15-أغسطس-2019

تقوم السعودية بإخفاء وقمع المعارضين بشكل ممنهج (Getty)

يكشف هذا التقرير المترجم بتصرف عن مجلة "فانتي فير" النمط الممنهج من إخفاء واعتقال وقمع المعارضين السعوديين، على غرار ما حدث مع الصحفي جمال خاشقجي، الذي اغتيل في قنصلية بلاده في إسطنبول.


جلس الأمير خالد بن فرحان معنا (فريق مجلة فانتي فير) في دوزلدروف، وطلب لكل منّا كوب قهوة، بدا الأمير بلحيته القصيرة، وبدلته الرمادية مرتاحًا بالنسبة إلى رجلٍ مطلوب. وصَفَ لنا خوفه الدائم من الاختطاف، واحتياطاته عند خروجه، وكيف أن مسؤولين ألمان يتحققون من سلامته دوريًا. أثار الأمير الذي نادرًا ما يجري مقابلات مع صحفيين غربيين، غضبَ قادة المملكة لمطالباته بإصلاحات في مجال حقوق الإنسان، وتلك شكوى غير عادية بالنسبة إلى أميرٍ سعوديّ، كما تحدث صراحة عن رغبته في إنشاء حركة سياسية قد تؤدي تدريجيًا إلى تثبيت زعيم للمعارضة، ثم الانقلاب على السلالة الحاكمة للمملكة.

حدثنا الأمير عن قصته فور جلوسنا، بدت قصته للوهلة الأولى غير مؤذية، لكن في يونيو عام 2018 اتصلت به والدته التي تعيش في مصر، وأخبرته بما رأته خبرا سارًا، ذلك أن السفارة السعودية في القاهرة تواصلت معها وأطلعتها برغبة المملكة في إصلاح علاقاتها مع الأمير واستعدادها عرض 5.5 مليون دولار عليه كبادرة حسن نية، ولأن الأمير كان في ضائقة مالية، رحبت والدته بتلك الفرصة، ورغم جاذبية العرض فلم يأخذه على محمل الجدّ أبدًا، وعندما تابع الأمر مع مسؤولين سعوديين أدرك انطواء تلك الصفقة على خطورة ما، إذ أخبروه عن عدم قدرته الحصول على المبلغ إلا لو حضر بنفسه إلى السفارة أو القنصلية السعودية، مما أثار شكوكه، فرفض العرض. وبعد فترة، رأى الأمير خبرًا صادمًا، أي تعذيب وقتل جمال خاشقجي على أيدي فريق اغتيال سعوديّ بعد ذهابه إلى القنصلية السعودية في اسطنبول، وربما قُطِع جسده لاحقًا، ونقل ما تبقى منه بعيدًا، ومع إدانة الكثير من الدول حول العالم للاغتيال إلا أن ترامب، وكوشنر، وآخرين يعملون في إدارة ترامب ما زالوا على علاقة وثيقة مع القيادة السعودية.

اقرأ/ي أيضًا: رواية السعودية عن مقتل خاشقجي.. خيال غير علمي!

كان ماهر عبد العزيز مطرب أحد المتواجدين في القنصلية في اليوم الذي قُتل فيه خاشقجي، وهو أحد المقربين من محمد بن سلمان ووفقًا للأخبار قام مطرب بعدة مكالمات أثناء تلك العملية، ربما كانت مع سعود القحطاني أو ابن سلمان نفسه، الذي تحدث عنه ربيع هذا العام في تقرير صادر عن الأمم المتحدة، كـ"دليل قوي" على تورط بن سلمان "بالإعدام المتعمد" لخاشقجي. صدم ابن فرحان خلال مشاهدته البرامج الإخبارية ولقطات كاميرات المراقبة لآخر لحظات خاشقجي، لذا أدرك أنه برفضه الذهاب إلى القنصلية، ربما جنَّب نفسه مصيرًا مشابهًا.

