14-فبراير-2022

من الفيلم (IMDB)

بإخلاص لسينما الهامش، ينطلق المخرج الإسباني دانييل مونثون في فيلمه الجديد "قوانين الحدود" (Las leyes de la frontera) ليرسم صورة بائسة لإسبانيا في عام 1978، عام الاستعداد لإصدار الدستور الديمقراطي الذي من خلاله تبدأ الدولة الأوروبية في السعي الحقيقي للخلاص من إرث الفرانكوية، والبدء في طريق سيحصد ثماره بعد عدة سنوات.

في فيلمه الجديد "قوانين الحدود"، يسلط دانييل مونثون الضوء على مخلفات الفرانكوية، في إحياء حقيقي لزمن لا ينسى لكنه قابل للتزييف

يقف مونثون، صاحب فيلمين سابقين تميزا برصد الواقع المأزوم هما "زنزانة 211" و"الطفلة"، على هذه الحدود بين فترتين، مسلطًا الضوء على مخلفات الفرانكوية، في إحياء حقيقي لزمن لا ينسى لكنه قابل للتزييف. ويقف على حدود أخرى هي تحوُّل البطل من ابن للطبقة الوسطى الطموحة والمحافظة إلى لص ومجرم يشارك بقوة كراهيته لطبقته وبقوة حبه الأول في أعمال إجرامية. والحدود كذلك، التي تفرض قوانينها، بين الحي الراقي والحي الفقير، بين ناتشو، البطل المراهق، وتيري، البطلة المتشردة. في المنتصف تمامًا تتحرك الكاميرا لترصد تناقض الفترة، وهو تناقض يناسب  فترة الانتقال لإسبانيا الخارجة توًا من دكتاتورية باعت خطابًا مزيفًا، ولتنتظر بأمل فرصة أخرى.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "أمهات متوازيات" كدراما للفقد والاستعادة

الفيلم المعروض في أواخر العام الماضي، والمرشح الآن للفوز بست جوائز غويا، التي تمنحها أكاديمية السينما الإسبانية، يدور بين قوسين: الأول زيارة البطل الناضج ناتشو (ماركوس رويث) بعد أن غدا محاميًا لـ ثاركو (تشيتشو سالجادو) في السجن بعد 28 عامًا من وقوع الحادثة المركزية في الفيلم (سرقة بنك، عام 78)، والقوس الثاني يغلق مع نهاية العمل بعودة ناتشو الناضج إلى مكان تجمّع العصابة وذكرى وداع حبيبته تيري (بيجونيا بارجس) التي رحلت عن الحياة. بين البداية والنهاية، يمتد الفيلم لمدة ساعتين حول ناتشو المراهق المنطوي والغريب، ابن السابعة عشرة، الذي يتعرض للتنمُّر والضرب من زملائه، والباحث عن معنى لحياته ومهرب من هزيمته الشخصية. في هذا البحث يلتقي بـ تيري التي تكبره قليلًا، فتاة من الطبقة الفقيرة والحي العشوائي، النتاج الطبيعي لسياق اجتماعي وسياسي خلّف وراء واجهته البرّاقة أمواتًا من الأحياء. بدايةً من هذا اللقاء ينطلق الفيلم ليدور في خطين: الخط الرومانسي ناتشو/تيري، والخط الجرائمي ناتشو/أفراد العصابة. الحب سيؤدي بالبطل إلى طريق المخدرات والسطو على البنوك والصيدليات، ليحدث تحوُّله بخروج عن عباءة الأب/السلطة بعمليات إجرامية من ناحية، وخروجه على هزيمته الشخصية بخوض تجربة حب أولى عنيفة وخالدة، ثم تأتي مرحلة أخرى يتجاهلها السيناريو لفترة طويلة ويلخصها في مشهد واحد: العودة إلى الضفة الأولى واستعادة حياة الطبقة الوسطى، في تناغم مع عودة إلى إسبانيا إلى نفسها بعد سنوات الدكتاتورية.

اعتمد الفيلم على رواية بنفس العنوان للروائي الشهير خابيير ثيركاس، ورغم التزام مونثون كمخرج وشريك في كتابة السيناريو بالخطوط الرئيسية للعمل، إلا أنه يختار له تكنيكًا سينمائيًا يختلف عن تكنيك "الميتارواية" الذي اتبعه ثيركاس في كتابة عمله. إضافات مونثون الإخراجية تتفق مع رؤيته السينمائية في فيلمين سابقين، وتعتبر، بطريقة ما، امتدادًا لسينما إلوي دي لا إجليسيا، وخوسيه أنطونيو دي لا لوما وبعض أفلام كارلوس ساورا مثل "سريعًا، بسرعة"، وهي سينما تسلط الضوء على الواقع القذر، وتبني سرديتها على أشخاص مهمّشين، على أبطال لا يتمتعون ببطولة في الحياة، حتى بطولتهم في السينما لا تحظى بكثير من التعاطف.

