12-ديسمبر-2016

صورة لانفجار قنبلة بكنيسة القديس بطرس بحي العباسية (Getty)

1

في صيف 2007، أذكر أنني قرأت تحقيقًا صحفيًا مترجمًا لمراسل جريدة "نيويورك تايمز" في العراق حول عمليات تهجير طائفية لعائلات مسيحية من مدينة الموصل. لم تكن تسمية "داعش" قد ظهرت على الساحة بعد، غير أن إرهاصاتها كانت واضحة بعد مقتل أبي مصعب الزرقاوي وانفصال عدد من التنظيمات الإسلامية الجهادية المسلحة عن تنظيم "قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين" الذي كان يتزعّمه الزرقاوي.

كان تقرير الجريدة الأمريكية يعرض لعدد من الحوادث، المدعمة بالمقابلات الشخصية، التي يمكن تلخيصها كالتالي: مسلحون يدورون على بيوت المسيحيين، مخيّرين إياهم بين دفع الجزية، باعتبارهم أهل ذمة ويعيشون على أرض مسلمة، أو أن يرحلوا من بيوتهم قبل أن يقتلوهم. أتذكر بوضوح جملة إحدى السيدات المسيحيات عرضها التقرير المترجم، كانت تقول: "كيف يأتي شخص غريب من دولة أجنبية ويطالبني بالرحيل من بيتي الذي عشت فيه منذ مولدي؟".

قال البعض عام 2007 إن وكالة المخابرات الأمريكية هي التي تقف وراء الأحداث الطائفية بالعراق لتبرّر بقاء قواتها

حدث ذلك في وقت كانت الإدارة الأمريكية منتشية باغتيال الزرقاوي من دون أن ينتهي الإرهاب، وفي وقت شهد تأجيجًا طائفيًا قياسيًا حينها طال جميع الطوائف العراقية، ومن بينهم المسيحيون، وفي وقت كان الجميع حائرًا في تحديد المسؤول عن أحداث العنف الطائفي العنيفة التي يشهدها العراق بشكل شبه يومي.

قال البعض إن وكالة المخابرات الأمريكية هي التي تقف وراء هذه الأحداث الطائفية لتبرّر بقاء قواتها في العراق، في حين رأى آخرون إن هذه الأحداث تعيق خطة الولايات المتحدة في العراق واستقراره وبالتالي تحرج الإدارة الأمريكية، فضلًا عن أنها لا تصب في مصلحتها.

على الجانب الآخر، حاول البعض إرجاع موجة العنف المدمر إلى الصراع القائم بين تحالف بعض الساسة الأمريكيين من المحافظين الجدد وبعض الساسة العراقيين من مرحلة ما بعد صدّام من جهة وحلفاء النظام السابق والجماعات السلفية من جهة أخرى، كما لم ينس البعض الإشارة إلى نظام البعث السوري وقيامه بتسهيل مرور موجات الانتحاريين من دول أخرى مجاورة، خصوصًا إيران.

اقرأ/ي أيضًا: إلغاء خانة الديانة "جامعياً" في مصر: اشتعال أزمة

كان الأمر معقدًا ولا يسمح بتبين أي شيء، بازل قذر من المؤامرات يتداخل فيه السياسي بالديني والفقهي بالطائفي والاستراتيجي بالتكتيكي، ولكل طرف مصالح مختلفة عن الآخر ومتداخلة مع بعض الأطراف. لكل هذه الأسباب وغيرها لم يحدث شيء في هذا الملف، بل ازداد الوضع سوءًا، رغم الانتصار المؤقت الذي حققته وقتذاك الزعامات السنّية العراقية في دحر "الصحوة الإسلامية" والتقليل من نفوذها ومناطق سيطرتها، والذي بدأ كرد فعل جلبه تجرؤ التنظيم الوليد "الدولة الإسلامية في العراق" ومحاولته السيطرة على أراضٍ جديدة.

باختصار، كان ثمة تواطؤ على التغافل عن جرائم الجهاديين، أيًا كان مسمّاهم، بحق المسيحيين والطوائف العراقية الأخري، وجاء التحرّك السنّي الأبرز لمواجهة تغوّل تنظيمات السلفية الجهادية في العراق فقط حين حاولت هذه الأخيرة الانقضاض على حواضر يعتبرها السنّة حصرًا لهم.

