1. قول

فوق ركام مرفأ بيروت

5 أغسطس 2020
مشهد لمكان الانفجار في بيروت (أ.ف.ب)
أحمد محسن أحمد محسن

انظروا جيدًا، الآن، وفي عرض البحر، هذه مدينتكم، تغرق. هل تعرفون هذا المرفأ؟ هل رأيتم هذه المدينة من قبل؟ هل كنتم تحبّونها ذات يوم؟ هل تلألأت أضواء الشارع في عيونكم ليلًا فرسم ذلك ابتسامة على وجوهكم، أم أنكم ترونه الآن هكذا للمرة الأولى، يتفحم على عجل لكي يصل إلى خلاصه؟ هل هذه نهاية العالم أم أننا لا نزال في البداية؟ أي كلام يمكنه أن يحافظ على المعنى أمام هذا الموت الكثير؟

من ذلك الرحم الذي هو المرفأ، خرجت المدينة قبل التاريخ. بيروت التي نلعنها لشدّة حبّنا لها، ولشدة ما تخيّب أملنا. انظروا جيدًا، الآن وفي عرض البحر، هذه مدينتكم تغرق

من الآن وصاعدًا لا مدينة. من ذلك الرحم الذي هو المرفأ، خرجت المدينة قبل التاريخ. بيروت التي نلعنها لشدّة حبّنا لها، ولشدة ما تخيّب أملنا. انظروا جيدًا، الآن وفي عرض البحر، هذه مدينتكم تغرق. ومعها سيغرق كل شيء. خطوات أقدامكم، النوافذ التي مددتم رؤوسكم منها نحو الأرصفة. هناك في كل زاويا من زوايا البحر، حيث ذرفتم دمعة على الأقل، والآن ستذرفون بحرًا. انظروا جيدًا، نحن لا نمشي في مدينتنا. نحن وأنتم نتجول في ظلام ثابت، لا يتراجع ولا يتقدم. نتجه نحوه ويتجه نحونا. نحدّق به ويحدق بنا.

اقرأ/ي أيضًا: "كأنها مدينة بلا سماء".. شهادات عن بيروت في لحظات الانفجار

كيف لا يكون هذا النص مرثية وهو عن موت كثير. عن قصة كانت مدينة. أي مدينة؟ الموت كثير هنا. ترنحت ترنحت. قلنا لأنفسنا من قبل هذا رقص، هذا وقت يعيد نفسه. حرب ستحدث فلتحدث. نخسر الحرب ونربح المدينة. ألا يعيد التاريخ نفسه في المرة الأولى كمأساة، وفي المرة الثانية كمهزلة؟ لقد عرفنا المأساة. جرّبناها، جرّبناها حتى صرنا المأساة، وصارت تجرّبنا. أليست البلاد مهزلة؟ يحكمها من يحكمها. أقوياء، أقوى منّا بكثير. يستطيعون إغراقها إن أرادوا ذلك ويمكنهم إحراقها أيضًا. سقطت المدينة أخيرًا.

نحن في النهاية جزء من هذا العالم الذي يختفي أمام أعيننا، ولا يسعنا فعل أي شيء لتغييره. نهاية العالم لا تبدأ من بيروت، هذه مبالغة. لكن العالم انتهى بالنسبة إليها وهذه ليست مبالغة. أدرنا ظهرنا للماضي بلا أي رغبة بالمستقبل. نحن عالقون في الحاضر. أدرنا ظهرنا للحاضر التائه فجاء من البحر، عصفًا وعاصفًا. ماتوا في المرفأ أثناء الدوام. العمال الذين صاروا صلبانًا. رجال الإطفاء الذين انطفأوا قبل أن يتسنى لهم إكمال بقية النهار. والجنود الذين ما انفكوا يمثلون دور القساة وماتوا مع بقية المارة في السادسة عصرًا. لم يموتوا مرتين أو ثلاثة، ماتوا مرة واحدة، دفعة واحدة، كما لو أنها حرب خاطفة. لكنهم خسروا كما خسروا في الحروب السابقة، وانتصر الذين ينتصرون. تحدث الأشياء ذاتها مرة كمأساة، ومرة كمهزلة، وفي المرتين كمقتلة.

