14-أكتوبر-2020

متظاهر في بيروت يوم 12 أيلول/سبتمبر 2020 (سام تارلينغ/Getty)

من النادر أن شهد التاريخ لعبة امتدت عقودًا دون انقطاع كالحالة التي تسمى لبنان. منذ حوالي نصف قرن والأمور تكرر نفسها. الوطن هو ميدان اللعبة، اللاعبون أنفسهم، منهم الأساسي ومنهم الاحتياطي. الجمهور موجود وهو الذي يدفع الثمن دائمًا، المدربون أجانب، الخطط والتكتيكات هي هي،لا تتغير. تتخذ اللعبة أحيانًا طابع الخشونة، وأحيانًا يذهب اللاعبون "طوعًا" للمهادنة طمعًا في مكاسب أكبر.

تستمر حفلة النشاز السياسي المتكرر في لبنان في ظل انهيار اقتصادي اجتماعي سيقضي على ما تبقى من أنقاض المجتمع 

إلا أن اللعبة، بتكرارها أصبحت مملة، مستفزّة ومنفّرة للجميع ورغم ذلك لا خيار للجمهور سوى الخروج من الميدان بلا عودة، فالتغيير مستحيل. ها نحن عشية الذكرى الأولى لانتفاضة 17 تشرين، وهي الحركة  الأضخم والأكثر جدية للتغيير في تاريخ اللعبة فكيف هو الواقع السياسي اليوم؟

اقرأ/ي أيضًا: ثورة على الثورة في لبنان

حكومة وحدة وطنية برئاسة سعد الحريري مدعومًا من الثنائي الشيعي ومباركًا من التيار الوطني الحر. اللاعبان الأساسيان الباقيان هما سمير جعجع ووليد جنبلاط، وهذان أيضًا كما هما، يتحينان الفرص وينتظران للتموضع في أكثر مكان يحقق لهما مصلحتهما، وفي النهاية سيستمران في اللعب مع البقية، فهم جميعًا أصبحوا كالقدر علينا، ولا سبيل إلى تغيير القدر!. سيستمرون جميعًا، ورغم اتفاقهم ستتكرر بعض المصطلحات كعقدة الوزارة الدرزية، الميثاقية، احترام الدستور والطائف، أزمة السني الثالث، معضلة حقيبة المالية وتمسك الثنائي الشيعي، تكنوسياسية، حكومة اختصاصيين مطعمة بسياسيين الخ من النشاز السياسي المتكرر ونحن في ظل انهيار اقتصادي اجتماعي سيقضي على ما تبقى من أنقاض هذا المجتمع. 

التغيير الوحيد الملحوظ في قواعد اللعبة المستمرة هو سلوك اللاعبين الأساسيين في التعاطي وكيفية إدارة أزمة الثقة بينهم وبين جمهورهم. الزعماء الذين كانوا أنصاف آلهة، أصبحوا اليوم عاجزين عن تكرار الخطاب الذين تبنوه في الأعوام الأخيرة. فاليوم، هم الزعماء الأساسي هو كيفية الحفاظ على ما تبقى لديهم من إرث جماهيري ومحاولة استعادة الثقة العمياء كل عند بيئته الوفية. وقد ظهر ذلك جليًا من خلال خطابات الزعماء في الفترة الأخيرة من الأقوى فيهم حتى أضعفهم. خطابات السيد حسن نصرالله وتغير اللهجة من خطاب لخطاب، من التهديد إلى لن نجوع، وسنزرع، إلى الفئة المخاطبة في كلماته عندما تحدث عن الضرائب والخوف على ظهر المقاومة الخ.

يقف لبنان أمام دعوة علنية إلى تحويل المواطنين لبهائم تأكل وتعمل وتنام وتُجلد بالسوط إذا ما حاولت التمرد

جنبلاط وخطابه الموجه لبيئته وطائفته حصرًا، تعامل القوات الطائفي مع حادثة انفجار المرفأ وتمرير رسائل انعزالية في خطاب قداس الشهداء في 6 أيلول/سبتمبر الماضي. ذوبان الرئيس بري التام مع خيارات حزب الله خوفًا من أن يقضم الحليف المزيد من جمهوره وحيثيته الشعبية، وعودة سعد للحريري للتوجه الأكثر حدة في التعامل مع الخصوم، تماشيًا مع ما تريده السعودية والذي كلفه خلافه معها الكثير من قوته الشعبية في أوساط الطائفة السنية.

اقرأ/ي أيضًا: تأميم المصارف في لبنان: بين النظرية والتطبيق

إذًا اللاعب الأمهر الآن هو الذي يحافظ على شعبيته بالرغم من التحديات والصعوبات التي يخلقها الانهيار الاقتصادي والاجتماعي المخيم على لبنان. ولعل التحدي الأكبر يكمن في فقدان الوظائف والمحاصصات الإدارية لبريقها. انهيار العملة الوطنية جعل من الوظائف العامة، التي شكلت "الفيول" الأساسي لعجلة حكم الزعماء، عنصرًا غير جاذبٍ للمواطنين للانخراط في الأحزاب وتجديد البيعة للحاكم. من كان يدفع 50 ألف دولار كي يمرر الزعيم اسمه في دورة الضباط، لن يطمح لأن يكون ضابطًا براتب لا تتعدى قيمته 300 دولار. 

يبحث الزعيم الآن عن بدائل، كإيهام المواطن بالمخاطر الأمنية والحرب وبأن الطائفة وزعيمها وحدهما يمتلكان القدرة على حمايته. ذلك بالتوازي مع تعميم ثقافة الـ"كرتونة"، أي الإعاشة، التي ستحمي المواطنين من الجوع في دعوة علنية إلى تحويل المواطنين لبهائم تأكل وتعمل وتنام وتُجلد بالسوط إذا ما حاولت التمرد.

إزاء هذا الواقع المرير، تكون الهجرة هي الملاذ الأخير لكل من يرفض أن يغيّب عقله وإنسانيته في الحظيرة اللبنانية. فاللعبة مستمرة، طالما أن لا حكم لها يعلن صافرة النهاية، بل وحوشٌ لا تكتفي ولا تشبع. وطالما أن حلول الأرض قد انتهت وأُعلن فشلها، يكون حل السماء، وهو الموت، الوحيد القادر على النيل من عناصر لعبة القتل التي لا تتوقف.

 

اقرأ/ي أيضًا:

انتفاضة لبنان.. والطريق نحو التأسيس لتاريخ "لبناني" نظيف

صناديق الإعاشة للانتقام من الانتفاضة اللبنانية