2

في الأول من كانون الثاني/يناير 2011، شهدت مصر حادثًا إرهابيًا استهدف كنيسية القديسين بالإسكندرية راح ضحيته 24 شهيدًا وأكثر من 100 مصاب. كعادتها سارعت وزارة الداخلية المصرية بالتوعد بكشف الجناة وتقديمهم للمحاكمة، وكعادتها أيضًا اختارت واحدًا من المواطنين ليكون كبش فداء لفشلها عن أداء مهمتها، وكان الضحية شابًا سكندريًا اسمه سيد بلال. وفي الاحتفال الذي أقيم بمناسبة عيد الشرطة في 23 كانون الثاني/يناير أعلن العادلي مسؤولية تنظيم "جيش الإسلام" الفلسطيني عن التفجير.

حينها حذر البعض من خطورة استغلال الداخلية للجفاء بين مصر وحركة "حماس" لتقديم غزة ككبش فداء وترك المجرم الحقيقى دون مساءلة. وحينها أصدر عدد من الحركات السياسية بيانًا بعنوان "لا لاستخدام حادث كنيسة القديسين كرخصة للقمع"، مطالبين بمحاسبة المتسببين فى قتل سيد بلال على يد مباحث الإسكندرية بعد أن تم إلقاء القبض عليه هو وآخرين كثيرين على خلفية الحادث.

كما طالب البيان أيضًا بالإفراج عن 8 نشطاء أحالتهم النيابة لمحاكمة عاجلة على خلفية تضامنهم مع اعتصام كنيسة العذراء بشبرا وتحقيق مطالب الأقباط العادلة من الحق فى بناء الكنائس إلى إلغاء التمييز فى التعليم والوظائف وجميع شؤون الحياة العامة (وهي مطالبات لا تزال صالحة حتى وقتنا هذا).

كتيبة كبيرة ظهرت في الإعلام المصري عقب حادث انفجار الكنيسة يدافعون عن الأمن والقائمين عليه، دفاعًا عن الفشل السابق والقادم والمطلق

 كان هذا في بداية 2011، بعد انتخابات برلمانية مزورة، بل الأسوأ من حيث سفالة التزوير، وقبل بدء العمل بقانون الإرهاب، الذي كان أعدّه ترزية مبارك لاستبدال قانون الطوارئ، والذي لم يعد كافيًا لإحكام السيطرة على المجال العام وتمهيد الطريق للوريث جمال مبارك.

 بعد تنحي حسني مبارك عن الحكم في شباط/فبراير2011، ظهر هذا الخبر على موقع جريدة "اليوم السابع" في آذار/مارس، وفي متن الخبر تقول "اليوم السابع" إنها حصلت على مستندات تفيد بتورّط وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلى في تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية، وتنفيذه مخططًا للقيادة السياسية حول بحث إمكانية تكتيف الأقباط وإخماد احتجاجاتهم المتتالية وتهدئة نبرة البابا شنودة فى خطابه مع النظام (لحسن الحظ أن هذا الخبر لا يزال موجودًا).

وفي أيار/مايو من العام ذاته، تقدّم جوزيف ملاك فؤاد، مدير المركز المصري للدراسات الإنمائية وحقوق الإنسان، ونادر مرقص بطرس، عضو المجلس الملي بالكنيسة المرقسية، وكميل صديق ساويرس، سكرتير المجلس الملى بالكنيسة المرقسية، ببلاغ للنائب العام ضد وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي للمطالبة بفتح باب التحقيق في تفجير "كنيسة القديسين" بالإسكندرية.

حمّل البلاغ العادلي المسؤولية الجنائية للحادث، واتهمه بالتواطؤ في الفعل، والتسبب في الاختراق الأمني الذي حدث ونتجت عنه هذه الأضرار الجسيمة، وكذلك التحقيق معه فيما لديه من معلومات بشأن الواقعة والجهة المسؤولة والتحريات التى توصل إليها والتي أعلن عنها من قبل.

اقرأ/ي أيضًا: تاريخ الكنيسة والرئاسة المصرية: التاج والسلطان

وأكد مقدمو البلاغ، أنهم طالبوا بذلك بعد قيام نيابة الإسكندرية بحفظ التحقيقات والإفراج عن المتهمين الذين تم القبض عليهم دون التحقيق معهم، مشيرين إلى أنه كانت هناك معلومات حول تهديدات باستهداف الكنائس المصرية عقب استهداف كنيسة "سيدة النجاة" ببغداد.

