10-مارس-2022
The Power of the Dog

من الفيلم (Netflix‏)

هناك الكثير من الأفلام، لكن هناك أفلام تحمل سينما بداخلها. فيلم "قوة الكلب" (The Power of the Dog) واحد من هذه الأفلام، إنه بمثابة درس في صناعة السينما. المخرجة جاين كامبين ومعها آري ويغنير نقلتا سحر المكان وهدوءه. كادرات ساحرة تسمح للعين بالغرق في عالم من الفتنة والجمال إذا ما شوهد الفيلم بظروف صحية: شاشة كبيرة، ظلمة، لا ضجيج أو مقاطعة.

"The Power of the Dog" هو فيلم ويسترن بدون سلاح أو إطلاق رصاص أو مشاهد إثارة وأكشن وعنف

 

تفاصيل ممتعة: دم أحمر على سنابل القمح الصفراء. ذبابة على ظهر حصان. جبال خلابة وأراضي شاسعة وسماء فخمة. مونتاج ناجح نقل تفاصيل صغيرة حسية. موسيقى (جوني غرينوود) ومؤثرات صوتية وألوان خافتة تشي بجريمة. جو يوحي للمشاهد أن خطيئة ما ستحصل. ننتظر هذه الخطيئة بفارغ الصبر. ترقب انفلات الشخصيات من عقالها. لكن شيئًا لا يحصل، ولا ضربة كف واحدة. مجرد قلق، توتر ناعم، انتظار، والقليل من الغضب يكيله فيل على الأحصنة.

فيلم دراما نفسية من كتابة وإخراج جاين كامبيون. مبني على رواية تحمل نفس الاسم للكاتب توماس سافاج 1967. الفيلم من بطولة بيندكت كامبرباتش، كيرستين دانست، جيسي بليمنز، وكودي سميت-ماكفي. مدة الفيلم 128 دقيقة، وعرض على منصة نتفليكس عام 2021.

الحكاية

فيلم ويسترن بدون سلاح أو إطلاق رصاص أو مشاهد إثارة وأكشن وعنف. فيلم يستخدم الغرب الأمريكي كحاضنة فقط لثيمته. المزرعة كحاضنة للذكورية. وهذا ما يجعل فكرته فريدة ومميزة في طرحها لناحية اختيار المكان والزمان المناسبين. تدور أحداث الفيلم في مونتانا عام 1925، في وقت كان من الصعب تقبل المثلية، وقت كان يحتقر المجتمع المخنثين، وقت يضغط على الرجل دومًا لإظهار فحولته ورجولته. ومن كان مثليًا كان عليه أن يتخفى خلف صورة قاسية وشديدة، بينما من تبدو عليه علامات المثلية من الرجال فإنه يزدري ويتعرض للتنمر والألفاظ البذيئة.

منذ العام 1900 وحتى العام 1925، يعمل الأخوان فيل وجورج بيربانك في رعي البقر في مزرعتهما مع عدد من العمال والخدم. ورثا هذه المهنة من والدهم. لكن لكل منهما شخصية مختلفة عن الآخر. جورج شخص نظامي ومتعاطف وأنيق ونبيل في حديثه، ويعتمد على قوة فيل وشخصيته القيادية في التعامل مع العمال ورعي البقر، بينما يهتم جورج بالإدارة ونسج العلاقات العامة. فيل وجورج ينامان جنبًا إلى جنب على ذات السرير.

بانر

لكن هذه الوحدة بين الأخوة سرعان ما تتهدد بفعل دخول امرأة في حياة جورج وزواجه منها. فيل عالق بماضيه وتحديدًا في حبه القديم لبرونكو هنري (شخصية لا نراها لكنها ذات تأثير كبير في حياة فيل)، بينما في المقابل جورج يتطلع نحو المستقبل ويدخل في علاقة حب ستؤدي إلى انسلاخ علاقة الأخوين. يرتبط جورج بالأرملة روز غوردن، وهي والدة لفتى مراهق يدعى بيتر غوردن ويدرس الطب.

وأمام هذا الواقع يسعى فيل عن عمد لمضايقة روز معتبرًا أنها سلبته أخاه وبأنها تريد ماله، ويصل الأمر بالزوجة حد الإدمان على الكحول، ومحاولتها تجنب فيل قدر الإمكان، ومحاولة حماية ابنها بيتر من فيل، سيما وأن العائلة تعيش في ذات المنزل الكبير. روز وحيدة تمامًا كما يوحي اسمها، وكذلك جورج وفيل وبيتر. الوحدة تمزق الشخصيات من الداخل. الجميع يسعى للتخلص من هذه الوحدة، وجميعهم ينجحون، فيما عدا فيل.