مونتريال

عمر عبد العزيز منشق سعودي وناشط يعيش في كندا مثله مثل ابن فرحان، كما كان شريكًا لخاشقجي، وخططا سويًا من أجل جعل محنة السجناء السياسيين في المملكة قضية عامة، وحاولوا تخريب الجهود المبذولة في البروباغندا السعودية عبر الإنترنت. التقيت بعبد العزيز في أحد فنادق مونتريال، وروى لي  بالتفصيل جوانب حادث لم يناقشه بتلك التفاصيل من قبل، إذ حضر في أيار/مايو لعام 2018 اثنان من الديوان الملكي إلى كندا، يحملان رسالةً من ابن سلمان، ورتب الاثنان، يرافقهما أخ عبد العزيز الأصغر أحمد، عدة لقاءات في مقاهي مونتريال وحدائقها العامة، وشجعاه على إيقاف نشاطه السياسي والعودة إلى الوطن، وأكدا عليه على زيارة السفارة السعودية لتجديد جوازه، وقال لي إنه فهم ضمنيًا من كلامهما خطر استمراره في نشاطه السياسي. وخلال نقاشه أدرك عبد العزيز أن أخيه كان تحت ضغطهم، فسجل محادثاتهم، وقرر رفض عرضهم، ولكنه أدرك ما يترتب على خياره ذلك من نتائج وخيمة، إذ عاد أخوه إلى المملكة، ويُفترض أنه ما زال هناك حتى الآن، كما اكتشف عبد العزيز اختراق هاتفه بعد شهر من زيارة أخيه، وأربعة أشهر قبل مقتل خاشقجي.

الطائف

لم يفكر يحيى العسيري في الأمر كثيرًا عندما رن هاتفه في صباح عام 2008، كانت المكالمة من ضابط عسكري ذي رتبة عالية، واستدعاه لاجتماعٍ عاجل في مكتبه في قاعدة الطائف الجوية، كانت مثل هذه المكالمات معتادة بالنسبة للعسيري الذي يعمل كمختص في اللوجستيات والإمدادات في القوات الجوية الملكية السعودية. اعتاد العسيري الذهاب لزيارة الأسواق القريبة، وملاقاة المزارعين والتجار المحليين. كشفت له زياراته عن الفقر المتفشي في البلاد، فبدأ قضاء لياليه في الدخول إلى غرف الدردشة على الإنترنت، ونشر أفكاره حول الظلم الاجتماعي والفساد الحكومي وحقائق الحياة القاسية في ظل حكم العائلة المالكة. لم تكن زيارة غرف الدردشة محظورة حينذاك، وكانت وسائل التواصل الاجتماعي لا تزال في بداياتها داخل معظم الوطن العربي، ووجد فيها المواطنون حيزًا للتعبير وإيصال الأخبار للعالم، الذي لم يكن متاحًا من خلال التلفاز أو الراديو اللذين تسيطر عليهما الدولة، والتقى العسيري من خلال غرف الدردشة بسعوديين أفكارهم مشابهة له، وفي بعض الأحيان نقلوا صداقاتهم ووجهات نظرهم المعارضة إلى الواقع، فيلتقون في بيوت بعضهم البعض، ويقيمون روابط قوية فيما بينهم بعيدًا عن أعين الدولة، أو هكذا ظنوا على الأقل.

اقرأ/ي أيضًا: ابن سلمان يقود "الانفتاح" في السعودية بسوط القمع والتخويف

ارتدى العسيري لباسه العسكري، في اليوم الذي استدعاه رئيسه فيه إلى مكتبه، وذهب إلى مقر القاعدة، وعند وصوله صاح الجنرال قائلًا: "يحيى! تفضل بالجلوس". جلس يحيى، لكنه لمح قبل ذلك مجلدًا على مكتب الجنرال مكتوب عليه "أبو فارس"، سأله الجنرال: "هل تعرف كيف تستخدم الإنترنت جيدًا؟", رد العسيري: "لا أجيد استعماله إطلاقًا سيدي"، وسأله الجنرال مرةً أخرى: "لا تستخدم الإنترنت إذا؟"،  فأجاب: "تستخدمه زوجتي أحيانًا من أجل وصفات الطعام، ولكني لا أجيد استعماله". أمسك الجنرال بالمجلد، ووجه كلامه للعسيري: "استلمت هذا المجلد من مكتب التحقيقات العامة، ويحتوي على عدة منشورات ومقالات مكتوبة من قبل شخص يُدعى أبو فارس، ينتقد فيها المملكة، ولقد أخبروني أنهم يشتبهون بأنك أنت من كتب هذا"، ثم سأله: "هل أنت أبو فارس؟".

