06-نوفمبر-2019

إشكالية الدولة والطائفة والمنهج (ألترا صوت)

"في البداية لا بد من حملة تنظيف عامة في بيوت العناكب المنسوجة داخل البنى الطائفية والمذهبية المختلفة في البلاد لإزالة الأحكام المسبقة المضادة المتعلقة بماضي لبنان وماضي العرب".

  • المؤرخ اللبناني كمال الصليبي

غير آبهة بالماضي وبكتاباته وبرموزه التاريخية الطائفية، وبنظرة متفائلة شاخصة نحو المستقبل، ومحبطة من مختلف التيارات الفكرية والسياسية وناقمة على جميع الزعامات التقليدية، وبحناجر تهتف بإسقاط النظام الطائفي برمّته، غير قانعة بتنظيف البنى الطائفية من بيوت العناكب العالقة بها فقط، ومقدّمة بديل الدولة المدنية والأمة اللبنانية عوضًا عن دولة الطوائف الدينية، قامت انتفاضة اللبنانيين في السابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر الماضي بنزعة وطنية عابرة للانتماءات الطائفية والمذهبية والقومية ونابعة عن تجربة سياسية تاريخية مشؤومة للبنانيين، مبشّرة بوعي تاريخي جديد، ساعدت في إنضاجه الظروف الاقتصادية والسياسية المهترئة في البلاد التي لم يعد باستطاعة اللبنانيين تحمّلها، بعد أن أرجعتهم الطائفية السياسية -التي ساهمت في ترسيخها العديد من العوامل من بينها كتابات المؤرخين الطائفيين المحمّلة بالأيديولوجيا السياسية- الى عصر شبيه بالعصور الوسطى الأوروبية من حيث المصاعب والمعاناة بأشكالها المختلفة، بفعل برابرة السياسة وسياسات الفساد والمحاصصات الطائفية والدولة ذات نمط "الاستهلاك والاستبداد العربيين".

يحاول اللبنانيون اليوم هدم السرديات التاريخية الطائفية والقومية ومن بينها "الفينيقية" التي صاغها المؤرخون المؤدلجون سياسيًا

يحاول اللبنانيون اليوم هدم السرديات التاريخية الطائفية والقومية ومن بينها "الفينيقية" التي صاغها المؤرخون المؤدلجون سياسيًا من أجل دعم ظاهرة الدولة الحديثة، والتي لا يزال يستحضرها ويراهن عليها حتى في لحظات -اهتزاز أركان تلك الدولة وحسم مصير النظام الطائفي فيها- سياسيون لبنانيون محسوبون على تيار رئيس الجمهورية اللبناني الحالي (حتى اللحظة) الجنرال ميشال عون.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب التاريخ اللبناني.. بيت بطوائف كثيرة

لا يكتفي اللبنانيون بعملية الهدم تلك، بل يحاولون التأسيس -سياسيًا- لتاريخ لبناني نظيف، يؤرخ مجددًا للسلطة لكن ليس من باب الاحتفاء بالرموز السياسية للطوائف وأبطالها القوميين، ولكن من باب ازدرائهم واحتقارهم وتسجيل مواقفهم التاريخية المخزية تجاه وطنهم وأبناء وطنهم وطوائفهم نفسها. يحاول اللبنانيون التأريخ للواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي المتدهور خلال فترة حكم زعماء الطوائف وقادة ميليشيات الحرب الأهلية وسيطرتهم على الدولة ونهبهم مرافقها وإذلالهم شعبها. يحاولون التأسيس لتاريخ وطني غير مؤدلج سياسيًا، لا يكترث بالتأريخ لطائفة بعينها خلال انتفاضتها، وإنما يؤرخ للبنانيين كمجتمع واحد وكيد واحدة، وتحت هوية وطنية لبنانية موحِّدة.

