04-أبريل-2017

ارتبط النيل بحياة المصريين ارتباطًا وثيقًا (جون مور/Getty)

يقول أمل دنقل في إحدى أجمل قصائده عن النيل:

"النيل؟

أين يا ترى

سمعت عنه قبل هذا اليوم؟

أليس ذلك الذي

كان يصاحب العذارى

ويحب الدم؟

- مولاي. قد تساقطت أسنانه في الفم

ولم يعد يقوى على الحب وألعاب الفروسية

- لا شأن لي

لابد أن يبرز لي أوراقه الرسمية

فهو صموت

يصادق الرعاع. يعبر القرى

ويدخل البيوتْ

ويحمل العشاق في الزوارق الليلية".

لا أحد في مصر يعطي هذا النيل لقب "النهر" أبدًا، رغم اعترافهم بكونه نهرًا في الجغرافيا، ويُعتقد أن هذا قد يعود إلى اتساع ضفتيه وعمقه، وهو يرد دومًا على لسان العامة بكلمة "البحر". وفي سبب تسميته يذكر ياقوت الحموي أنه تعريب للكلمة الرومية "نيلوس". وهناك تفسير آخر يشير إلى ما ذكره المؤرخون حول الأنهار الكبيرة فيُقال لكل نهر عظيم لا يجف ماؤه "البحر".

ارتبط النيل بحياة المصريين ارتباطًا وثيقًا، يكادون يشعرون أن كل شيء في حياتهم حدث بفضل النيل

وقد ارتبط النيل بحياة المصريين ارتباطًا وثيقًا، يكادون يشعرون أن كل شيء في حياتهم حدث بفضل النيل. وسوف نفصل ذلك في الحِرَف التي ارتبطت بالنيل، والمعتقدات والمرويات الدينية والشعبية حوله.

اقرأ/ي أيضًا: الزواج النوبي.. التزام بالجذور والذاكرة

حِرَف ارتبطت بالنيل

أول وأهم هذه الحرف هي الزراعة حيث قلت الأراضي المزروعة لصالح ازدياد الأماكن المأهولة بالسكان وعلى الرغم من تأثر الزراعة الواضح بانحسار المساحة المزروعة وقلة الاهتمام بها وتغير أشكالها وأدواتها فإن هناك حرفًا اندثرت تمامًا أو تكاد بسبب تغير الأحوال وتبدلها مثل صناعة الطوب اللبن.

وصناعة الطوب اللبن هي من الحرف التي اندثرت مع بناء السد العالي، وكان يُصنع الطوب اللبن من الطمي الذي يأتي سنويًا دون أن تتأثر الأرض الزراعية بنقصان التربة. وظل الفلاحون يبيعون طمي أرضهم لورش الطوب اللبن حتى منتصف الثمانينات، لذا فليس من قبيل الصدفة أن تكون ورش الطوب الأحمر المستخدم في البناء بالقرب من شواطئ النيل. وكان الأمر قائمًا حتى شرّعت الدولة قانونًا يجرم تحريف طمي الأرض فلم يعد أمام أصحاب مصانع الطوب غير الاعتماد على مواد أخرى مثل الطفلة لإنتاج الطوب.

أما السقاية، فقد ورد في كتاب "فلكور النيل" للباحث هشام عبد العزيز أن ناصر خسرو، الرحالة والمؤرخ، ذكر أن مصر في القرن الحادي عشر الميلادي كان بها "52 ألف جمل، خصصت في القاهرة لحمل مياه الشرب إلى سكان الشوارع غير الضيقة وذلك بخلاف الرجال الذين يحملون القرب المملوءة بالماء على ظهورهم إلى المنازل الواقعة في الحارات الضيقة التي لا تستطيع الجمال أن تصل إليها".

