02-مارس-2022

من الفيلم (IMDB)

هل كان الزعيم المصري جمال عبد الناصر مؤيدًا للنازية؟ لا يتطلع الفيلم الوثائقي الإسباني: "أخطر رجل في أوروبا: أوتو سكورزيني في إسبانيا"، أن يجيب عن هذا السؤال، لكنه، بمحض صدفة كشف عن واحد من أسرار الدولة المصرية في الحقبة الناصرية، علاقة ناصر بالنازيين الفارين عقب الحرب العالمية الثانية، بالتحديد في ستينيات القرن الماضي.

كانت إسبانيا الفرانكوية في عز قوتها في وقت التمزق الأوروبي، ولذلك كانت جنة النازيين الفارين من عقاب ما بعد الهزيمة

الفيلم الذي تمتد أحداثه من العشرينيات حتى 2010، يرصد حياة أحد أهم الشخصيات النازية: أوتو سكورزيني، الحرس الشخصي لهتلر، منقذ موسوليني من محبسه النائي، بعد عزله، بعملية خطيرة، وصاحب الأدوار المؤثرة في الحرب العالمية الثانية. نحن أمام مراحل متعددة وتنقلات لافتة في حياة شخص واحد، أولها علاقته بهتلر، وثانيها تهريبه من السجن عقب هزيمة ألمانيا النازية، ثم لجؤه في إسبانيا، حيث تبدأ مرحلة هي الأهم والأكثر تأثيرًا في السياسة الدولية. لكن الفيلم اختار ألا يسير بالتتابع الزمني، لينتقل بمهارة بحسب أفكار رئيسية من زمن لآخر، بهدف جمع قطع البازل في حياة ملأى بالتفاصيل.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "السقوط".. تأريخ بصري لأيام الرايخ الثالث الأخيرة

كانت إسبانيا الفرانكوية في عز قوتها في وقت التمزق الأوروبي، وعلاقة الصداقة بين فرانكو وهتلر لا تقل بأي حال عن علاقة هتلر/موسوليني. لذلك كانت جنة النازيين الفارين من عقاب ما بعد الهزيمة. بفرار سكورزيني، بدأ جسر من منظمات معنية بالقيام بهذه المهمة، وبالإضافة لمنظمته الخاصة، كان سكورزيني شريكًا وداعمًا لمنظمات لا تكتفي بنقل النازيين إلى إسبانيا، إنما بمد الجسر إلى أمريكا اللاتينية كذلك. لقد احتضن نظامُ فرانكو حارسَ الفوهرر الشخصي، سمح له بالعبور بهوية مزيفة، ثم سريعًا ما سمح له بالظهور بهويته الحقيقية، ليتحول بداية من سنوات الخمسينيات لشخصية عامة، لرجل أعمال مليونير، لتاجر سلاح يعتمد عليه النظام في السوق السوداء وبيع السلاح لجنوب أفريقيا. لم يحظ مواطن إسباني، ولا حتى أذيال النظام، بما حظى به النازي القديم من تسهيلات، فالرجل الذي وصل هاربًا إلى بلد غريب أصبح في سنوات قليلة حديث الصحف والجرائد ووجهًا مألوفًا في الحفلات الاجتماعية وعشاءات العمل.

اعتمد الفيلم، المعروض الآن على نتفلكس، على ألفي وثيقة هي أرشيف أوتو سكورزيني كان قد سلّمها بنفسه لزوجته قبل موته في التسعينيات، في بيته المدريدي، وزوجته بدورها، ربما بسبب الخوف، سلّمتها لعائلة آل باردو الإسبانية لتحتفظ بها، خوفًا من النازيين، في مكان آمن. الوثائق التي ضمت جوازات سفر وحسابات بنكية في عدة دول وأفلامًا تسجل أحداثًا شخصية ومراسلات هامة وأجندة اتصالات، ظلت خبيئة العائلة البرجوازية مدة 11 عامًا، حتى جاء أحد أبنائها، بيقين أن النازية انتهت وما من تهديد، ليعرضها في مزاد علني في عام 2010، وليشتري المؤرخ الأمريكي رالف جاميس جزءًا كبيرًا منها، لاهتمامه بسيرة هذا الرجل.

