07-أبريل-2022
كاريكاتير لـ إنريكو بيرتوتشيولي/ إيطاليا

كاريكاتير لـ إنريكو بيرتوتشيولي/ إيطاليا

ننضج بمقدار فهمنا المبكّر للمعادلة الآتية: ليست الثقافة والأجواء الثقافية الشيءَ نفسه أبدًا، ولن يكونا.

لا يتعلّق النضج المقصود هنا ببلوغ مرحلة عمرية تمكّننا من اختيارات صائبة وحكيمة، بل هو وعي نقدي يلمع في لحظة إشراق في رأس حسّاس، فيرى بسببه أنه بين الاثنين عليه اختيار الثقافة وليس أجواءها، لأنه يدرك في تلك اللحظة الحاسمة من الحياة أنهما لا يعملان معًا، ولا يمثّلان لقاء للمواهب والفكر، بل يقفان على طرفي نقيض، أو يذهبان نحو عداء مبين.

مع امتلاك ذلك الوعي يمكننا أن نرى مقدار المزج الخبيث، والمدروس، بين الجماعة الثقافية أو الفنية والمافيا. بدلًا من أن يفضي لقاء عدد من الأشخاص إلى حراك فني أو فكري، نراه يتحول إلى عدوان صريح على الموهوبين وأصحاب المشاريع، إذ يجري تهميشهم وإهمالهم ما لم ينخرطوا في رفد شبكة المنفعة الثقافية بما يمنحها شرعية، حتى وإن أدارها من يتحلى بكل شيء ما عدا الموهبة والوعي.

تغدو التجمعات الرائجة بحكم وضعها ذات سيادة معنوية، وبهذا توهم الرأي العام، أيًّا كان حجمه، أن ما يفعله هؤلاء هو الثقافة والفن والفكر معًا، في خلطة واحدة شديدة التجانس والاتساق

لا تأتي تلك الأنشطة والفعاليات: العروض الحية والقراءات والمعارض.. من فهم عميق لتاريخ الفن وحاضره، وإدراك حقيقة أدوار الفنانين المجددين، وعلاقة كل ذلك مع المجتمع، بل على العكس تمامًا تأتي من أجل ترويج السطحي الفاقد للقيمة، وغير المرتبط بأي معنى من معاني الحياة. ولأنّ هؤلاء يُسمّون إنتاجهم فنًّا شخصيًّا سنرى بوضوح أن الحياة التي ترفض المعنى تنتج فنًّا خاليًا منه بالضرورة، ومهما بذلوا من جهد لاحق، مُجنّدين الطاقات والمُريدين، من أجل منحه معنى عبر تنظير مزيّف، سيكون ذلك فرصة أخرى لنرى، كشهود عيان، كيف يمكن للسطحية أن تتسلّح بالكذب الفاجر.

تغدو التجمعات الرائجة بحكم وضعها ذات سيادة معنوية، وبهذا توهم الرأي العام، أيًّا كان حجمه، أن ما يفعله هؤلاء هو الثقافة والفن والفكر معًا، في خلطة واحدة شديدة التجانس والاتساق، لأنهم بمقدار ما يُسخّرون طاقاتهم لحصاد ثمار العلاقات النافعة التي انخرطوا فيها، يُسخّرون صفحاتهم الإلكترونية، وكذلك لقاءاتهم الخاصة، لأجل الترويج لما يفعلونه، وبما أنهم في كل مكان على أرض الواقع، وبين الجميع، ينشرون بقوة الإشاعة ما يريدون بسرعة قياسية، فتحدث بلبلة في المشهد العام، ويظنّ بعض السذّج وعديمي الخبرة أن ما يرونه ويسمعون عنه حركة ثقافية، لا تقل قوة عن الحركة السريالية أو حركة الشعر العربي الحديث، ورغم أنهم لا يرون بيكاسو أو السيّاب يدخل البعض منهم كفاعلين في هذا المشهد، بينما يختار البعض الآخر دعمه وترسيخه من مقاعد الجمهور.

بعد مدة قصيرة، يضيق المشهد حتى يقتصر على اسم أو اثنين، ويتضح أن كل تلك المقدمات لأجل هذه النتائج تحديدًا! فهل نحن أمام فرانكنشتاينات ساهم الجميع في صنعها: من دعموا مخدوعين ومن دعموا عن براءة لم يحسوا بسببها بالخديعة بعد، ومن قاطعوا، ومن لم يبالوا؟

لا جواب سوى "نعم"، لأنه حيث لا يوجد نقد تولد الكوارث، في الثقافة كما في السياسة.

راقبوهم، فرانكنشتاينة الشعر الحساسة وفرانكنشتاين السينما الغاضب، يعلنون: نحن مشكّلون من امتيازاتنا، فهاتوا مهرجاناتكم وتمويلاتكم ولايكاتكم، لنعترف بكم!