شخصيات بطبقات متعددة

بيتر ذو بنية جسمانية هزيلة. قوام أشبه بقوام النساء. بشرة ناعمة بيضاء تميل للأنثوية أكثر منها للذكورة. لكن بيتر في داخله كلب مستذئب شرير ومتوحش. كلب فتاك ذو أنياب قاتلة وسامة. الناظر إلى بيتر لا يمكن أن يصدق أن هذه الصفات القاسية يمكن أن تختزن بداخله. والده أشار له بهذه الحقيقة قبل وفاته.

في "The Power of the Dog" منذ العام 1900 وحتى العام 1925، يعمل الأخوان فيل وجورج بيربانك في رعي البقر في مزرعتهما مع عدد من العمال والخدم

 

وعلى المقلب الآخر، نجد راعي البقر فيل بيربانك بصفات خشنة في الظاهر. ولكن مع مرور الأحداث سرعان ما نكتشف رقته ورهافة قلبه وعواطفه وإن بشكل مستتر. فيل يخفي هذه الصفات خلف الجسد المتسخ والصوت المرتفع واليدان الخشنتان والحذاء المدبب وصفات أخرى كالقوة في التعامل مع الأبقار وسلخ جلودها وخصيها. شخصية فيل مركبة من عدة طبقات وتتسم بالتناقض (يظهر رهاب المثلية ويضمر مثليته الجنسية في آن واحد/ ذكوري في العلن وأنثوي في السر).

يخفي فيل مثليته عبر النكات ضد النساء والتنمر على الآخرين ومهاجمة أخيه ومضايقة زوجة أخيه وابنها. وحين يذهب الرجال للاغتسال في النهر عراة، نجد أن فيل لا يرافقهم ويفضل الاغتسال وحيدًا وعاريًا في جزء مخفي من النهر. فيل نرجسي يعمد إلى سحق غيره بسبب الإيغو المتضخم لديه ولكونها حيلة دفاعية يلجأ إليها فيل لحماية نفسه من نظرات رعاة البقر في المزرعة.

هذه الهيمنة العلنية سرعان ما تنحسر وتنقلب لتتحول إلى خضوع يظهر جليًا في اللقطة الجميلة والمعبرة عن انقلاب الأدوار بين فيل وبيتر. مشهدية السيجارة بين أصابع بيتر وفي رحلتها لتلامس شفتي فيل تفصح عن المسألة برمتها. بيتر أصبح المهيمن فيما غرق فيل في خضوعه. لكن هل كان بيتر صادقًا في مشاعره؟

ذئب بثوب حمل وديع!

فيل منح الحب لبيتر، وصنع له حبلًا كعربون وفاء وشراكة لبداية جديدة، فما كان من الأخير سوى أن بادله بلؤم ودناءة وشدة وبشاعة. فالشركة التي يمنحها الرب للإنسان غير معروفة إطلاقًا عند الكلاب والخنازير. يقال "ربي كلبك يعقر جنبك" وهذا ما ناله فيل تحديدًا من بيتر. نال حتفه.

فلكي يكون بيتر رجلًا، في فيلم "The Power of the Dog"، عليه إنقاذ والدته، ولكي ينجح في هذه المهمة عليه أن يقتل

يصف بيتر نفسه هنا بكونه "رجل" فيما الجميع لا يرونه كذلك! ومن ثم فإن حبكة الفيلم بأكملها تنحو باتجاه عمليتي المساعدة والإنقاذ لوالدته. فلكي يكون بيتر رجلًا عليه إنقاذ والدته، ولكي ينجح في هذه المهمة عليه أن يقتل فيل، ولكي يتمكن من تأدية مهمته عليه ألا يحمل مشاعر عاطفية تجاه فيل.

فلو وجدت رغبة داخل بيتر نحو فيل لما استطاع بيتر التلاعب به والشروع في عملية القتل هذه وبدون تردد. بيتر شخصية لديها مهمة محددة وواضحة. وبالعودة إلى افتتاحية الفيلم نستمع إلى لسان حال بيتر وهو يمهد للقصة بالقول "عندما توفي والدي، كان أكثر ما رغبت فيه هو سعادة أمي. فأي رجل سأكون إن لم أساعد أمي؟ إن لم أنقذها؟".

قوة الكلب

بالإضافة إلى نجاسته بحسب الشريعة المسيحية، فالكلب رمز للشراسة. يقرأ بيتر في الإنجيل في المشهد الأخير " Deliver my soul from the sword, my darling from the power of the dog"، أو كما يشير الإنجيل باللغة العربية "أنقذ من السيف نفسي: من يد الكلب وحيدتي، خلصني من فم الأسد، ومن قرون بقر الوحش استجب لي". ويصف المسيح آلامه بالقول "لأنه أحاطت بي كلاب، جماعة من الأشرار اكتنفتني، ثقبوا يدي ورجلي". وهكذا فعل بيتر بثقب يد فيل بالجمرة الخبيثة. بيتر كلب تغلب على أسد. لكن أحدًا لا يفقه طبيعة بيتر. إن الناظرين إليه ذوي عمى!

