11-مايو-2022
كاريكاتير لـ إيغور لوكيانتشينكو/ أوكرانيا

كاريكاتير لـ إيغور لوكيانتشينكو/ أوكرانيا

إذا كنتَ محظوظًا كفاية فستكون أحد رجلين: شجاع لا يهاب قول الحقيقة (ما يراه الحقيقة)، أو وقور يستطيع الصمت ويتقنه. ولكن يحدث بالطبع أن لا تكون واحدًا من هذين، أي بصراحة تكون حائزًا على كلا النقيصتين: منسوب شجاعة منخفض لا يؤهلك للنطق بربع الحقيقة حتى، وخفة يستعصي معها، وفي ظلها، الصمت. أنت تخاف (وهذا مفهوم تمامًا) وفي الوقت نفسه لديك توق لا يقهر لأن تكون فارسًا ذا صولة وجولة في الصحف والمواقع والمنصات (وهذا من حقك)، فماذا تفعل؟

دورك ينحصر في تبيان ما يجب أن لا يكون، ولا علاقة لك بما يجب أن يكون. هذا منزلق يقودك إلى إبداء رأيك، وهذا ما لا تريده

لا تيأس فالأمر ليس مستحيلًا كما قد تظن. ثمة كثر حالهم مثل حالك، وقد جربوا أساليب وطرق عديدة أثبتت جدواها، وكان التوفيق حليف أغلبهم، بل أن بعضهم صاروا نجومًا بالمعنى التام للكلمة. هاك بعض الطرق:

ـ انفجار، إعلان حرب، اغتيال، مذبحة، تسريب.. أو أي حدث آخر ينتمي إلى المحظور العربي الأول: السياسة. لأذكرك بوضعك: أنت لا تجرؤ على إبداء رأي واضح وصريح ومحدد، كما أن روح الفروسية التي تسكنك تأبى الصمت. طيب.. جرب هذا: ارتد ربطة عنق وضع نظارة طبية. أنت الآن محلل استراتيجي، باحث اجتماعي، مراقب سياسي، منظر، مفكر.. باختصار أنت مثقف. إذًا عليك أن تضع الحدث في سياقه، بل في سياقاته، سياقه العالمي.. سياقه الإقليمي.. العربي.. المحلي.. التاريخي.. الثقافي.. السيسيولوجي.. ذكّر بأحداث من الحرب العالمية الأولى والثانية، بسايكس بيكو وبوعد بلفور.. بوقائع مفصلية من صدر الإسلام.. بأحداث مشابهة في أميركا وأوروبا وأمريكا اللاتينية.. ذكّر بـ "الحقائق الثقافية والسيسيولوجية والسيكيولوجية الراسخة".. رائع، لقد صار لديك 700 كلمة أو أكثر، وقد انتهيت من كل السياقات وانتهيت كذلك من المقال برمته. قلت أشياء كثيرة دون أن تكون قد قلت شيئًا واحدًا قد يغضب من تخاف غضبه، ذلك ببساطة أنك لم تقل شيئًا واحدًا عن موضوع الحدث بذاته. أراهنك: سوف تحصل على لايكات وتفاعلات ومشاركات، وبقدر ما شرقت وغربت وأثرت نقاطًا كثيرة ستثير ردود أفعال وجدل، بين أصدقائك المتابعين على الأقل. ها أنت آمن، وفي الوقت نفسه ها أنت قد تكلمت.

ـ طريقة ثانية: أنت أمام الحدث إياه وفي المأزق نفسه. انتظر يومًا. لا بل انتظر ساعات فقط (فنحن في عصر السوشيال ميديا) وسوف تقف أمام حصيلة وفيرة من ردود الأفعال: مقالات، بوستات، تويتات، تعليقات.. ومن مختلف الأطياف، من معارضين وموالين، مؤيدين ومستنكرين، راضين وساخطين، شامتين ومستهجنين، مصفقين وباكين.. اجمع ما استطعت ثم انتق منها الأكثر غباء، الأكثر سخافة وسطحية وهبلًا. ركز على الشتامين من كل الأطراف، على العنصريين والحاقدين، والمؤمنين بنظرية المؤامرة. الآن بدأ عملك. اسخر منهم، وقرعهم، ولقنهم دروسًا، قل لهم: "ما هكذا يكون التعاطي مع الحدث"، وكرر: "ما هكذا ما هكذا"، ولكن انتبه. إياك أن تنتقل إلى عبارة "بل هكذا.."، فدورك ينحصر في تبيان ما يجب أن لا يكون، ولا علاقة لك بما يجب أن يكون. هذا منزلق يقودك إلى إبداء رأيك، وهذا ما لا تريده. ومع أنك لم تقل رأيًا محددًا وواضحًا في الحدث، فأنت أصبحت نجمًا. لقد تصديت للشتامين والطائفيين والعنصريين وضيقي الأفق، فلا بد أنك متسامح راق غير طائفي وغير عنصري وواسع الأفق.

كل الذين شتمتهم لا يستطيعون إيذاءك. حماقة البشر ليس لديها سجون، والطمع لا يحمل بندقية، وشهوة القتل لن تلكمك على وجهك

 

ـ طريقة ثالثة: اجعل نفسك فوق الجميع. وفيما الآخرون يتقاتلون حول الحدث الدائر، اختر شجرة سامقة واصعد إلى أعلاها وراقبهم من هناك، بأسى وحزن ولا مبالاة تليق بحكيم. لا تتدخل في التفاصيل. لا تقل من الظالم ومن المظلوم، من المصيب ومن المخطئ. بل أطلق تعميمات حكيمة. العن حماقة البشر التي تجعلهم دائمي العراك. والعن الطمع وشهوة القتل والرغبة بالسيطرة.. سوف يصفق لك كثيرون، والأهم أنت بأمان، فكل الذين شتمتهم لا يستطيعون إيذاءك. حماقة البشر ليس لديها سجون، والطمع لا يحمل بندقية، وشهوة القتل لن تلكمك على وجهك.

أصارحك: لا أعرف حاليًا غير هذه الطرق. ولكن من يدري؟! فربما يأتي وقت قريب لا تحتاج فيه أيًا منها. ربما تهبط عليك الشجاعة من السماء، أو يأتيك الوقار مع التقدم بالعمر.. فترتاح وتُريح.