28-يونيو-2016

متظاهرة عراقية في بغداد (الأناضول)

عندما كانت تدق أجراس الفسحة، حين كنا صغارًا في أولى سنين الدراسة، كنا نهرول إلى الباحة، ننطلق بحماس لنملأ ذلك المدى الخالي أمامنا، مبتهجين أحرارًا في انسجام تام. لم نكن ندري وقتها أنه سيتم تقسيمنا فيما بعد على أسس مسيحي، وسني، وشيعي، وإسماعيلي، ودرزي، ويزيدي، وبهائي.. إلخ. 

يبسط تنظيم داعش نفوذه بالسلاح والموارد والإعلام، أما الدواعش غير المسلحة فتبسط سلطتها بالكلام والترهيب المعنوي

أمضينا سنوات معًا لا ينغص أنس جمعنا شيء، إلى أن شاءت الظروف اللعينة أن تشرخ تلك الروح الواحدة بأول حصة دين ألقاها علينا مدرسنا الداعشي، قبل ظهور تنظيم داعش بعقود.

اقرأ/ي أيضًا: بريطانيا العظمى بين الخيال والحقيقة

لن أتحدث عن داعش بماهو تنظيم مسلح محدود، ولكن كعقلية سائدة نتعامل معها يوميًا في كل مكان. الإجرام الذي يمارسه تنظيم داعش تجاه الآخر في العلن، يبطنه الكثيرون حولنا منذ زمن لكن دون إراقة دماء، أو لفت انتباه، وإن اجتمعوا في التأثير الفادح القتامة على المجتمع.

يبسط تنظيم داعش نفوذه بالسلاح والموارد والإعلام، أما الدواعش غير المسلحة فتبسط سلطتها بالكلام والضغط والترهيب المعنوي. تتم مواجهة تنظيم داعش الآن في معاقله بالحديد والنار، لكن من يحد من نفوذ الدواعش غير المسلحة وهي الأخطر والأكثر تغلغلًا في جميع مناحي حياتنا؟

آن الآوان لنواجه هذا الفكر من بداياته الأولى، من المدرسة. لا يخفى على أحد أن حصة الدين بما هي عليه الآن لا تؤدي إلى فرقة المجتمع والاقتتال الطائفي وحسب، بل أيضًا تؤدي إلى الشلل المعرفي والإبداعي، وتسلط التخلف على إمكانية نمو العقل المستنير الحر من أسر الماضي. كم من طالب وباحث ومفكر عربي قيدت حركته الأكاديمية هذه الذهنية الطائفية الأصولية الراكدة؟ كيف لنا أن نتعايش سويًا كمجتمع بدون نفاق، وكل فرقة مذهبية تظن أن الأخرى ذاهبة إلى الجحيم، ثم نقول على أنفسنا أننا "نسيج مجتمعي واحد"؟!

لا بد من إعادة منهجة حصة الدين في الوطن العربي لكي تستوعب وتُدرس جميع الأديان والمذاهب، بحيث لا تقتصر على هوية الطالب على الطائفة التي ولد عليها. إن كان مسيحيًا، على سبيل المثال، فيُعزل عن أصدقائه المسلمين في صفٍ منفصل كما هو الحال في الكثير من البلاد العربية. وكل مدرس دين يرتل على طائفته مقدساته المتوارثة على أنها "كلام الله الأوحد وما سواها كفر وتحريف"، ملمحًا بخبث إلى الزملاء في الصف الآخر! لماذا لا يَدرُس، في مادة الدين، الطالب المسلم مع زميله المسيحي القرآن والإنجيل والهندوسية والبوذية والأساطير، ثم يتعمق فيما بعد بالفلسفة والتصوف والميتافيزيقيا، إذا أراد، في دراسات عليا، كل في منهج واحد وقاعة واحدة تجمع كل الطلبة من مختلف الطوائف كبقية المواد المقررة من لغة وأدب ورياضيات.. إلخ؟

لماذا أيضًا يتم تدريس نصوص الأساطير القديمة في حصة الأدب، بينما تُدَرَس نصوص الأديان السماوية في حصة دين منفردة، رغم أن معاصري تلك الأساطير كانوا يعتقدون أنها "سماوية" أيضًا، أليس من المحتمل أن نكون مثلهم، كل منا يغني على ليلاه دون أي سبب موضوعي؟ فلندرس كل تلك النصوص المقدسة، إذن، إما في حصة أدب واحدة، أو حصة دين واحدة، بدلًا من أن تتم التفرقة في مادة الدين بالذات، وكأن لنا أربابًا مختلفة لكل منها معبدها الخاص.