في هذه المراجعة، نقوم باستعراض كتاب المؤرخ اللبناني الدكتور وجيه كوثراني؛ إشكالية الدولة والطائفة والمنهج في كتابات تاريخية لبنانية: من لبنان الملجأ إلى "بيوت العنكبوت" (1)، الذي يحاول من خلاله استعراض اتجاهات الكتابة التاريخية اللبنانية المعاصرة في كيفية تناولها التاريخ العثماني والأمير فخر الدين من خلال نصوص مختارة، محاولا كشف علاقتها بنشأة ما يسميها "الدولة المحدثة" منذ القرن العشرين، والتي قامت في ظل وضع سكاني واجتماعي قائم على التعددية الدينية والمذهبية.

الحمولات الأيديولوجية السياسية والموقف من التاريخ العثماني

بقدر ما اتخذت الكتابة التاريخية العربية المعاصرة المسالك التقنية الأكاديمية من حيث شكلها وأسلوب صياغتها وتوثيقها وتقديم هوامشها، إلا أنها من حيث المفاهيم التي تحويها وتسيّرها من الداخل كانت في معظمها حسب وجيه كوثراني نابعة في مضامينها من التيارات الفكرية السياسية الفاعلة في التاريخ العربي المعاصر، لا سيما التيارات القومية التي ظهرت بفعل عملية البحث عن الدولة خلال وبعد انهيار الدولة العثمانية، حيث برزت آنذاك مشاريع دول واتحادات، وبرامج وحدات وصراعات بين القوى الاجتماعية-السياسية والتي اختلفت فيما بينها على مستوى منظورها للأمة وللدولة، من حيث مضمون الأولى وحدود الثانية (2).

يعتقد كوثراني بأن اتجاهات الكتابة التاريخية العربية كانت متداخلة إلى حد كبير في تناولها العهد العثماني، قليل منها اعتمد على الوثائق والأصول، ومعظمها، وخصوصًا تلك التي تزامنت مع انهيار الدولة العثمانية وتأسيس دول المشرق العربي كانت محمّلة بقدر كبير من الأيديولوجيا السياسية، ومعبّرة عن نزعات قومية ذات طابع معاد للتاريخ العثماني، نابعة عن الواقع المستجد ومرحلة الانتقال من السيطرة التركية (التي تُصوَّر على أنها سبب الانحطاط في التاريخ العربي وسبب الاستبداد والتخلف في الحاضر) إلى السيطرة الغريية المباشرة، النزعات الناتجة أيضًا عن عدة عوامل من بينها تعددية التركيب السكاني والطائفي في المشرق العربي، والتجربة القاسية للنخبة المثقفة مع المركزية العثمانية وحركة التتريك (3).

تم إغفال التاريخ العثماني وإهماله والتصدي له من خلال البحث عن معالم فيه يتم من خلالها إدخال التاريخ العربي أثناء الحكم العثماني في مسار تاريخ القرون الوسطى الأوروبي

وبالتالي، فقد تم إغفال التاريخ العثماني وإهماله والتصدي له من خلال البحث عن معالم فيه يتم من خلالها إدخال التاريخ العربي أثناء الحكم العثماني في مسار تاريخ القرون الوسطى الأوروبي، أو من خلال معالجته على قاعدة تطور أنماط الإنتاج، باعتبار الدولة العثمانية دولة إقطاع، أو دولة ذات نمط إنتاج آسيوي واستبداد شرقي. وقد انعكست النزعة القومية لأيديولوجيا العروبة أو النزعة القطرية القومية (المصرية الفرعونية – السورية الآشورية – اللبنانية الفينيقية) في عدة نماذج من الكتابات التاريخية (4).

التاريخ الماروني "المستقطب"

تشكلت الدولة الحديثة كوجهة أيديولوجية وبنية مؤسسية وتشكّل معها جهد في الكتابة التاريخية "الافتراضية" التي تدعم ظاهرة الدولة الحديثة بأيديولوجيا تاريخية للكيان القومي، بحيث يتم انتقاؤها من فترة تاريخية تناسب طبيعة الدولة ووظيفتها ومصالح القوى الاجتماعية البارزة فيها، الجهد الذي يمكن ملاحظته حسب كوثراني من خلال الكتابات التاريخية اللبنانية-المارونية ومن بينها كتابات مؤرخين أمثال جواد بولس والأب هنري لامنس، التي ارتبطت بشكل من الأشكال بالحركة المطلبية السياسية التأسيسية خلال العقد الثاني من القرن العشرين بالتزامن مع مرحلة حسم مصير الدولة العثمانية، والتي يُنظر فيها الى الدولة اللبنانية الناشئة باعتبارها استمرارا لهوية قومية امتدت لآلاف السنين (5).

