15-فبراير-2022

من الفيلم

"قطار الليل إلى لشبونة"، للمخرج الدنماركي بيل أوغست، فيلم أزمنة ومسافات ومفارقات مؤلمة. أو هذه هي، على الأقل، صفاته التي تحيل إليها قصته الموزعة على زمنين ومكانين. وهي قصة تتشارك في بطولتها شخصيات متعددة تتداعى علاقاتها ببعضها بعضًا، وبذواتها، نتيجة مفارقات لا تكتفي بتفريقها فقط، بل تصنع أيضًا مصائرها التي تبدو، إلى حدٍ ما، مشتركة.

يبدو الفيلم بحثًا في معنى العلاقات الإنسانية وجوهرها، بل في معنى تشكلها وانهيارها وأثر ذلك في سلوك الفرد وتصرفاته أيضًا

تعدُّد أبطال الفيلم وترابط قصصهم ببعضها تجعله غير قابل للتلخيص. مع ذلك، يمكن القول إنه قصة "أماديو دي برادو"، التي تحضر على هامشها قصص بقية شخصياته، التي تروي بنفسها قصة الأخير على مسامع "ريموند غريغوريوس"، أستاذ اللغات السويسري الذي يسعى خلف حكاية أماديو بسبب كتاب.    

اقرأ/ي أيضًا: 11 فيلمًا في سجل ديفيد فينشر.. سينما تأتي من الظل

الكتاب هو مذكرات أماديو التي عثر عليها ريموند في جيب معطف فتاة صادفها، في طريقه إلى عمله، تحاول رمي نفسها من على جسر كرشنفلد في مدينة بيرن السويسرية، فسارع إلى إنقاذها. سنعرف، قبل نهاية الفيلم، أن الفتاة حاولت الانتحار بسبب هذا الكتاب الذي قرأه ريموند فشعر، لشدة تطابق أفكار مؤلفه مع أفكاره وتصوراته حول الحياة والموت، أنه من قام بتأليفه.

نتعرف في لشبونة، التي وصلها ريموند بحثًا عن أماديو، إلى "أدريانا"، شقيقته، التي نشرت مذكراته بعد وفاته التي ترفض تصديقها، ولم تحدّث ريموند عنها في لقائهما الأول، غير أن الأخير سيعرف بالأمر من خادمتها. هكذا يدخل الفيلم مرحلة جديدة نتعرف فيها إلى شخصيات عديدة لا تفعل شيئًا غير سرد تفاصيل علاقتها بأماديو، بالإضافة إلى بعض تفاصيل حياته التي كانت جزءًا منها، على مسامع ريموند غريغوريوس.

تروي شخصيات الفيلم، على هامش حديثها عن أماديو، بعضًا من سيرتها، أو التفاصيل المؤلمة منها فقط، فيتحول الفيلم إلى قصص متفرقة في قصة واحدة. قصص هذه الشخصيات نفسها التي جمعتها بأماديو علاقات حب، وصداقة، ودم. قصة أدريانا التي رفضت تصديق وفاته، إلا أنها تعيش ألم فقدانه وغيابه. وقصة جورج، صديق أماديو المقرب الذي اكتشف أن الأخير يخونه مع عشيقته "ستيفانيا".

 إنه أيضًا قصة ستيفانيا التي اعتقلت الشرطة السرية والدها بسبب نشاطه ضد نظام الدكتاتور أنطونيو سالازار، فلجأت إلى جورج الذي تخلت عنه بعد لقائها بأماديو. بل هو قصة جون الذي اعتقلته الشرطة السرية أيضًا بعد أن أعطب "مينديز"، المعروف بـ "سفاح لشبونة"، يديه. كما قد يكون قصة تلك الفتاة التي نعرف في نهاية الفيلم أنها حفيدة مينديز، وأنها حاولت الانتحار لأنها اكتشفت، حين قرأت مذكرات أماديو، أنه جلاد. تتكرر هذه المفارقات طوال الفيلم، فنتأكد أنها مصدر مصائر شخصياته التي تتشارك في دفع الأيام ومحاولة تجاوزها.

مع ذلك، يبقى أماديو محور الفيلم وقصص شخصياته وما تستعيده من ماضيها. كما يبقى أيضًا مصدر ألم بعضها، لا سيما جورج وجون. فالأول يعيش ألم خيانته له مع عشيقته ستيفانيا. والثاني لا يستطيع تحريك يديه كما بسهولة بسبب مينديز الذي، وللمفارقة، أنقذ أماديو حياته، بوصفه طبيبًا، قبل وقوع الحادثة بأيام قليلة.

“قطار الليل إلى لشبونة” قصص حب وصداقات وعلاقات قرابة تشترك في أنها تؤذي أحد طرفيها، أو كلاهما معًا

يبدو الفيلم، في واحدة من صفاته، بحثًا في معنى العلاقات الإنسانية وجوهرها. بل في معنى تشكلها وانهيارها وأثر ذلك في سلوك الفرد وتصرفاته. قد يكون أيضًا مُساءلة مطولة، أو محاكمة، لتلك العلاقات. علاقات الحب والصداقة والدم. بل يتراءى لنا، في سياقات معينة، وعند المقارنة بين حياة غريغوريوس وحيوات أماديو دي برادو وشقيقته أدريانا، وصديقه جورج وعشيقتهما ستيفانيا، وصديقهم جون؛ أنه دعوة لأخذ مسافة أو وضع حواجز، فما جرى لتلك الشخصيات يرجع إلى اقترابها من بعضها بعضًا أكثر مما يجب. إنه تلك السلاسة في سرد قصصه، وهذا التعقيد في تفسير معناها.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "قوانين الحدود".. السينما إذ تعيد تركيب الماضي

الفيلم أيضًا قصص حب وصداقات وعلاقات قرابة تشترك في أنها تؤذي أحد طرفيها، أو كلاهما معًا. كما أنه، في أحد جوانبه، سرد مقتضب عابر لأحوال البرتغال، السياسية منها تحديدًا، زمن ديكتاتورية أنطونيو سالازار. وهو أيضًا، في النهاية، هذه القدرة على جمع قصص ومواضيع متباينة معًا، ثم سردها بطريقة سلسلة ومنتظمة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بول توماس أندرسون كما يراه نجوم أفلامه

فيلم "أمهات متوازيات" كدراما للفقد والاستعادة