منذ تشرين الثاني/نوفمير 2011 لم يظهر أي جديد بشأن هذا التحقيق، كأن الأرض ابتلعته أو كأن التفجير لم يكن.

3

عشية الاحتفال بذكرى المولد النبوي، استيقظ المصريون على خبر تفجير جديد وضحايا جدد. التفجير هذه المرة يستهدف رمزًا أساسيًا لدى الكنيسة المصرية هو الكاتدرائية المرقسية في القاهرة، في وقت يجد النظام المصري الحاكم نفسه في حالة ضعف كبيرة، بشهادة رجاله قبل خصومه، ويبدو أن مهمة كتيبة الخبراء والمعلّقين الذين أطلقتهم علينا القنوات الفضائية الموالية للنظام هو ترديد الجمل الجاهزة والمحفوظة عن الوحدة الوطنية وتلاحم قوى الشعب والتصدي للمؤامرات التي تستهدف مصر.

كتيبة كبيرة ومتنوعة يبدو اهتمامها الأساسي متمثلًا في الدفاع عن منظومة الأمن والقائمين عليها، دفاعًا عن الفشل السابق والفشل القادم والفشل المطلق. لا أحد يأتي على ذكر أي سابقة تم فيها القصاص للضحايا الذين سقطوا، بل الأولى هو التأكيد على أن "مصر مستهدفة" وأن "فيه مؤامرة عالمية علينا" وإن "الجيش والشرطة والشعب إيد واحدة". لا حديث عن التواطؤ الأمني والمجتمعي على فئات بعينها (ربما يتصادف أن تكون هذه الفئة المسيحيين أو البهائيين أو الشيعة أو الملحدين أو المثليين)، ولا حديث عن استشراء الخطاب الطائفي والتحريض على العنف المدعوم رسميًا. حالة من التبرير الوقح والاعتذار المرتبك تكشف عن تعدد الجناة رغم ثبات الضحية.

واقع الأحوال في مصر يقول أنه لا خير يُرتجى من هذا النظام الذي يبدو فاقدًا للقدرة على إحداث أي تغيير في الاتجاه الصحيح

25 مسيحيًا أغلبهم من النساء والأطفال راحوا ضحية التفجير الإرهابي صباح الأحد، في وقت إقامة القدّاس. ما الذي سيمثله ذلك التفصيل مع نسبة كبيرة من المصريين تؤمن إيمانًا قاطعًا بأن كل من هو على غير مذهبهم سيذهب إلى النار؟ ما الذي يمثّله هذا الرقم في طابور الضحايا الطويل الذي يتساقط يوميًا على الأرض المصرية وبصور مختلفة؟ ما الذي ينتظره المرء من التلفزيون المصري الرسمي (وأفراده الموزّعين على الفضائيات) الذي حرّض على قتل المسيحيين المعتصمين أمام مبناه "ماسبيرو" في 2011، بحجة الدفاع عن الجيش الوطني؟

قبل عام من الآن وفي ذكرى المولد النبوي أيضًا، خرج الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مؤكدًا على ضرورة تطوير الخطاب الديني، ولكن واقع الأحوال يقول أنه لا خير يُرتجى من هذا النظام الذي يبدو فاقدًا للقدرة على إحداث أي تغيير في الاتجاه الصحيح. هو لا يعرف سوى العقلية الأمنية ولا يؤمن بغيرها، والمصيبة إنها عقلية متخلفة لا تزال تعيش في عصر سابق يعتمد على أساليب التعذيب والترهيب وتلفيق القضايا وتكرار التأكيد على إن "كُلّه تمام يا ريّس".

في منطق هذه العقلية الأمنية، تكون الوقاية من العمليات الإرهابية بتحويل كل المواطنين إلى مخبرين ومرشدين للشرطة. "أي حد يلاقي حد اتغيّر فجأة وربّى دقنه، يروح يبلّغ عنه الشرطة على طول"، هكذا يقدّم أحد لواءات الشرطة حلّه العبقري لمواجهة الإرهاب أثناء مداخلته المطوّلة على إحدى الفضائيات العربية. ما أجمل العقليات وما أبهى الحلول.

