20-مارس-2022
كاريكاتير لـ تجيرد روياردز/ هولندا

كاريكاتير لـ تجيرد روياردز/ هولندا

الفرجة الصغيرة التي فتحت للبشر، وكانوا يعبرون منها أفرادًا إلى بشريتهم وإنسانيتهم تكاد تنغلق مجددًا. وها نحن مرة أخرى نتواجه بوصفنا نُعرّف بما ورثناه. كما لو أننا هوينا دفعة واحدة وبصورة مفاجئة من أعمارنا ومكتسباتنا وثقافاتنا، إلى قاع الانحيازات الإيديولوجية التي تُعرّفنا وتختصرنا من دون أن تسمح لنا بإبداء الرأي. هكذا ورغم كل الجهود التي بذلها الأفراد على امتداد العالم، تأتي حرب واحدة، لتعيدهم إلى ما كانوه قبل أن يولدوا: عرب وروس وأوروبيون وأمريكيون وصينيون، إلخ...

الفرجة الصغيرة التي فتحت للبشر، وكانوا يعبرون منها أفرادًا إلى بشريتهم وإنسانيتهم تكاد تنغلق مجددًا. وها نحن مرة أخرى نتواجه بوصفنا نُعرّف بما ورثناه

 

لكننا في هذه العودة لسنا متساوين قطعًا. ثمة شعوب تملك فرصة في نجاة بعضها أو جلها، وثمة شعوب لم تعد تملك أي أمل. كنا لعقود خلت، نتسلل إلى المساواة والفردية أفرادًا، ولكل منا سيرته الشخصية. وكان ثمة على الدوام مؤسسات "محايدة" تسمح لنا بأن نكون ما نريده وما نشاء أن نكونه أو ندعيه. مؤسسات من قبيل المؤسسات التي أفرزتها تقنيات العولمة، كانت تسمح لنا أن نعبر عن أنفسنا على النحو الذي نريد، بشرط أن نلتزم بتجنب خطاب الكراهية ضد جماعات أو شعوب أو أديان. بدت لنا هذه المؤسسات في أصل تكوينها وإنشائها، كما لو أنها مقهى متسع يستقبل من يستطيع دفع ثمن قهوته. لا تنظر إلى جنسه أو دينه أو سنه أو جنسيته أو لغته، ويمكنه في هذا المقهى الواسع أن يعلن ما يريد إعلانه، وأن يبحث عن مستمعين ومؤيدين ويستجدي معجبين ما طاب له. وعلى نحو ما، كنا ندرك أن كل ما يعلن ويقال في هذا المقهى طاف، ولا ينجح أن يكتسب عمقًا، لأنه في أصل تكوينه، يشبه الصور، صورنا عن أنفسنا، شكلنا الخارجي، ثيابنا والمصممون الذين صمموها، المناظر الطبيعية التي يحدث أن نصورها أثناء تواجدنا في كنفها صدفة، المدن التي زرناها وجلسنا في مقاهيها، أو تعمدنا السير بمحاذاة معالمها الشهيرة: كل زائر إلى سيدني يسعى لأن يصور مبنى الأوبرا، وكل زائر لباريس يسعى لأخذ صورة شخصية يظهر فيها برج إيفل خلفه. كانت حياتنا في هذا العالم الافتراضي، سطحية وقابلة للاحتواء من النظرة الأولى. وكنا جميعًا نشعر أننا، رغم كل الضحالة هذه، موجودون. أنا أصوّر إذًا أنا موجود.

اقرأ/ي أيضًا:
في مديح الحفظ

لم يلزم إدارة فيسبوك وقتًا طويلًا لتنقلب على قواعدها التي فرضتها علينا. أسبوعان من الحرب، جعلاها تتخلى عن عولمتها. وتقرر على نحو لا سابق له، أن من حق أي كان أن يوغل في خطاب الكراهية إذا كان الخطاب موجهًا لروسيا. بقرار إداري صرف، تم شطب عشرات الملايين من خانة البشر الذين يحق لهم التعبير عن ضحالتهم على المنصة. ليس فيسبوك وحيدًا في هذا المجال، لقد فُرض على كل المقيمين في روسيا أن يخرجوا من هذا العالم، لم يعد بوسعنا أن نعزي أحدهم بوفاة أمه، لأنه محجوب عن الشبكة، ولم يعد في وسعنا أن نتعرف على أهوائهم وصغائرهم وميولهم اليومية. باتوا جميعًا في كهف معتم، وبات لزاما علينا أن نحرض على قتلهم. أو على الأقل أن نهملهم كما لو أنهم لم يوجدوا أصلًا.