يمنح فيلم "قوانين الحدود" صوة صادقة عن إسبانيا المضطربة بعد موت فرانكو ومرحلة الانتقال، كما يلفت الانتباه بقدرته على إثارة المشاعر وتطوير الحبكة بمهارة

بذلك، وبعد أكثر من أربعين عامًا على الفترة الانتقالية، يعود مونثون إلى لحظة تاريخية تتسق مع فكرة "الذاكرة التاريخية" التي انطلق منها كذلك بدرو ألمودوفار في فيلمه الأخير "أمهات متوازيات" (المرشح كذلك لعدة جوائز غويا). لكن الذاكرة هنا تسلط الضوء على "الموتى الأحياء"، المجهولين من السلطة والمنسيين من جهة الحكومة، في مقابل "الموتى المدفونين" في فيلم ألمودوفار. يعتني مخرج "قوانين الحدود" بإعادة بناء الزمن عبر تفاصيل شديدة الدقة: الملابس، الإكسسوارات، الصورة الفوتوغرافية، الألوان المشبعة، شكل البنايات والأحياء، الشوارع والسيارات. إنه تحدٍ حقيقي انتصر فيه المخرج حتى يبدو الفيلم خارجًا من السبعينيات، لكن النجاح الآخر وربما الأهم تمتعه برؤية مبصرة لإسبانيا تلك الفترة، وقدرته على وضع الحي المنسي (الشبيه بعشوائيات القاهرة)، والمتجاهل بالطبع فيما بعد، على رأس المشهد كإرث أصيل للدكتاتورية العسكرية، إرث يتكامل مع عالم المخدرات والعصابات المنظمة.

اقرأ/ي أيضًا: الصراع والخوف في أعمال بونغ جو هو

أثناء رسم الفيلم لتلك اللحظة التاريخية، لا يكتفي بسلوجان أفلام النوع، ولا يتوه في عالم الجريمة، وإنما يروح إلى أبعد من ذلك، أحيانًا برسم توثيقي، وأحيانًا بمشاهد عابرة لكنها دالة. هنا يظهر الأب الذي شارك في مظاهرات الطلبة عام 68 وتعرض للسجن ثم الإفراج عنه بعد رشوة المحقق، في مقابل محقق آخر سيغفر للمراهق ناتشو خطأ جرائمه ويرفض القبض عليه، مانحًا إياه فرصة ثانية. ثمة سلطتان في زمنين مختلفين، واحدة تدعي المثالية وترتشي، وثانية تسعى للغفران الحقيقي والبدء من جديد. لا يبتعد هذا المشهد عن واقع سياسي أكبر تأسس على دستور يجمع كل مقاطعات الحكم الذاتي، واتفاق مجتمعي على دولة ديمقراطية حديثة تنحاز للمدنية والمواطنة. بمشاهد مثل هذه، يتأكد التزام مونثون في ترميم الذاكرة، ومحاولة الإجابة عن سؤال عالق يخص بقايا الفرانكوية وبدايات الانتقالية.

يمنح الفيلم صوة صادقة عن إسبانيا المضطربة بعد موت فرانكو ومرحلة الانتقال، كما يلفت الانتباه بقدرته على إثارة المشاعر وتطوير الحبكة بمهارة، دون أن يقع في تنميط الشخصيات أو تحميلها أكثر ما تحتمله من أفكار، ورغم أنه ليس فيلمًا عظيمًا، إلا أنه ثري في مشاهده وذكي في عودته التاريخية وقدرة أبطاله على الإقناع. ولعل ميزته الكبرى لا ترتكز في العناصر الإخراجية الجمالية بقدر نقده الفني والرهيف للخطاب القومي الذي مجّد الدولة الإسبانية فيما كانت الأحياء المهمّشة تتضور جوعًا. أفلام من هذا النوع تتمتع بدعوة المشاهد إلى التعرف على التناقض الذي يجمع بين خطابات السلطة الرنانة، في جانب، والفقر المدقع في جانب آخر. ومن الشق بين الجانبين تولد إسبانيا جديدة.

اقرأ/ي أيضًا:

بول توماس أندرسون كما يراه نجوم أفلامه

فيلم "Don’t Look Up".. نقد العلم وتجريحه