اقرأ/ي أيضًا: البقاء والهجرة والتهجير.. المركز العربي يفتتح مؤتمر المسيحيون العرب في المشرق

وقد شكّل النتاج التاريخي لتلك المرحلة محطة أولى في المسار الذي تم من خلاله تشكيل صورة تاريخية معينة للعهود الإسلامية، بما فيها العهد العثماني الذي توحدت الكتابات حول كونه استعمارًا ومرادفًا للمجازر والإبادة والنهب والدموية، والذي كُتب معظمه باللغة الفرنسية وبأقلام محلية وتحت أسماء أجنبية مستعارة أحيانًا، والذي شكل بدوره قطيعة نسبية عن الكتابات التاريخية المارونية-العربية التي قدّمها مؤرخون إخباريون في جبل لبنان، والتي أرّخوا من خلالها أخبار الملل والطوائف والأعيان والرهبان والمشايخ والفلاحين بين القرن السابع عشر والقرن التاسع عشر، وبأسلوب جمع الأخبار وراوية السيرة المماثلة لأسلوب الطبري والإخباريين في الحضارة الإسلامية، والتي وإن كانت بعيدة عن أسلوب الصوغ التاريخي الحديث، إلا أنها ابتعدت عن محمولات الأيديولوجيا السياسية السائدة في الدراسات التاريخية اللاحقة وهمّ التغلّب الطائفي فيها والتي تدور حول "الدولة المحدثة"، والتي ترجمت بشيء من الواقعية الأوضاع الاجتماعية السائدة في العهد العثماني (6).

يشير كوثراني الى أنه ثمة ما يسترعي الانتباه في معظم تلك الكتابات، وهو أن الهوية أو الانتماء القومي اللبناني أو السوري المعلن فيها استبعد التاريخ العربي والإسلامي بكل مراحله بما فيها المرحلة العثمانية، وأن الثابت فيها هو الأشكال القديمة في التاريخ لا سيما الفينيقية (7). وبأن التاريخ الوطني اللبناني اختُزل ليصبح تأريخًا للسلطة المحلية فقط ولتاريخ الأسرتين المعنية والشهابية ومواقف الأخيرة من بعض الباشوات العثمانيين، وبذلك تم طمس ديناميكية العصبيات العائلية وكل ما يتعلق بالتاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للفترة العثمانية بما فيها النظام السياسي القائم على "التولية" ونظام الأرض والجباية والدورة التجارية وحتى وظيفة "الملتزم" في "سستام" العلاقات القائم بين مراتب السلطات، إلى حدّ طمس تواريخ الطوائف والمناطق الأخرى التي ستشكل دولة لبنان الكبير، غير منطقة الجبل، أو إلحاقها بتاريخ الأخيرة باعتبارها الملجأ حسب فرضية هنري لامنس، وبذلك تتجسد علاقة الاستتباع ومحاولة تصوير الوحدة الوطنية، والتي تنشأ بين المركز والأطراف، أو بين مقاطعة الأمير ومركز الجباية، وبين المقاطعة المقطوعة له ومنطقة الالتزام، ما أحال بدوره إلى إفساح المجال للتأويل المفتوح والمطاطيّ لمشروع الأمير فخر الدين وإمكانية إلباسه صفات متعددة تتنوع مابين الخصوصية المذهبية لطائفة معينة، والصفة القومية اللبنانية أو السورية أو حتى العربية (8).

