يمكن أن يكون علاجًا صحيًا، مثلما كان يؤكد أن الطعام الجيد هو دواء للجسم، فيقول أبوقراط  في حكمه الصحية: "عش عيشة صحية تنج من الأمراض إلا إذا انتشر وباء في البلد أو أصابتك حادثة، وإذا مرضت ثم اتبعت نظاماً صالحاً في الأكل والحياة أتاح لك ذلك أحسن فرص الشفاء".

ومن ثمّة  كان الصيام عند اليونان مرتبطًا بالكهنة كطقس للمرور، فيما اتخذه الفلاسفة، من أمثال أبوقراط، نظامًا صحيًا مفيدًا للمرضى، إلا أن الصوم كشعيرة للتعبد لم يكن حاضرًا لدى الإغريق بقوة.

4. الصوم عند الفراعنة المصريين

كان الصوم شائعًا لدى مصر القديمة، لدرجة أن بعض الباحثين، منهم رافد علاء الخزاعي، يذهبون إلى أن الجذر التاريخي لكلمة "صوم"، يعود في أصله إلى "صاوم" التي تعني في اللغة الهيلوغريفية "امتنع عن"، إذ كان المصريون القدماء يصومون أيام الأعياد تقديسًا لنهر النيل، الذي أعدوه واهب رزقهم، كما أنهم أيضًا كانوا يصومون أيام الحصاد وجني الثمار، مثلما تعبد المصريون بالصوم تقربًا للموتى.

ويذكر عبدالحكيم الصادق الفيتوري في دراسته "الأديان... وفلسفة الصوم"، متحدثًا عن الصيام لدى الحضارة المصرية القديمة: "كان الفراعنة بمصر لهم نوعان من الصيام، صيام الكهنة، وصيام الشعب، وهذا التقسيم يدور في فلك الواجب والمستحب، ويبتدئ الصوم عندهم من طلوع الشمس إلى غروبها فيمتنعون عن تناول الطعام ومعاشرة النساء".

وكان الإغريق المعاصرون للفراعنة يعلمون بشيوع هذه الشعيرة في مصر، حيث يتحدث المؤرخ اليوناني هيرودوت، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، عن مصر فيقول "المصريون هم أفضل الناس صحة، لأنهم يقومون بتنقية جسمهم من الطعام ثلاثة أيام من كل شهر"، معتقدًا أن الشخص يتلقى كل الأمراض عن طريق الطعام".

كان الفراعنة بمصر لهم نوعان من الصيام، صيام الكهنة، وصيام الشعب، وهذا التقسيم يدور في فلك الواجب والمستحب

5. الصوم عند الجزيرة العربية قبل الإسلام

بحسب كتب التراث الإسلامي، فإن الصوم كان طقسًا حاضرًا في الجزيرة العربية قبل الإسلام، فيذكر تفسير الطبري أن العرب الوثنيون كانوا يصومون عن الطعام والشراب وممارسة الجنس من الفجر إلى غروب الشمس، وبعضهم كان يمتنع عن الكلام أيضًا، كما أنهم كانوا يقدسون هذا الشهر ويولونه حرمته.

بعض الباحثين يُرجع أصل صيام الجزيرة العربية قبل الإسلام إلى تأثير سابئة حران، خلال عهد احتلال نابونيدس لتيماء لمدة عشرة سنين، وكان ذلك ما بين سنة 550 و 540 قبل الميلاد، كما كانت السابئية تنتشر لدى بعض القبائل العربية المعروفة بتقديسها للكواكب والنجوم، تمامًا مثل السبئيون الذين يعبدون إله القمر سين.

6. الصوم عن السيخ

لا تشجع الديانة السيخية كثيرًا الصوم كطقس تعبدي ضروري، حيث يقول السيخ غورس في الكتاب المقدس لدى السيخ، المسمى "Guru Granth Sahib" إن "الانخراط في الطقوس اليومية مثل الصوم لا يجلب أي فائدة روحية للشخص"، ويعتبره السيخيون تعذيبًا للجسم بالجوع والعطش، ولا يفيد في شيء العقل البشري الذي يحتاج الحكمة من خلال التفكير في "الكلمة"، الإله فشنو.

لكن السيخ في نفس الوقت لا يمنعون الصوم إذا كان لدواع طبية، وقد يمارسونه في بعض الأعياد، مثلما يعتبرون الإكثار من الأكل والشراب، ينافي الروحانية التي تسعى إليها الديانة السيخية، من خلال التفكر في الإله فشنو للخلاص.

7. الصوم عند الطاويين

تعد الطاوية الديانة الأكثر تأثيرًا في المجتمع الصيني بعد الكنفوشية، ورغم أنها أقرب إلى الفلسفات الوجودية من الأديان التعبدية، إلا أنها تتضمن هي أيضًا شعيرة الصيام، المسماة لدى الطاويين بـ"بيغو"، الكلمة التي تحيل إلى الامتناع عن المواد الغذائية، وتطور هذا الطقس فيما بعد إلى نوع من العلاج الطبي التقليدي الذي يمارس في الصين، ويدعى بـ "سانشي".

تنظر الطاوية إلى الصوم كتقنية حيوية للوصول إلى الخلود، إذ تعتبر فكرة الخلود بمعناها الروحي والمادي أحد أبرز مبادئ هذه الديانة، وسنت من أجلها مجموعة من الطقوس الحياتية لتحقيقها، كالدعاء والصلوات والحمية والأدوية والكيماويات وطرق التنفس، التي من شأنها أن تطيل عمر الإنسان إلى أطول فترة ممكنة كما يعتقد الطاويون.

8. الصوم لدى الجاينية

ليس من الغريب أن تعرف الديانة الجاينية الصوم كطقس ديني روحاني يمارسه أتباعها منذ القدم، إذ أن الزهد فكرة محورية في فلسفة هذه الديانة، جسدتها من خلال مجموعة من التقاليد المدعوة بـ"الشارمان"، التي يحافظ عليها الجاينيون بحرص شديد، والصيام ضمن هذه التقاليد، كممارسة شائعة في الوسط الجيني، يمارس في الأيام المقدسة وفترة المهرجانات، مثل مهرجان "باريوشان" المشهور لديهم الذي يمتد لثمانية أيام.

يعتبر الجاينيون الصيام طريقًا للفرد لبلوغ السيطرة الذاتية والتحكم بالنفس، وتذكر النصوص الجاينية في الكتاب المقدس "أوبافاسا"، بأن الامتناع عن ملذات الحواس الخمس والانغماس في حالة سكون يساعد في التركيز العميق، وبهذا فإن الصيام عند الجاينيين يتعدى الأكل والجنس إلى الأصوات والرؤية واللمس والعمل لفترة معينة.

هكذا إذًا فإن الصيام له جذور عميقة في التاريخ البشري، عرفته العديد من الحضارات القديمة بأشكال متنوعة ومارسته لغايات مختلفة، بعضها اعتمده كطقس ديني للتعبد، بينما أخرى وجدت فيه أسلوبًا صحياً يهذب النفس والجسم.

اقرأ/ي أيضًا:

الإفطار في نهار رمضان عربيًا.. قوانين وأعراف مختلفة

موالد القديسين في مصر.. بهجة البسطاء والمريدين