يكشف الفيلم العديد من الأحداث التاريخية الهامة، أهمها، بالنسبة لنا، لقاء بين سكورزيني وعبد الناصر في القاهرة عام 1965. عداء الزعيم المصري للكيان المحتل كان معروفًا، لكن هذا اللقاء كان سريًا للغاية. لقد خطط عبد الناصر لاستغلال كراهية النازيين لليهود وكرهه هو للكيان المحتل ليعقد اتفاقًا بموجبه يستفيد من المهندسين والعلماء النازيين المطاردين في أنحاء أوروبا، ليشيد من خلالهم مصنعًا للصواريخ متوسطة المدى. وبحسب المعلومات المتوافرة لديه، فالشخص الوحيد المتواصل مع كل النازيين والقادر على القيام بهذه المهمة هو أوتو سكورزيني نفسه، المقيم حينها في مدريد، والمتنعم في نعيم فرانكو (صديق آخر لعبد الناصر، إذ لتقوية العلاقات المصرية/الإسبانية وافق الرئيس المصري على اقتراح طه حسين بتأسيس المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد، وفتح العلاقات الثقافية بين البلدين). لبّى سكورزيني الدعوة، ووافق على الصفقة، وبدأ بالفعل في التواصل مع المهندسين والاستعداد للمهمة.

خطط عبد الناصر للاستفادة من المهندسين والعلماء النازيين المطاردين في أنحاء أوروبا، ليشيد من خلالهم مصنعًا للصواريخ متوسطة المدى

يحكي الفيلم، معتمدًا على الوثائق، اطلاع الموساد على تفاصيل الزيارة (هنا علامة استفهام حول كيفية تسريب المعلومة) والسعي لإجهاض الاتفاق. كانت إسرائيل قد بدأت بالفعل في ملاحقة النازيين المتورطين في الهولوكست قضائيًا، وقد حاكموا عددًا منهم. هذه كانت الورقة الرابحة في الضغط على سكورزيني للتخلي عن اتفاقه مع ناصر والعمل لدى الموساد. ورغم نازيته التي ظل يدافع عنها، إلا أنه وافق على إلغاء الصفقة المصرية مقابل ألا يتعرض لمحاكمة اسرائيلية، مع أنه لم يثبت عمله لدى الموساد، بحسب الفيلم.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم Sobibor.. فائض سياسي لتوظيف الهولوكوست واحتكاره

كيف كانت ستتغير خريطة المنطقة العربية لو تم الاتفاق وصنّعت مصر الصواريخ المرجوة بأيادي خبراءٍ ألمان؟ ربما كنا سنتجنب هزيمة 67 وما ترتب عليها، وربما نتخيل سيناريو أفضل بالعودة لحدود 48. لكن الفيلم الوثائقي لا يتخيل، لتكون علاقة ناصر/سكورزيني مجرد محطة في حياة النازي الألماني، تلتها محطات أخرى.

في التحقيق معه عقب سقوط ألمانيا، سعت السلطة الأمريكية لتبرئة أوتو من كل الجرائم المثبتة بالفعل، ليبدو كمجرد منفذ للأوامر. لقد قدّرت السلطة الأمريكية المنتصرة قيمة الرجل وقررت الاحتفاظ به كعميل لديها بدلًا من سجنه. هكذا كان قرار الهرب إلى إسبانيا قرارًا أمريكيًا تلقاه سكورزيني بترحيب. من هنا بدأ كعميل لدى الـ CIA، وأعداء الأمس صاروا أصدقاء اليوم. يسلط الفيلم الضوء على الحدث الأهم في العلاقة بين البلدين، الاتفاق على إقامة قاعدة عسكرية أمريكية في الأراضي الإسبانية، اتفاق ما كان ليتم بدون وساطة النازي الألماني، ليشعر الجميع اتجاهه بالرضا.

المحطات التي عرضها الفيلم الوثائقي تكشف ما يهدف إليه العمل: إماطة اللثام عن شخصية مؤثرة وغامضة في حقبة زمنية مضطربة. تغطية بانورامية لحياته الشخصية من جانب، وحياته العامة من جانب آخر، حياته الألمانية وحياته الإسبانية، والتركيز على تأثيره على صناع القرار بما فيهم الوصول للرئيس الأرجنتيني بيرون وزوجته إيفا. غير أن الفيلم، على أهميته، مجرد رأس السهم الذي ثقب المجهول، إذ يحتاج سكورزيني ووثائقه إلى مزيد من الدراسة فيما يخص علاقته بالمنطقة العربية، من ناحية، والشبهات حول تورطه في اغتيال كيندي، من ناحية أخرى.

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم "Operation Finale".. نازيون جدد يقتصّون من نازيين قدامى

"السكك الحديدية تحت الأرض": أمريكا القاتلة.. أمريكا العنصرية