ولا بد من الإشارة إلى أن اسم فرانكنشتاين يشير إلى الوحش هنا مع أنه بالأصل اسم الطبيب الذي اخترعه، لأن وحوشنا، فرانكنشتايناتنا، هي التي اخترعت نفسها فتوحّدت بخالقها.

الكوميدي هو أن المهرجانات والأسفار والنشر امتيازات تأتي من علاقات ومصالح مدنية الطابع، بينما تعيدنا اللايكات إلى شبكات ولاء، أو عصبيات، عائلية وعشائرية، لأن الدعم الذي تمثله يأتي من فئات لا يهمها ما هو مطروح، لكنها انساقت إليه بفعل قوة الترويج الذي جعله يبدو كحقائق لا تقبل النقض.

محاولات الهيمنة على مشهد ثقافي أو فني عبر سبل عديدة، ليس الإنتاج أحدها، أمر دائم الحدوث والتكرار، إلى درجة اتفاق الآليات التي يقوم عليها ذلك، ولا تختلف إلا باختلاف وسائط كل زمن.

ومن زمن الجريدة إلى زمن المنصة، هناك دائمًا ذلك النوع العجيب الذي يهتم بالثقافة بوصفها ديكورًا للشخصية، تعطيه جواز سفر إلى القبول في أوساط اجتماعية لا يمكن اختراقها عادةً دون امتلاك امتياز ما، مادي أو معنوي، وربما يحدث هذا لأبرياء لا يريدون أكثر من أن يكونوا مؤثرين، لكي يُجمّلوا حياتهم دون تهديد أي أحد آخر. وبعد زمن، يصبح الجميع، الخبثاء والأبرياء، قادة للرأي مع أنهم دون رأي، لكن من يهتم لذلك ما داموا يعرفون الطرق المختصرة إلى الأماكن الصحيحة، أماكن القوة والتأثير، بينما أولئك الذين يحملون أفكارًا أكبر منهم، ويريدون تطويرها وتقديمها للآخرين، مطرودون من هذه المساحات التي يسيطر عليها أشخاص أكبر من الأفكار.

يغيب المثقف الذي نعرف عمله أكثر مما نعرفه، ويحضر ذلك الذي نعرف قصات شعره وملابسه ومطاعمه وأسفاره. يغيب الطموح ويحضر الطامح فقط.

يغيب المثقف الذي نعرف عمله أكثر مما نعرفه، ويحضر ذلك الذي نعرف قصات شعره وملابسه ومطاعمه وأسفاره. يغيب الطموح ويحضر الطامح فقط

بعد نهاية كل مرحلة، أو كل جيل، عقب عصر من صولات وجولات عظمى لهؤلاء، نجد أنهم لم ينجزوا شيئًا، لا مشروعًا موجودًا في كتب أو شرائط أو لوحات، ولا مؤسسة تحت عنوان مجلة أو دار نشر او غاليري فني. نجدهم وحيدين معزولين، وفي نفوسهم حسرات على الغنائم الفنية والثقافية الجديدة التي صعد جيل جديد واستولى عليها، ولهذا لا تسمع منهم عن هذا الحال غير نقد شرس ويتجاهلون حقيقة أنهم أكثر من يستحقونه.

حين نرى السلطات القمعية في العالم العربي تتهاون كل التهاون مع هذا الشكل من الثقافة، خصوصًا حين ترافقها أجواء ترفيهية، على ما نعرفه من ديدن هذه السلطات في السيطرة المطلقة على الفضاء العام، وعدم توقفها عن منع أنشطة أخرى وتوقيف أصحابها، فإنه لا يعود مهمًا أبدًا أن نسأل عما تقدمه ثقافة هؤلاء أمام اكتشافنا لعقدهم اتفاقية سلام مضمرة مع هذه السلطة.

الأمر ذاته في المجال الأوروبي الغربي، فعلى الرغم من الحريات العامة المصانة، إلا أن هناك محددات لا يمكن تجاوزها تخص التوافق مع سياسات وأجندة داعمي الفعاليات، ثقافيةً أو فنيةً، أو تقديم رؤية ربحية تتوافق مع منهج الرأسمالية الذي يرى الدنيا سوقًا، وبينما يمكن أن نتحدث عن مناورات محدودة في الأولى، إلا أننا في الثانية ندخل في مجال واضح هو البزنس.

في الحالتين، القمعية والدمقراطية، لا تشكّل ثقافة الغنيمة خطرًا، لأن الذين يديرونها لا يسعون إلى إحداث أي تغيير سوى تغيير المواقع والمواقف لأجل الاقتراب من أصحاب الامتيازات، أو الحلول مكانهم. بل يمكننا القول إنها هي ذاتها بمثابة غنيمة في منظور السلطة.