ربما الأمر كذلك فعلًا، واحبذاه بالتعددية، لكن ما دام من الممكن أن تثري وجودنا بالعلمانية ولا تفنيه بالأصولية المذهبية. من شيزوفرنية مناهج المدرسة هذه يبدأ تقسيم الوطن العربي إلى تكتلات وكانتونات طائفية من قبل نشوب الحروب الأهلية أو التدخلات الاستعمارية التي دائمًا ما نتحجج بها كعلة تقسيمنا وتخلفنا الوحيدة.

من شيزوفرنية مناهج المدرسة، بدأ تقسيم الوطن العربي إلى تكتلات وكانتونات طائفية 

لا بد أيضًا أن تتم إعادة قراءة وتدريس هذا التراث الديني العريق، ولعل هذه هي النقطة الأهم، بمنهج بحثي أدبي تاريخي إنسانوي محايد، لا يفضل دينٍ على دين كما لا يفضل شعر أو رواية أو فلسفة على أخرى، وليس بمنهج يقيني تبشيري لاهوتي قطعي كما هو سائد الآن في كل مذهب.

فلنبتعد عن إضفاء صفة الحقائق المطلقة على ثقافاتنا الإنسانية مهما بلغت من سمو. فلنبتعد عن أسلوب قندهار والسعودية وإيران. من يعتقد أنه يمتلك الحقيقة المطلقة النهائية في كتاب بين يديه سيكف عن البحث عنها، الضمور العقلي والتخلف سيكون النتيجة مهما قعدت تزيد وتعيد في ترتيل نصك المقدس. الكل أصبح يعي الآن أنه بالبحث والاطلاع والجدل وطرح الأسئلة ينمو الذهن وتزداد المعرفة، وليس بتلقين المسلمات العمياء جيل وراء جيل لآلاف السنين.

اقرأ/ي أيضًا: الربيع الأوروبي.. بداية لتفكيك القارة العجوز

منذ قرون والعالم يتقدم ونحن لم نبرح مكاننا لأننا حصرنا وجودنا في ذلك القالب النهائي المتعالي على الكل، الذي نسميه مجازًا "سماويًا". هل هناك فرق نوعي بين "النظرية الإنسانية" في ثقافة الغرب، و"الوحي الإلهي" في ثقافة الشرق؟ هل هناك فرق بين نظريات أفلاطون وفيثاغورس ونبوؤات إشعيا وزرادشت سوى بالمسميات؟ أليس إنتاج كلاهما ينبع من العقل؟ ربما سيتاح لنا ذات يوم طرح نقاش حول تلك الأسئلة في مناخٍ حر يتسع لها، لكن ما هو مؤكد أن تاريخ الفكر دائمًا ما يحطم القوالب التي يوضع بها، مهما حاول رجل الدين ورجل الدولة ورب الأسرة أن يكرس ذلك الوضع القائم ويسبغ على الوضعي صفة السرمدي.

عندنا فقط، للأسف، ما زال يكتسح كل من يتستر بعباءة الدين صناديق الاقتراع بسبب هذا المفهوم؛ إن ديننا وحده هو الحق المنزل والباقي "بدع" نظرية من نتاج البشرية الدنية؟! يا أخي إما كله الله أو كله الإنسان، لكن تلك التفرقة بين بضاعتهم وبضاعتنا أراها أكبر شرك وتكبر!

لقد بددت مآسي الثورات العربية وهم ذلك "النسيج المجتمعي الواحد" السطحي، لتظهر الفاشية المذهبية التي كانت تعتمل في نفوسنا منذ قرون. أي ثورة لا تثور على الماضي ستقع فيه. رأينا ذلك السقوط السريع في سوريا والبحرين ومصر وليبيا وتونس واليمن، والحبل على الجرار إذا لم نتغير. ما إن رفع الناس هتاف الحرية والمدنية والعدالة الاجتماعية، حتى خرجت علينا أشباح الماضي مذعورةً لاهثةً بعودة الخلافة الإسلامية، أو عودة البوط العسكري فوق الرؤوس، فحل الخريف ولم يحل عنا حتى الآن.

إلى متى سيظل الكثيرون منا، بسبب التنشئة الأسرية والتعليم، يخافون من احتمال الحرية أكثر من استبداد الدكتاتورية العسكرية والدكتاتورية السماوية؟!

اقرأ/ي أيضًا:

على الإمبراطورية اللاتينية أن تثأر

حسن الذي أساءَ فهمَ الصخرة