المؤرخ الدرزي: بين الخصوصية المذهبية اللبنانية و "الانتماء" القومي العربي

ينطلق بعض المؤرخين الدروز أمثال عباس أبو صالح وسامي مكارم في نصّهما من نظرة غير دقيقة لطبيعة السلطة وتشكّلها خلال الفترة العثمانية، فنظرتهم حسب كوثراني محمّلة بالأيديولوجيا وتقدّم نموذجًا متخيلًا للبطل الدرزي واللبناني والعربي في آن معًا، وتقدّم بإصرار تاريخًا افتراضيًا حول أسبقية ارتباط الدرزية باللبنانية وتأسيسها كيانًا سياسيًا وطنيًا مستقلًا عن السيطرة العثمانية على يد الأمير "الدرزي" فخر الدين، كمقابل لصورة تفرّد ارتباط المارونية باللبنانية وادعائها هذا الامتياز، بل تصرّ نظرتهم على إلباس سياسة فخر الدين لباسًا قوميًا عربيًا متأصلًا في جذور شخصية فخر الدين ونسبه، ووطنيًا وحدويًا (قائمًا بين الدروز والموارنة)، كعصبيات ممانعة، وكجبهة داخلية ضدّ الولاة العثمانيين الأتراك تتمثّل في "إمارة" تتماثل فيها اللبنانية والدرزية والعروبية أيضًا، فهي إمارة لبنانية وإمارة درزية في آن معًا، إمارة مجهولة الحدود الوطنية وغير معروفة المعالم الجغرافية لا السياسية منها ولا التاريخية (9).

المؤرخ المسلم السنيّ

يُسقط المؤرخ المسلم السني المديني المنحى العروبي نفسه على التاريخ العثماني. فمع قيام أزمة الصراع السياسي الداخلي (الطائفي) على السلطة في لبنان ونهوض الحركات العربية الوحدوية تبلورت صيغة "لبنان العربي"، وبرزت حركة معارضة إسلامية تتوحد على مطلب المشاركة السياسية (المطالبة بالمناصب والحقوق) بعد إعلان الحكومة يومئذ موقفها في إقامة وطن قومي مسيحي يولي وجهه قبلة الغرب معتزلًا العالم العربي (10). يشير كوثراني بناء على نصوص المؤرخ محمد بيهم إلى الازدواجية في نظرته تجاه صورة العهد العثماني وشخصياتها المحلية المُستحضرة في الذاكرة التاريخية، فالصوغ السياسي لفترة الصراع تلك كان له أثر واضح على صوغ بيهم التاريخي، حيث تمثلت تلك الازدواجية من خلال اعتباره الدولة العثمانية تارة دولة المسلمين (خلال مرحلة قوتها وتوحيدها العالم الإسلامي) وتارة سلطنة تحاول طمس النزعات القومية (خلال مرحلة ضعفها وتفككها وتحولها إلى دولة استبدادية عنصرية) (11).

لم يدخل مؤرخو الطائفة الإسلامية الشيعية (كما فعل فعل المؤرخون الموارنة والدروز والسنة) سباق اكتساب الأحقية التاريخية في الانتساب إلى المشروع المؤسس للكيان الوطني للدولة الجديدة

وكغيره من المؤرخين الموارنة والدروز الذين تناولهم كوثراني والذين انهمكوا في البحث عن بطلهم القومي في الفترة العثمانية، والذي سيساعدهم في صوغ أيديولوجية الاستقلال عن الأتراك، يدخل بيهم حلبة التنافس على ادعاء الانتساب المذهبي للأمير فخر الدين، إلا أن بيهم يواجه العقبات في إثبات سنيّة الأمير عبر تحالفاته وسلوكه السياسي، ولا يجد سوى مدخل مظاهر العبادة لدى الأمير من أجل التشديد على انتمائه لأهل السنة (12).

اقرأ/ي أيضًا: الازدواجية اللغوية والعلاقة بين الشفوية والكتابة التاريخية عند العرب