بيتر ذو صفات ذميمة يتشابه فيها مع أحط وأخس الحيوانات في أخس أحوالها. إنه سيئ ككلب يعود ليأكل قيئه الذي أخرجه من بطنه، مما يدل على بشاعة هذه الحال وخستها ودناءة مرتكبها. فالكلب إذا جاع أكل كل ما يصادفه من الجيف والقمامة. يحذر المسيح بالقول "لا تعطوا القدس للكلاب، ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير، لئلا تدوسها بأرجلها وتلتف فتمزقكم".

في الإنجيل، الكلاب هم فعلة الشر، ويشبه الله الإنسان الذي يعيش في الشر ويشرب الإثم كالماء بالكلب

 

بيتر لديه من الكبرياء والصلف الكثير الكثير حتى وإن بشكل مضمر. يقول الإنجيل "احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان ولكنهم من الداخل ذئاب خاطفة". الكلاب هم فعلة الشر، ويشبه الله الإنسان الذي يعيش في الشر ويشرب الإثم كالماء بالكلب لأن حياته خالية من خوف الله، فلذلك يستهين بكلام الله. غير أن بيتر قام بتفسير الآيات من وجهة نظره، فهو يعتبر بأن فيل هو الكلب الذي يجب التخلص منه لضمان سلامة والدته.

مؤامرة

كان فيل يرفض إعطاء جلود البقر أو بيعها لأي أحد. لكن اندفاع روز الجنوني من أجل التخلص من الجلود ليس له ما يبرره سوى أنها على علم بمخطط ابنها بيتر للتخلص من فيل (الخادمة أخبرت روز أن فيل يمنع أي أحد من الاقتراب من جلود البقر خاصته وبأنه يفضل حرقها، والسبب يكمن في استخدامها لصناعة الحبال وخاصة في إنهاء الحبل المخصص لبيتر كهدية).

إنها قصة حب من طرف واحد. وكما يبدو فإن بيتر ليس مثليًا. بيتر نصب الفخ لفيل. وكان محتمًا على بيتر أن يقتل فيل، وليس فقط من أجل إنقاذ والدته روز وضمان سعادتها، لكن أيضًا كي ينقذ نفسه من براثن فيل العاطفية وشغفه به. ففي اللحظة التي أفضى بها فيل بعلاقته الماضية مع برونكو هنري، وأزاح الستار عن حقيقته أمام بيتر، في هذه اللحظة تيقن بيتر أنه سيكون النسخة الثانية من برونكو هنري. فيل أجلس بيتر على سرج برونكو هنري. وتبعًا لذلك بات محكومًا على بيتر إما بالخضوع لرغبات فيل وإما قتله، وذلك لأن المكان والزمان لا يسمحان لبيتر برفض رغبات فيل.

وبالمقارنة مع المشهد الأخير، بعد مقتل فيل بالحيلة التي أوقعه فيها بيتر، تظهر جليًا ابتسامته وهو يطل من النافذة ليشاهد جورج يقبل روز أثناء عودتهما من جنازة فيل! روز الآن أصبحت وردة قادرة على أن تزهر وسط الصحراء القاحلة. لكن هل تواطأت والدته معه في حيلته؟ّ! وهل تواطأ جورج مع روز للتخلص من أخيه؟! النظرات والابتسامات والقبلة في المشهد الأخير، ومباشرة بعد عودتهما من الجنازة تستدعي تفسيرًا معقولًا لهذا التواطئ أو إن صح التعبير لهذه المؤامرة.

كان محتمًا على بيتر أن يقتل فيل، ليس فقط من أجل إنقاذ والدته وضمان سعادتها، لكن أيضًا كي ينقذ نفسه من براثن فيل العاطفية وشغفه به

 

يخاطب بيتر والدته قائلًا "لأنك فاتنة"، ويضيف "لأنه يفترض بالنجوم أن تكون بعيدة المنال". ولأجل طمأنة والدته بأنه لن يكون في متناول فيل، يفصح لوالدته عن مخططه للتخلص من فيل، وإن بشكل موارب، بالقول "سأحرص على ألا تضطري إلى فعل ذلك"، لكأنه يشير بالقول لوالدته: (لن أسمح أن تتلطخ يداك بدم فيل كما تلطخت بدم والدي، وأنا من سينفذ هذه الجريمة). فبيتر ضحى بحياة فيل كما ضحى المسيح بحياته من أجل الرب! ومع هذا، يحتفظ بيتر بالحبل/ الهدية تحت سريره؟ الحبل مرتب بشكل دائري كحبل المشنقة، تمامًا كما الحبل الذي لف رقبة والد بيتر إبان "انتحاره"، أو بما لا يحتمل الشك، بمقتله على يد زوجته روز غوردن شنقًا. فهل سيكون هناك ضحايا جدد لبيتر ووالدته!