اقرأ/ي أيضًا: العنف الطائفي في مصر.. تاريخ متجدد من الاشتعال

في الحقيقة، لقد حاولت الثبات والتمسك من أجل الاستمرار في الاستماع إلى سيادة اللواء الذي يعمل محاضرًا في أكاديمية الشرطة المصرية، والذي لم يتوانَ عن التأكيد مرة وراء الأخرى عن تفوق الإرهابيين على الأجهزة الأمنية مؤكدًا على ضرورة زيادة المخصصات المعتمدة لوزارة الداخلية من أجل تزويد أفراد الشرطة بأحدث أجهزة الكشف عن المتفجرات (تفجير الكاتدرائية تم بواسطة عبوة ناسفة تزن حوالي 20 كيلو جرامًا)، ثم يستطرد الرجل في ذكر نسب مئوية فارغة لا تثبت أي شيء على الإطلاق سوى تفكيره المتخلّف الذي لا يرى أبعد مما تحت قدميه.

ما أعرفه أن أكثر من 100 مسيحي قُتل قبل 5 سنوات تحت مبنى التلفزيون المصري ولم يكلّف أحد خاطره بالتحقيق في تلك الجريمة حتى الآن

وأين المسيحيون من كل هذا يا سادة؟ المسيحيون المنبوذون، المسيحيون الأهداف السهلة، المسيحيون الضحايا المجانيين؟. ما أعرفه أن أكثر من 100 مسيحي قُتل غدرًا قبل 5 سنوات تحت مبنى التلفزيون المصري ولم يكلّف أحد خاطره بالتحقيق في تلك الجريمة حتى الآن. ما أعرفه أن قوات الأمن التي يفترض بها حماية وتأمين الكنائس تقوم بالأساس بمراقبتها ومضايقة المصلين، فضلًا عن تحرش بعض أفرادها بالسيدات الشابات منهم. ما أعرفه أيضًا أن أفراد وزراة الداخلية تركوا الكنائس وحيدة حين هاجمها متطرفون عقب فض اعتصام رابعة، رغم أن بعضها مجاورة لمديريات الأمن. ما أعرفه أن هناك حالة من التحقير والتقليل من قيمة المسيحي يقوم على رعايتها تمييز ديني وخطاب رسمي يُلاقى هوى لدى قطاع كبير من المصريين.

ما أعرفه أن المسيحيين يتم التعامل معهم كمشكلة كان أفضل ألا توجد، أما وجودهم فمشكلة تالية يحاول جميع الطائفيين، من مواطنين ومسؤولين، البحث عن "تصريفة" للتخلّص منهم (ألم يكن أنور السادات هو من فكّر في تهجير مسيحيي شمال مصر ونقلهم إلى الصعيد؟ وهو أيضًا الذي أفضى برغبته في إخلاء مصر من المسيحيين بغضون 15 عامًا، إما بإرغامهم على الهجرة أو باعتناقهم الإسلام؟)

لا يستو أي حديث عن المشكلة الطائفية في مصر من دون مطالعة التاريخ القريب للبلد الذي شهد مجازر بحق الأقليات، سنطالعها في أزمنة أقل ظلمًا لنبكي بصوتٍ مسموع على الفرص الضائعة، أو غض النظر عن أحوال جيراننا العرب ممن تعاملوا مع الزخم الثقافي والتنوع الحضاري كابتلاء وشرّ لا بد منه. ولا يستقيم كذلك حديث المكايدة الذي يحترفه ملوك الطوائف وجنودها ممن يحتكرون التصدي للأزمات الطائفية المتكررة.

ولا أمل، أدنى أمل، في دولة عادلة تحفظ حقوق مواطنيها ما لم تتغيّر العقلية التي تدير هذا البلد.

4

من هتافات المتظاهرين أمام الكاتدرائية المرقسية بالعباسية:

 "الشعب يريد إسقاط النظام"

"سيسي بيه يا سيسي بيه: الكنيسة اتضربت ليه؟"

"يا وزير الداخلية، إحنا بنرفض الهدية"

اقرأ/ي أيضًا:
بابا الشعب أم بابا الأنظمة؟!
 مذبحة ماسبيرو.. من يحمي الجيش من بطش الأقباط؟