أنكر العسيري بشدة، ولكن الجنرال استمر في استجوابه، وبعد مدة بدا الجنرال وكأنه اقتنع ببراءة العسيري، وعلم العسيري فيما بعد أن كبار الضباط في الطائف يرون براءته، وعندما غادر المكتب يومها وضع خطة، حيث قدم طلب للحصول على برنامج تدريب عسكري في لندن، وخبأ مدخراته الشخصية بعيدًا، وقدم استقالته من سلاح الجو، الأمر لنادر الحدوث نظرًا لمكانة الضباط العسكريين ودخلهم. وخلال اثني عشر شهرًا منذ ذلك الاجتماع المشؤوم، كان العسيري وزوجته سيتركان كُلاً من والديهما وإخوتهما خلفهما ويغادران إلى إنجلترا، حيث سيبدأ هناك حياة جديدة.

المصيدة

الأمير والناشط والضابط هم الأشخاص المحظوظون، ومجرد ثلاثة أمثلة على عدد لا حصر له من المنشقين المتورطين في الشبكة التي تستخدمها المملكة السعودية لإكراه ورشوة ومحاصرة منتقديها، وأحيانًا يرسل المسؤولون السعوديون عملاء إلى الدول الأجنبية لإسكات أو القضاء على نشاط خصومهم، والكثير ممن أُلقي القبض عليهم، احتجزوا وانتهى المطاف بهم بـ"الاختفاء"، البعض قابع في السجن، وآخرون لم يُسمع عنهم شيء مرةً أخرى، وبينما أول عملية اختطاف معروفة لسعودي كانت في عام 1979، لم تتصاعد تلك الممارسات إلا في عهد ابن سلمان.

الفئة المستهدفة من تعتبرهم القيادة السعودية ضد مصالح الدولة: المنشقون، الطلاب، أفراد العائلة المالكة المعارضون، رجال الأعمال البارزون، وأعداء ابن سلمان الشخصيون في حوالي عشر دول من بينها الولايات المتحدة، وكندا، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وسويسرا، وألمانيا، والأردن، والإمارات، والكويت، والمغرب، والصين، وسكان المملكة العربية السعودية ليسوا في مأمن من هذه الممارسات بالطبع، حيث أعدم سبعة وثلاثين سعوديّ في نيسان/أبريل الماضي بسبب اتهامهم بوجهات نظر معارضة، بمن فيهم رجل كان قاصرًا عند مشاركته في المظاهرات الطلابية، وقام ابن سلمان قبل عامين كجزء من "حملة تطهير" بتحويل فندق ريتز كارلتون في الرياض إلى سجن لحوالي 400 أمير ومسؤول حكومي سعودي، ولكن الإجراءات القمعية كانت عبارة عن محاولة ابتزاز، وما زال مكان اعتقال 64 شخصًا من هؤلاء مجهولًا.

كشفت مقابلات في ثلاث قارات مختلفة مع ناشطين وخبراء في الأمن القومي وأقارب مختطفين قسريًا ومسؤولين حكوميين أمريكيين وأوروبيين، لأي مدى وصلت السلطات السعودية في سجن أو إعادة مواطنيها أو حتى قتلهم في حال تجرؤوا على الاحتجاج ضد سياسات المملكة أو تشويه صورتها بطريقة أو بأخرى. هناك قصص لأحدث ثمانية مختطفين وقصص أربعة آخرين تمكنوا من الهرب، وهم جزء من برنامج مُنظم يتجاوز بكثير مقتل جمال خاشقجي، بحملة لا رحمة ولا هوادة فيها.