أما في الريف، فكانت النسوة يخرجن إلى نهر النيل في أماكن معلومة معروفة بنظافتها، يملأن جرارهن بعد أن يضعن عليها قطعًا من الشاش تلاشيًا للشوائب. ويذكر المؤرخ إدوارد وليم لين أن "سقائي القاهرة كانوا يبيعون الماء القطاعي في الشوارع ويسمونه "سقا شربة"، وهو الذي يحمل على كتفه قربة ذات أنبوبة نحاسية طويلة ويعلن عن نفسه بنداء "يعوض اللهب" وهو ما تم استبداله الآن بالعرقسوس.

أما "المعداوي"، هو الذي يقوم بنقل الناس من سكان الجزر، من وإلى أماكن سكنهم، عبر مركب صغير ويسمّى المركب بالمعدّية وكلمة المعداوي أصبحت لقبًا لكثير من العائلات في مصر. وكانت المعدية تستخدم قبل بناء السد العالي كوسيلة مواصلات بين البيوت في القرى أيام الفيضان، ويقطع المعداوي مسافة مئة متر تقريبًا بين شاطئين. أما صيد الأسماك فهو لا يزال قائمًا إلى الآن رغم ندرته فكثير من سكان المدن أصبحوا لا يحبون أسماك النيل لما انتشر عن تلوثها، وأصبحوا يفضلون أسماك البحر المتوسط التي تأتي من الموانئ.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا تهمل مصر الاستثمار المحلي؟

معتقدات عن النيل في وجدان المصريين

يرمي المصريون "شرح الولد الصغير" المولود بعد حلاقته في النيل أملًا في أن يهبه نهرهم المبارك حياة سعيدة بين أقرانه

يعتقد المصريون أن "الماء المقروء عليه" سلاح يمنع "الأعمال السفلية"، ويرون أن الماء المرشوش في وجه العدو سلاح حتى قالوا في أمثالهم "رش الماء عداوة". أما النيل فقد ارتبط في وجدان المصريين بقصة موسى عليه السلام، ورغم أنه لم يرد صراحة في النص القرآني إلا بلفظ "اليم" إلا أنهم يعرفون قطعيًا أن القرآن مقصده نيلهم حتى حكوا مثلًا أن فرعون وجد تابوت موسى، الذي رمته فيه أمه، لأنه كان له مجلس دائم يجلس فيه كل يوم على شاطىء النيل.

وورد في كتاب فلكلور النيل أن هناك قرية في صعيد مصر تُسمى "قرية مسجد موسى" سُميت بهذا الاسم لأن النبي موسى مر بها، فحضرته صلاته لربه فسجد في مكان معلوم إلى الآن يتبرك الناس به.

ومن أقدم ما رسخ في أذهان المصريين كان أسطورة إيزيس وأوزوريس، التي تدور حول الإله (ست) الشرير الذي ألقى جسد أخيه أوزوريس في النيل بعد أن قطعه أربعين قطعة. وقديمًا كانت المرأة العاقر تملأ إبريقًا من الفخار الأسود من ماء النيل لتستحم به أو تنزل مباشرة في النيل في طقس رمزي تعاشر فيه أوزوريس معتقدة أنه سيهبها الولد.

كذلك يرمي المصريون "شرح الولد الصغير" المولود بعد حلاقته في النيل أملًا في أن يهبه نهرهم المبارك حياة سعيدة بين أقرانه، بل إن الفلاح لا يشعر بأي ضرر أو حرج من أن يرمي مشيمة بهيمته في النيل (مجرى الماء الذي يتوضأ فيه) اعتقادًا منه أنه ماء جار وأن النيل ملك وأن الملوك لا يمسهم نجس!.

هكذا كان النيل جزءًا من حياة المصريين اليومية لا شك في ذلك، ولعل انفصالهم "المادي" عنه بنزوله من صنابير مياه بيوتهم لا يعني أنهم انفصلوا عنه معنويًا، فكأنه "ولي" قديم نزل بأرضهم وكان سببًا في خير كثير لهم.

اقرأ/ي أيضًا:

تونس.. هل تتحقق انتفاضة العطشى؟

تاريخ "الحنفية".. صراع اللغة والفقهاء