ليس هذا دفاعًا عن المسلك السياسي العسكري الروسي في السنوات الأخيرة بقيادة رئيسها الذي استفاق في عصر غير عصره. لكن الاستجابة السريعة، أوروبيًا وأمريكيًا لهذه العودة الموغلة في الماضي، تشبه في حقيقتها وأصلها إيقاظ سمفونية الكراهية التي كانت سائدة في أوروبا القرن التاسع عشر، والعزف عليها بإصرار مقيت، إلى أن تلتهم كل ضحاياها، وقد يكونون بالملايين.

هذا البيان لا يحاول القول إن العقود القليلة السابقة كانت مثالية. لكننا في هذه العقود كنا قادرين أن نتسلل كأفراد، نملك حكايات ونتحدر من معاناة، لننتسب إلى هذا العالم الذي نبدو فيه مساوين لأقراننا بصرف النظر عن جنسياتهم ومنشأهم. كان علينا أن نبذل الكثير من الجهد لنصير مقبولين في هذا العالم، لكننا كنا نستطيع فعل ذلك. لم يكن الجهد المطلوب مستحيلًا. مع أنه كان مكلفًا. اليوم، نبدو كما لو أننا مجبرون على الانحياز القاتل، وهو قاتل حرفيًا. لن تستطيع الدفاع عن الروس إن أردت الدفاع عنهم. لقد صدر الحكم عليهم سلفًا. وها هم مضطرون للخروج من هذا العالم والعودة إلى عالمهم القديم. حتى ماكدونالدز لم يعد متاحا للشعب الروسي. ماكدونالدز المذموم في كل بقعة من بقاع العالم، والمحارب من قبل البيئويين ودعاة المحافظة على الأجسام سليمة، وأنبياء الكيتو والصوم المتقطع، لم يعد متاحًا للروس. ولم يعد من حقهم، أي الروس، أن ينبذوه. لأنه لم يعد موجودًا أصلًا. على عكسنا نحن الذين ما زلنا نتمتع بالحق في التعالي عليه، حين يكون بإمكاننا التعالي.

السياسة الروسية منذ تولي بوتين ليس سوى تمرين على الكراهية المفرطة لكل ما هو خارج حدودها. لكن هذه الأسبقية في إعلاء الكراهية لا تعني أن الجهة الأخرى من العالم محصنة من الغرق في صخب هذا النشيد

 

قد تكون هذه هي المرة الأولى في التاريخ الحديث التي تقرر فيها مؤسسات رأسمالية أن تنصرف كليًا عن مخاطبة من يملكون القدرة على استهلاك ما تنتجه. وغني عن القول إن هذه المؤسسات وجدت نفسها مجبرة على اتخاذ مثل هذه القرارات. ذلك أن هذه المؤسسات في نهاية الأمر تخضع لسلطات بلاد المنشأ. فلا تستطيع شركة آبل أن تعاند قرارًا حكوميًا أمريكيًا، مثلما لا تستطيع شركة مرسيدس أن تعاند قرارًا حكوميًا ألمانيا. لكن انصياع هذه المؤسسات، يعني في نهاية المطاف أن العالم لم يعد متعاونًا مع بعضه البعض.

اقرأ/ي أيضًا:
جيش سارقي البيض

حين بدأ العالم بمواجهة جائحة كورونا، كان التعاون الدولي المفتوح أحد أهم أسلحة البشر في محاولة التغلب عليه. في نهاية الأمر، كان اللقاح الأول إنتاجًا مشتركًا بين علماء دولتين كبيرتين. والأهم أن هذا اللقاح بعد إنتاجه، كان متاحًا نظريًا لكل شخص في هذا العالم. (أعلنت فايزر مؤخرًا أنها رفضت طلبًا من صهر الرئيس الأمريكي السابق جاريد كوشنر بأن تتخلف عن تسليم طلبات الدول التي وقعت معها عقودًا لشراء اللقاحات وتسليمها للحكومة الأمريكية). هذا يوضح، نظريًا على الأقل، ما الذي يعنيه التعاون الدولي، وما هي الفرص التي يتيحها مثل هذا التعاون المفتوح. اليوم لن يكون بوسع فايزر أو غيرها أن ترفض طلبًا حكوميًا. ذلك أن الهدف المعلن للحكومات الغربية واضح تمام الوضوح: علينا أن نؤذي روسيا بقدر ما نستطيع، وبأي وسيلة كانت. ولن يسمح لأي كان أن يتحايل على هذا القرار. (في ظروف أقل حدة من هذه، اختبرت أمريكا حقبتها المكارثية).

في الجهة الروسية المقابلة تذوق المقيمون هناك منذ زمن عصير الكراهية. السياسة الروسية في أصلها لم تكن منذ تولي بوتين غير تمرين على الكراهية المفرطة لكل ما هو خارج حدودها. لكن هذه الأسبقية في إعلاء أصوات نشيد الكراهية لا تعني مطلقًا أن الجهة الأخرى من العالم محصنة من الغرق في صخب هذا النشيد.  

   

اقرأ/ي أيضًا:
شجار بالأبيات