توسيع نطاق شبكة الإنترنت

بدأت مراقبة المنشقين السعوديين، في كثير من الحالات، على الإنترنت، الذي كان في بدايته شريان حياة لعديد من الناس في المنطقة، إذ ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي، خلال الربيع العربي ما بين 2010-2012، على الإطاحة بالحكام المستبدين في مصر وتونس وليبيا، لذا بدأ الخوف يدب في قلوب عدد من ملوك دول الخليج، حيث بدأ المعارضين ببث شكواهم عبر الإنترنت.

لكن حاكم السعودية حينذاك، الملك عبد الله، وجد في وسائل التواصل الاجتماعي قيمة حقيقية، إيمانًا منه أنها ستقلل من الفجوة بين العائلة الحاكمة ورعاياها. كان خالد التويجري رئيس الديوان الملكي للملك عبد الله في أوائل عام 2010،  الذي اعتمد على شاب طموح خريج كلية الحقوق يدعى سعود القحطاني، وكلفه بتشكيل فريق لمراقبة وسائل التواصل الاجتماعي، والاهتمام بالأمن السيبراني. وبمرور السنين علم عسيري وآخرون من منتقدي الحكومة أن واحدة من غرف الدردشة (المعارضة) كانت عبارة عن فخ للإيقاع بهم، وخداعهم لذكر بعض بياناتهم الحقيقية والكشف عن هوياتهم، وأحد تلك المواقع أنشأها القحطاني، الذي قد أصدر في وقت مبكر تعليمات للنظام الملكي بمراقبة الإنترنت بجدية، كما رفض التعليق على أسئلة الصحفيين.

يُعتقد أن القحطاني، منذ ذلك الوقت، شكل جهود الأمن السيبراني الأوسع نطاقًا للبلاد، وضَمّت شبكته الإلكترونية قراصنة وجواسيس لملاحقة منتقدي الحكومة في الداخل والخارج، كما عمل مع "Hacking Team"، وهي شركة مراقبة إيطالية توفر إمكانية الاختراق حول العالم، كما تم اكتشاف علاقات بين الحكومة السعودية وشركة المراقبة الإسرائيلية (NSO) التي لعبت برامج التجسس خاصتها دورًا في محاولة اعتقال ثلاثة معارضين. ظهر هذا الموقف العدواني لأول مرة في الوقت الذي أصبح فيه ابن سلمان مستشارًا كبيرًا للديوان الملكي، ثم ترقيته عام 2017 وليًّا للعهد، وواجهت بلاده حينذاك انخفاضًا على أسعار الوقود، وحربًا في اليمن، وتهديدًا متصاعدًا من إيران، وآثار خلفها الربيع العربي، واضطرابات داخلية اجتماعية.

عملية احتيال؟

سارعت المملكة بعد أيام قليلة من مقتل خاشقجي إلى ضبط التداعيات الدبلوماسية من خلال وصف الجريمة بـ"العملية الفردية"وسرعان ما اتضح أن النظام السعودي كان يرسل فرقًا لإعادة المنشقين السعوديين، وبعد فترة قصيرة من تنفيذ المهمة المروعة في اسطنبول، قُدَم صحفي من رويترز تقريرًا حول إقدام على إعادة هؤلاء المنشقين وقضية خاشقجي.

حدثت بعض مهام إسكات أو إيذاء النقاد السعوديين في دول على تحالف وثيق مع الرياض، فمثلًا إحدى العلميات في فرنسا تعلقت بالأمير سلطان بن تركي الذي خدر ونقل سرًا من سويسرا إلى المملكة العربية السعودية

ظهرت تهديدات مماثلة في كندا وأوروبا، ففي نيسان/أبريل، فوجئ إياد البغدادي، الناشط العربي المنفي في أوسلو، بقدوم مسؤولي الأمن النرويجي إلى شقته، وإخباره عن تلقيهم معلومات تشير إلى أنه في خطر، وكان البغدادي وهو فلسطيني، مقربًا من خاشقجي في الشهور الأخيرة قبل مقتله، إذ كان الرجلان مع زميل أمريكي يطوران مجموعة مراقبة لتتبع الرسائل المزيفة أو المتلاعب بها، التي تنشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي وأجهزة الصحافة من قبل السلطات السعودية وعملائها، وحُذر البغدادي من أن قيادة ابن سلمان تعتبره خطرًا على الدولة، فنقلوه هو وأسرته إلى منزل آمن.