المؤرخ المسلم الشيعي

لم يدخل مؤرخو الطائفة الإسلامية الشيعية (كما فعل فعل المؤرخون الموارنة والدروز والسنة) سباق اكتساب الأحقية التاريخية في الانتساب إلى المشروع المؤسس للكيان الوطني للدولة الجديدة "المحدثة"، ولم يستحضروا التاريخ الشيعي والعاملي (جبل عامل) كصورة أيديولوجية من أجل تبرير الدولة القومية عبر البحث عن رموزها ومؤسساتها في التاريخ العثماني، وذلك يعود للتهميش الي عاناه جبل عامل والشيعة عمومًا خلال مرحلة الانتداب والاستقلال، والذي انعكس بدوره على الحؤول دون احتلالهم مناصب في الدولة تتيح لهم أو تدفع بهم نحو المشاركة في ذلك السباق، فالنص التاريخي الذي قدمه مؤرخو الشيعة عبر نماذجهم الأولى للتاريخ العاملي في لبنان (أمثال محسن الأمين ومحمد جابر آل صفا وعلي الزين) لم يحمل هم البحث عن شخصية محلية تعكس صورة البطل القومي المقاوم للأتراك العثمانيين أو العامل من أجل الاستقلال الوطني، كما فعل المؤرخون الموارنة والدروز والسنة حين استحضروا شخصية الأمير فخر الدين، بل تراوحت نصوصهم بين؛ إبراز دور الشيعة في التاريخ الإسلامي العام على الأصعدة الثقافية والدينية والعلمية على غرار ما فعل السيد محسن الأمين، ومحاولة التأكيد على الانتمائين العاملي والعروبي لشيعة لبنان كما عند محمد آل صفا، وأيضًا محاولة البحث عن التاريخ الضائع للشيعة بفعل مركزية تاريخ جبل لبنان أو محاولة كشف الزيف عنه عبر محاولات نقد الروايات والأخبار على قاعدة الجرح والتعديل وبعيدا عن تأثيرات الأيديولوجيا السياسية الحديثة على غرار ما قدّمه الشيخ علي الزين (13)، إلا أن سياق التاريخ لدى هؤلاء وعلى رأسهم الشيخ علي الزين، لم يستمر على نفس الخط والمنحى مع النخب الشيعية الجديدة، فمنذ السبعينيات تغيّر الأمر وجرى التأسيس التاريخي من أجل الإنخراط في المشروع السياسي (مشروع الدولة) من خلال البحث عن "بطل شيعي" ورموز نضالية جديدة ذات منحى وحدوي عروبي كأدهم خنجر وصادق حمزة، والذين تأرجحت عملية الانتماء لديهم بين اللبنانية والعامِلية والعروبة (14).

كمال الصليبي في تأريخه لبنان الحديث وصورة الأمير المعني

يُفرد كوثراني فصلًا أخيرًا في كتابه ليراجع نقديًا رؤية المؤرخ اللبناني كمال الصليبي، كتكريم له على محاولته التغريد خارج السرب الطائفي ولاعتقاده الصادق بأن نصحه للطوائف بتنظيف بيوتها من خيوط العناكب هي معالجة كافية لبناء دولة. وتستوقف كوثراني مسألتان مهمتان في مشروع الصليبي حول التاريخ اللبناني، الأولى، هي كيفية توّصل كمال الصليبي إلى استنتاجه (الإمبريقي) بأن مسألة الإمارة اللبنانية لم يكن لها ميزات تجعلها ذات خصوصيات مهّدت لنشأة الدولة اللبنانية الحديثة أو كانت نواة تاريخية مؤسسة لها، وبأن فخر الدين هو بطلها المؤسس، فلا وجود لتلك الخصوصيات والميزات حسب الصليبي. والمسـألة الثانية، هي مسـألة تصوّر الماضي في الحاضر، أو سؤال "كيف يتصوّر اللبنانيون ماضيهم" وهل يصلح تصورهم القائم على تصور الطوائف لماضيها كأساس لبناء لبنان جديد؟ بعبارة أخرى حاول كوثراني تناول محطتين من مشروع كمال الصليبي، المحطّة الإمبيريقية (التجريبية) التي أوصلته لرأيه القائل بأن الإمارة لم تكن سوى نظام التزام سنوي قابل للتجديد لجباية الضرائب للدولة العثمانية، والمحطة التوليفية التي أوصلته إلى شيء من المفهومية في قراءة الماضي وقراءة علاقته بالحاضر، ومحاولته تحرير الماضي من شوائب السياسة العالقة في ذكريات الطوائف اللبنانية، والتي عبّر عنها كمال "بنسيج العناكب في منازل اللبنانيين" (15)، باعتبار أن حملة تنظيف بيوت العناكب المنسوجة في البنى الطائفية والمذهبية (عبر نقد النظريات التي قدمتها الطوائف اللبنانية المختلفة) من شأنها أن تزيل كل الأحكام المسبقة والمضادة المرتبطة بتاريخ لبنان وتاريخ العرب، وبالتالي فلا يمكن حسب كمال تأسيس وطن "دولة" على تاريخ سياسي مخَتلف فيه (16).