في تفسير النخبة الحاكمة، فإن السكوت أثقل من الاجتهاد بكثير. يعرفهم اللبنانيون واحدًا واحدًا، صنمًا صنمًا. يعرفون من منهم لم يتجاوز حدود الهيكل، ومن منهم صار إلهًا، يستقوي بتخيّلات عن الجماعة وتخيّلات الجماعة عن نفسها، في مساحة جُمع فيها قلق الجماعات من بعضها، مثلما جمعت الأمونيا المتفجرة في الحاويات. هؤلاء جميعهم في بيوتهم التي كسر زجاجها، وكسر الانفجار قلوبهم، هم الضحايا وهم الجلادون. ضحايا آلهتهم وأصنامها. اللبنانيون الذين يبكون ونبكي معهم على البلاد، وهُم البلاد التي يحرقونها، ويحرقون أنفسهم. وهم المعترضون على كل شيء، والذين وافقوا أيضًا على المجزرة، وليس لديهم موقف كامل منها. هم ضحايا المجزرة وهم الذين ارتكبوها. الذين تفطر الصور قلوبهم وهم الجاهزون لتكرارها.

اقرأ/ي أيضًا: بعد انفجار بيروت وتعطل المرفأ.. مخاوف على الأمن الغذائي والصحي

ما الذي سيحدث الآن؟ سنستهلك الوقت، تمامًا مثلما ينتشر الهواء السام في السماء، وينتشر في الرئتين، مثلما استلقت جثث الضحايا في الشوارع، وهي تنتظر الخلاص. ستفتح المصارف أبوابها بعدما تأتي المساعدات. ستنهبنا كمأساة وكمهزلة. سيجتمع "الخليلين" مع عون، ويجتمع عون مع باسيل، وجنبلاط مع عون، وبري مع جنبلاط، وسيكتب الصحافيون المرتزقة ما حفظوه، وهكذا حتى يزال الزجاج من الطرقات، وتتلى الصلوات على الراحلين. لن يحاكم المذنبون، مسألة أيام، وسيعود كل شيء إلى ما كان عليه في انتظار انفجار جديد. هناك من سمح بحدوث الانفجار، ومن جاء به ربما من آخر الدنيا إلى بيروت. ربما نقيم احتفالًا كبيرًا في النهاية لإطلاق الوعود بالنهوض والصمود، ولكن هذه المرة لا يمكننا تجاهل الأمر. قد يقولون هذه المرة إنه لا مفر من تكريم جميع المساهمين، لذا على الأقل يجب أن يتخلل الحفل ‘علان الفائز بلقب بطل العالم، في الزعيق.

بالنسبة لكثيرين، يزور ماكرون لبنان كمخلّص. ليس ضروريًا أن توافق على مشاعر الآخرين حتى تعترف بوجودها. لكن ما يمكننا الاتفاق عليه هو أننا اللبنانيين، في النهاية، بحاجة إلى الخلاص، ولا شيء إلا الخلاص. نحن هنا وحدنا، فوق ركام المرفأ: البحر من أمامنا، والعدو من ورائنا.

 

كلمات مفتاحية
كوليج دو فرانس

"كوليج دو فرانس" إذ ينقلب على نفسه

أن يلغي "كوليج دو فرانس"، مؤتمرًا عن فلسطين مع المركز العربي للأبحاث تحت ضغط لوبيات يمينية وإسرائيلية، فهذا خبر يستحق التوقف

محمد عبد الكريم

هل تعرفون عازف بزق عربيًا اسمه محمد عبد الكريم؟

حلمتُ مرةً أن عازفًا سوريًا اسمه محمد عبد الكريم

ساذج نصار

في مديح امرأة فلسطينية قوية

اسمها ساذج نصّار (1900-1970)، وُلدت في الناصرة وماتت في دمشق، من أصول إيرانية، والدها بديع الدين بهائي كان مقيمًا في عكا

إيران
سياق متصل

المفاوضات النووية.. طهران تسعى لاتفاق سلمي مع واشنطن وسط خلاف على الشروط

تَصْدُر من طهران إشارات متباينة حول المفاوضات النووية

الصين قديمًا (شبكات تواصل اجتماعي)
نشرة ثقافية

اكتشاف قبر صيني عمره 5 آلاف عام يؤكد وجود مملكة ما قبل التاريخ

قبر صيني عمره 5 آلاف عام يؤكد وجود مملكة ما قبل التاريخ

قطاع غزة
سياق متصل

قطاع غزة مهدد بالتقسيم مع تعثّر الخطة الأميركية

حذّرت مصادر أوروبية متعددة، في حديثٍ لوكالة "رويترز"، من خطر تقسيم قطاع غزة مع تعثّر الخطة الأميركية

الانتخابات المصرية
سياق متصل

المرحلة الأولى من الانتخابات المصرية: انسحابات وشكاوى وسط هيمنة المال السياسي

لم تحمل المرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب المصري، التي جرت يومي 10 و11 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، جديدًا يُذكر في المشهد السياسي