اقرأ/ي أيضًا: زيف الاعتدال السعودي.. اعتقال وتشهير بحق ناشطات نسويات

حدثت بعض مهام إسكات أو إيذاء النقاد السعوديين في دول على تحالف وثيق مع الرياض، فمثلًا إحدى العلميات في فرنسا تعلقت بالأمير سلطان بن تركي الذي عاش في أوروبا لسنوات، وهو حفيد الملك ابن سعود، مؤسس المملكة، وكان الأمير على نزاع مع أعضاء أشداء في النظام الملكي، واتهمهم بالفساد، ووفقًا للتقارير فالأمير خدر ونقل سرًا من سويسرا إلى المملكة العربية السعودية، واحتجز على مدى عقد داخل وخارج منزله مع منعه من مغادرة البلاد. ومع مرور الوقت، تدهورت صحة الأمير وسعى للحصول على رعاية صحية مستعجلة في الولايات المتحدة الأمريكية، فقدم طلبًا للحصول على موافقة للسفر للولايات المتحدة، وبعد تلقيه العلاج تعافى إلى الدرجة التي جعلته يشعر بالجرأة الكافية للرد على خاطفيه السابقين، فرفع دعوى قضائية ضد النظام عام 2014 يوجه فيها تُهمًا جنائية رسمية ضد الزعماء السعوديين وتعويضات مالية عن الاختطاف، وعلى الرغم من أن هذه الدعوى لم تُفض إلى أي شيء إلا أن هذه الخطوة لم يسبق لها مثيل؛ أمير سعودي يرفع شكوى قانونية في محكمة أجنبية ضد عائلته.

بينت شهادة ثلاثة أمريكيين من حاشية الأمير(لم يكشف عن هوياتهم) عن اختطاف الأمير في كانون الثاني/يناير لعام 2016، إذ وصل الثلاثي مع مقدمي الرعاية الطبية والأصدقاء إلى مطار لو بورجيه، للسفر على متن طائرة الأمير الخاصة المقرر لها الإقلاع من فرنسا إلى مصر، وعند وصولهم رأوا طائرة أضخم بكثير عل مدرج الإقلاع.

حملت الطائرة عبارة "المملكة العربية السعودية" على الهيكل، وحمل ذيل الطائرة شعار البلاد، ووفقًا لسجلات قاعدة البيانات على الإنترنت، فالطائرة مِلْكٌ للحكومة السعودية، كما أشارت السجلات إلى أن مالك الطائرة طلب عدم إتاحة التتبع للطائرة. لاحظ فريق الأمن أن جميع مضيفي الطائرة كانوا ذكورًا، ومع أن هذا الأمر يبدو غريبًا، إلا أن الأمير ووفده المرافق جلسوا في مقاعدهم! أقلعت الطائرة في السابعة والنصف مساء إلى القاهرة، وبعد ساعات قليلة من الرحلة، توقف الضوء والشاشات الداخلية فجأة، ثم غير اتجاه الطائرة نحو الرياض. كانت قوات الأمن المسلحة على متنها، ونقل بن تركي من الطائرة، وأثناء سحبه إلى مدرج الطائرة كان يصرخ باسم واحد: "القحطاني! القحطاني!". ومنذ ذلك الوقت لا يعرف الأمريكيون الثلاثة ولا السعوديون الذين كانوا على متن الطائرة مصير ابن تركي.