يصوّب كوثراني نقده لمشروع الصليبي الذي يوجه من خلاله خطابهُ للبنانيين -كجماعة سياسية- داعيًا إياهم بأن يعرفوا بدقّة من هم وارتباطهم بالعالم المحيط بهم، ولماذا هم لبنانيون وكيف أصبحوا كذلك، ومذكرًا بأنهم لم يكونوا في الأساس سوى مجموعة من الطوائف المختلفة التي تصادف تواجدها في بقعة واحدة، وبأنهم إن لم يفعلوا ذلك فيسيتمرون في كونهم مجموعة من العشائر البدائية المتفرقة والمتنافرة. يركّز نقد كوثراني على المسكوت عنه في هذا المشروع، وهو شروط الحاضر التي يمكن من خلالها تصحيح الأحكام المسبقة من أجل الوصول إلى المعرفة العلمية الصحيحة والدقيقة التي يطالب بها كمال الصليبي اللبنانيين، بالإضافة إلى مسألة توجيه خطابه للبنانيين من غير تحديد صفتهم، فهل كان الصليبي يخاطب اللبنايين كطوائف، أم كأفراد، أم كمؤرخين متخصصين، يتساءل كوثراني (17). ليجيب نفسه بعد برهة بأنه إن كان المخاطُب هم المؤرخون المحترفون، فكيف للمؤرخين أن يصلوا إلى تلك المعرفة التي يود كمال تعميمها، وكيف توصّل إليها هو نفسه، ليصل كوثراني إلى نتيجة مفادها بأن الأهم هو ليس التوصل إلى حقائق متماثلة أو استخدام ذات المقاربات التاريخية للوصول إلى الحقائق (تجريبيًّا أم عبر المفاهيم والنظريات الاجتماعية والفلسفية المساعدة)، إنما المهم هو إدراك أن المقاربة التاريخية تظل محاولة معرفية نسبية، وأن الأهم من كل ذلك هو ألا يُوظّف التاريخ في الصراعات السياسية الداخلية الراهنة، وأن لا يتم خلط زمن بزمن والتأريخ للماضي بمصطلحات الحاضر وصوره ومفرداته، وأن لا يُتعامل مع الراهن بذاكرة الماضي ومخيالها (18).

حاول كوثراني تناول محطتين من مشروع كمال الصليبي، المحطّة التجريبية التي أوصلته لرأيه القائل بأن الإمارة لم تكن سوى نظام التزام سنوي قابل للتجديد لجباية الضرائب للدولة العثمانية، والمحطة التوليفية التي أوصلته إلى شيء من المفهومية في قراءة الماضي 

اقرأ/ي أيضًا: كتاب عزمي بشارة عن الطائفية.. تأصيل فريد في مختبر تاريخي حيّ

أما إن كان المخاطَب هم الطوائف كجماعات -كما يرجّح كوثراني-، فثمة إشكالية في ذلك وهي مزج كمال الصليبي بين الخصوصيات الدينية والمذهبية لتلك الطوائف بما هي جماعات والتطلعات السياسية لتلك الطوائف، وبالتالي فإن عملية "التنظيف" التي دعا إليها كمال الصليبي تقوم على معادلة ميثاقية عروبية غير مغالية في قوميتها الدمجية، تخفف من تمجيدها الخصوصية اللبنانية ذات الطابع الطائفي-المسيحي، فهي بذلك دعوة إلى توافقٍ تاريخي ميثاقي على نسق التوافق السياسي الميثاقي الذي نجح خلال فترة من تاريخ لبنان لكنه ما لبث إلا أن اهتز بسبب أخطاء تم ارتكابها. لكن كوثراني يعتقد بأن تلك النظرة التي تماثل بين التوافق السياسي والتوافق التاريخي وتجعل التاريخي منه شرطًا للسياسي، تغفل بعض الحقائق والمعطيات، أولها أهمية التفريق بين الطوائف بخصوصياتها الدينية والمذهبية وبين الطائفيات السياسية المتجسدة بالزعامات والاحزاب والمؤسسات والسياسات، ثانيا، أهمية التمييز بين الذاكرة التاريخية الجماعية التي تتسم بعفويتها وأسطوريتها وبخلطها للأزمة وقدرتها على التحريف الزمني، وبين المعرفة التاريخية العلمية المنفصلة نسبيا عن الذاكرة باعتبار تلك المعرفة جزءا من العقل التاريخي الناقد للذاكرة (19).

الخاتمة

حاول المؤرخ اللبناني وجيه كوثراني مراجعة اتجاهات الكتابة التاريخية اللبنانية المعاصرة وتصنيفها بشكل يبرز الفروقات بينها في مسألة نظرتها لصورة الشخصية الوطنية والعلاقات العربية-التركية خلال الفترة العثمانية، حيث كان عامل "المشروع السياسي" القائم بين الدولة والطائفة هو العامل المحدد لموقف المؤرخ اللبناني الطائفي (20). أما بالنسبة للمؤرخ كمال الصليبي المغرّد خارج سرب الطائفية، فكان سؤال السياسة في العلاقة الملتبسة بين الذاكرة والتاريخ، وبين الطائفة والطائفية، وبين الأسطورة والحقيقة صامتا في مشروعه.. وغائبًا أو مغيّبًا. فلا سؤال ولا جواب عن المسؤول عن التشويه والتجهيل، ولا المسؤول عن بناء بيوت العناكب وإدخالها إلى منازل اللبنانيين، فالتفكير التاريخي عند كمال الصليبي أفصح عن الرهان على التفريق بين التاريخ والسياسة، مقدّمًا نظافة التاريخ على نظافة السياسة أو جاعلًا نظافة التاريخ شرطًا لصحة السياسة وسلامتها، وبذلك يمكن القياس حسب كوثراني على هذا المنطق ليصبح تنظيف الماضي شرطًا لنظافة الحاضر! ولاستقامة أمر الدولة-الوطن، فمن الحكمة حسب كوثراني أن نطلب أولًا تنظيف السياسات (بالبرامج والخطط الحكيمة) وتنشأة المواطن المنفتح على جميع المعارف والثقافات، والمتفهم لذاكرة الطوائف وخصوصياتها الدينية، وعبر خلق بيئة علمية حاضنة ومحفّزة لإعادة النظر في التاريخ وإعادة قراءته والتنقيب فيه، عبر كشف الأقنعة الطائفية والأيديولوجية، وعبر علمنة السياسة وتمدينها، وليس كما دعا الصليبي من خلال تنظيف بيوت/تواريخ الطوائف، فالانطلاق من هذه النقطة هو دوران في حلقة مفرغة، فالذاكرة الجماعية للطوائف ذاكرة صنعتها الطائفيات السياسية من خلال إخبارييها ومؤرخيها ومؤسساتها وسياساتها (21).

 

الهوامش:

1-وجيه كوثراني، إشكالية الدولة والطائفة والمنهج في كتابات تاريخية لبنانية: من لبنان الملجأ الى "بيوت العنكبوت" (بيروت: المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات، 2014)، ص 12، 57.

2-كوثراني، ص 9.

3-المصدر نفسه، ص 10.

4-المصدر نفسه، ص 10-11.

5-المصدر نفسه، ص 13-14.

6-المصدر نفسه، ص14-18.

7-كوثراني، ص 18.

8-المصدر نفسه، ص 24، 25، 32.

9-المصدر نفسه، ص 33-39.

10-المصدر نفسه، ص 39-40.

11-المصدر نفسه، ص 40-41.

12-المصدر نفسه، ص 43-44.

13-كوثراني، ص 45-48، 54، 55.

14-المصدر نفسه، ص 58.

15-المصدر نفسه، ص 59-61.

16-المصدر نفسه، ص 68-69.

17-كوثراني، ص 69-70.

18-المصدر نفسه، ص 70، 76-77.

19-المصدر نفسه، ص 77-79.

20-المصدر نفسه، ص 57-58.