اختطف اثنان من الأمراء المعروفين كما حصل مع ابن تركي، وكلاهما يعيشان في أوروبا، حيث قام الأمير سعود سيف النصر أثناء إقامته في فرنسا بنشر تغريدة مؤيدة علنًا لخطاب نشطاء يدعون إلى انقلاب عام 2015، ثم اختفى في ظروف غامضة، إذ أخبرني أحد أصدقائه السعوديين المنفيين، أن الأمير استدرج للمشاركة بمشروع أعمال مشبوه، كحيلة لاستدراجه للقدوم إلى المملكة دون إرادة منه. أما الأمير الثاني فهو تركي بن بندر، الضابط الكبير في قوات الشرطة السعودية، الذي فرَّ هاربًا إلى باريس، واستخدم قناته على اليوتيوب للمطالبة بتغيير سياسي في الوطن، وفي عام 2015 أوقف في مطار المغرب، وفقًا لما زعمت سلطات الرباط أنه أمر من الإنتربول، ثم نقل قسريًا إلى المملكة العربية السعودية.

قال الرئيس السابق لجهاز المخابرات الخارجية السعودية، الأمير تركي الفيصل، في أحد التصريحات القليلة شبه الرسمية، بشأن أفراد العائلة المالكة الذين اختطفوا من أوروبا عام 2017 التي وصف فيها "الأمراء المزعومين" بـ"المجرمين"، وقال فيصل: "نحن لا نفضل الحديث العلني عن هذه الأشياء، لأننا نعتبرها من شؤوننا الداخلية". وبصرف النظر عن مدى مصداقية تصريحات الأمير فيصل، إلا أن الأمراء الأثرياء ليسوا الهدف الوحيد للنظام، فهناك منتقدين للنظام من رجال الأعمال، والأكاديميين، والفنانين، والإسلاميين.

لا أحد في مأمن

الشاعر نواف الرشيد، وهو من نسل قبيلة لها مطالب تاريخية بالعرش السعودي، ومع أن نواف الرشيد لم يكن شخصية سياسية ونادرًا ما ظهر علنيًا، إلا أن ذلك كان كافيًا لابن سلمان لاعتباره تهديدًا، إذ يعيش في المنفى، ونظريًا بالإمكان تجنيده للمساعدة في إيجاد عشيرة منافسة بهدف الإطاحة بآل سعود، وأوقف الرشيد في المطار في رحلة إلى الكويت العام الماضي أثناء محاولته مغادرة البلاد، وأعيد قسرًا إلى المملكة العربية السعودية، واحتجز بمعزل عن العالم الخارجي لمدة اثني عشر شهرًا، ولم يتم اتهامه أبدًا بارتكاب أي جريمة، وعلى الرغم من إطلاق سراحه في نفس السنة، إلا أنّ نفس المصادر أشارت إلى أن محاولات الاتصال به باءت بالفشل.

كما ألقي القبض على مستشاري الحاشية الملكية كذلك. كان فيصل الجرباء أحد المقربين من الأمير تركي ابن سعود (منافس محتمل لابن سلمان). كان الجرباء في منزل عائلته في عمان عام 2018 عندما دخلت قوات الأمن الأردنية إلى المبنى، مع بنادقهم ووجوههم المغطاة، ثم نقلوه بعيدًا، ووفقًا لأفراد الأسرة الذين تربطهم علاقات وثيقة مع قادة البلاد فإنه نقل إلى السفارة السعودية في عمان، ثم نقل تحت جنح الظلام إلى الحدود وسلم إلى السلطات السعودية.

كما أن طلاب التبادل الطلابي السعوديين في خطر، فوفقًا لمصادر أكاديمية ودبلوماسية، أوقفت المساعدات المالية فجأة لبعض من تحدث عن حقوق الإنسان في المملكة. هناك قضية عبد الرحمن السدحان، المواطن السعودي والابن لأمريكي، عاد السدحان إلى المملكة بعد حصوله على شهادته من الولايات المتحدة،  ليكون جزءًا مما كان يعتقد أنه "الدولة الآخذة في التغيير"، فعمل لخمس سنوات في جمعية الهلال الأحمر السعودي، وفي مارس لعام 2018 ظهر رجال يرتدون الزي الرسمي في مكتبه، وقالوا له إنه مطلوب للاستجواب، وغادر مع السلطات، ولم يُسمع عنه من بعد ذلك أبدًا، ووفقًا لأقربائه فسبب اختفاؤه القسري يرجع إلى نشاطه على الإنترنت، وانتقاده الدولة باستمرار، لكنهم لا يستطيعون إثبات أي شيء، فالسدحان لم يتهم بارتكاب جريمة أبدًا.

ثم اختفت بعدها طالبة أخرى تدعى لجين الهذلول، وكانت ناشطة بارزة بين النسويات السعوديات، وانتقدت باستمرار بلدها على صعيد التمييز ضد المرأة رغم الإصلاحات الأخيرة، ومن المثير للسخرية أن نظرتها للحداثة من جوانب عدة عكست خطاب ولي العهد، الذي كان يَعِد الغرب بأنه بدأ ببرنامجًا للتحرر الاجتماعي! وظهرت الهذلول في سجن سعودي، ووفقًا للروايات فإنها تعرضت للتعذيب والتحرش الجنسي، وخلال زياراتها الدورية مع أفراد العائلة تعرفت على أحد الذين قاموا باستجوابها وهو سعود القحطاني، وتنفي الحكومة السعودية،على الرغم من العديد من الروايات التي تناقض ذلك، أنها قد عذبت معتقليها، وفي الوقت الذي اختفت فيه الهذلول، اختفى زوجها فهد البطيري، وفشلت المحاولات المتكررة للاتصال به للحصول على روايته للأحداث.

آثار الحادثة

ربما لن يقدم مرتكبو هذه الجرائم إلى العدالة أبدا، بينما قيل إن العديد من أعضاء الفريق الذين شاركوا في قتل جمال خاشقجي قد قُدموا للقضاء السعودي، وتمت الإجراءات خلف الأبواب المغلقة. ووجه اللوم للقحطاني على تورطه في مقتل خاشقجي، وتعذيب الناشطات والمحتجزين، واختفاء أفراد من العائلة المالكة، والتخطيط لهجمات إلكترونية على المعارضين، ورغم  كل ذلك، ما يزال يُعتقد أن القحطاني حرٌّ وله تأثير كبير خلف الكواليس.

اقرأ/ي أيضًا: اغتيال خاشقجي وهوس السلطة بالقتل

ووفقًا للعسيري فهو لا يبدي أي ندم على مغادرته لوطنه، وبعد انتقاله إلى لندن، قام عسيري، الذي كان على اتصال دائم مع خاشقجي في الأشهر الأخيرة قبل موته، بأمر لا يمكن تصوره، ففي عام 2013 عرَّف عن نفسه بأبي فارس، مؤخرًا أصبح واحدًا من أكثر المدافعين عن حقوق الإنسان احترمًا وتأثيرًا، وبدأ منظمته الصغيرة التي تسمى "ALQST" ويحتفظ بوجود شبكة من النشطاء والباحثين داخل المملكة الذين يحققون سرًا في أدلة التعذيب، وانتهاكات حقوق الإنسان، والمعلومات المتعلقة بالمواطنين المختفين.

سارعت المملكة بعد أيام قليلة من مقتل خاشقجي إلى ضبط التداعيات الدبلوماسية من خلال وصف الجريمة بـ"العملية الفردية"وسرعان ما اتضح أن النظام السعودي كان يرسل فرقًا لإعادة المنشقين السعوديين في نمط ممنهج

يعترف عسيري بأنه لو لم يكذب بأسلوبٍ مقنع يوم طلب الضابط له، لكان الآن قابعًا في سجن سعودي كصديقه الناشط وليد أبو الخير، الذي التقى به للمرة الأولى في غرف الدردشة منذ ثلاثة عشر عامًا. اليوم، صورة وليد معلقة في مكتب عسيري وهي بمثابة رمز مُخيف للمخاطر التي تأتي من كونك واحدًا من المطاردين السعوديين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

 كيف ساعد "السيد هاشتاغ" السعودية في التجسس على المعارضين؟

الذباب الإلكتروني السعودي يغزو تويتر بالشتائم والأكاذيب بعد مقتل خاشقجي