08-مارس-2022

من الفيلم (IMDB)

في الفصل السابع من "جمهورية أفلاطون"، يطرح الفيلسوف الإغريقي تصوره عن الإنسان، كساكن في كهف، مكبلًا بالأغلال منذ ميلاده، ظهره لمدخل يفصل بينه وبين نار ملتهبة ممر، من هذا الممر يمشي أناس يحملون بين أياديهم تماثيل بشرية وحيوانية مصنوعة من حجارة وأشياء أخرى من خشب. أمام الإنسان جدار بمستوى رأسه، كلما تحركت الناس انعكست ظلالهم على الجدار بفعل النار وبخيط النور المتسلل من المدخل. الإنسان المكبل لا ينهض، لا ينظر يمينًا ولا يسارًا ولا للوراء، مصيره الأبدي أن يرى ما أمامه ويظنه الحقيقة، رغم أنه لو تمكن ذات يوم وتحرر من أغلاله سيري حقيقة أخرى، سيعرف أن ما يراه ليس إلا ظلال الحقيقة، أو ربما الحقيقة المزيفة. بهذه الصورة، يرسم أفلاطون الكهف كزنزانة، والإنسان ليس إلا كائن أحفوري يعيش في الحفرة ويتغذى على الحشرات، يصنع جنته في هذا الحيز، وخارجه لا شيء يمنح الأمان.

يتجسّد كهف أفلاطون بمعناه المادي مع انطلاق الحروب، إذ لا يسع الإنسان إلا مواجهة الموت أو الاختباء في حفرة

يتجسّد كهف أفلاطون بمعناه المادي مع انطلاق الحروب، إذ لا يسع الإنسان إلا مواجهة الموت أو الاختباء في حفرة، ولأن كلمة حرب= موت، ولأن الموت هاجس الإنسان الأبدي، جاءت الإلياذة كملحمة كبرى لتجسدها في حكايات خالدة عن الطرواديين، قبل قرون من ميلاد عمل تولستوي العظيم "الحرب والسلام"، لتكون البشرية، بتاريخها المخزي، سجينة كهف الضلالات، وليكون الإنسان محض مكبل بأغلال.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "الخندق الأبدي".. العيش على حافة العالم

الكهف كمجاز، الكهف كواقع

من هذه الرؤية نفسها، ينطلق الفيلم الإسباني "الخندق الأبدي" Trinchera infinita، للمخرج جون جارانيو، إذ يتناول واحدة من الأفكار النادرة في تاريخ أفلام الحروب: قصة هؤلاء الذين، لأسباب أيديولوجية ولكونهم مطاردين ومهددين بالقتل، يصنعون خندقًا في بيوتهم ليعيشوا فيه ما يربو على أربعين عامًا. إنها القصة المستلهمة من قصة حقيقية كان بطلها مانويل كورتيس، عمدة مدينة مالجا اليساري في السنوات الأخيرة لحكم الجمهوريين، قبل الانقلاب العسكري الذي قاده فرانكو عام 1936، ليعيش البلد بتجربته الديمقراطية الواعدة ثلاث سنوات من حرب أهلية، انتهت بهزيمة الحكومة اليسارية وانتصار الفاشية، لتحكم الفرانكوية بالنار والحديد حتى عام 1975.

 لم يكن العمدة مانويل كورتيس، واسمه في الفيلم إيخينيو (يجسّده الممثل أنطونيو دي لا توري)، حالة واحدة فريدة، وإنما نموذجًا لآلاف المعارضين للانقلاب على الحكومة اليسارية، الذين لم يجدوا أمامهم إلا الاختباء حتى تمر العاصفة أو اختيار الموت رميًا برصاص عساكر فرانكو، كما حدث لـ لوركا. لقد اختار إيخينيو مثل آخرين غيره هذه الحياة المختبئة، هذه القوقعة البغيضة، غرفة لا تليق إلا بالفئران، حتى أُطلِق عليهم اسم Los topos، ويُقصد به حيوان الخلد، الأحفوري، هذه الثدييات الصغيرة التي تعيش في الحُفر وتتغذى على الديدان والحشرات.

في فيلم "الخندق الأبدي"، يتحول البطل من مناضل يتبنى الأفكار الاشتراكية إلى مجرد أحفوري صغير لأن الفاشية ولأن الحرب الأهلية لم تسمحا له، ولآلاف غيره، بالحياة الطبيعية

لقد تحول البطل من مناضل يتبنى الأفكار الاشتراكية إلى مجرد أحفوري صغير لأن الفاشية ولأن الحرب الأهلية لم تسمحا له، ولآلاف غيره، بالحياة الطبيعية، فكان التحول لإنسان الكهف/الخندق/الزنزانة هو المصير المرتقب. لكن المصير الذي توقّع أن يكون لعدة أيام، طال وامتد لأربعين عامًا.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "قوانين الحدود".. السينما إذ تعيد تركيب الماضي

الهروب نحو السجن

ينطلق "الخندق الأبدي" من لحظة الانقلاب، دون أن يعنيه صور القادة ولا اجتماعاتهم ولا ثكناتهم، وإنما يدخل منذ اللحظة الأولى في حياة إيخينيو، في لحظة تحوله الأهم: انتقاله من عمدة لمدينة إلى طريد تلاحقه قوات فاشية، من إلقاء القبض عليه لأنه مطلوب من الفرانكوية إلى ركضه الطويل والمستمر بعد قفزه من سيارة الترحيلات. مشاهد سريعة ومتوترة، حالة من الرعب تنقلها حركة الكاميرا وصخب اللهاث، رسم صورة فنية ماهرة لوضع الخارج الذي سيختبئ منه، وتبرير مقنع لما سيأتي بعد ذلك من اختباء أبدي. ثمة زوج شاب يركض لينقذ حياته، يقابلها في نهاية الفيلم صورة زوج عجوز يخطو إلى خارج البيت كطفل يتعلم المشي. الشاب الذي يركض في البداية عجوز تتعثر خطواته في النهاية، وبين المشهدين مئات المشاهد التي ترصد التحول من مناضل إلى فأر، من القلق من الخارج إلى التكيُّف مع الداخل، من اليقين إلى الشك إلى البارانويا. أربعون عامًا من الحياة في عدة أمتار، صريع الرعب والأمل، هو ما حاول الفيلم أن يرصده بهدوء قاتل وألم مكتوم.

باستثناء المشاهد الأولى بالخارج وبعض مشاهد النهاية، تدور أحداث الفيلم في الداخل، تنتقل الكادرات من الغرفة السرية المشيدة خلف جدار بالصالة لتتجول في البيت نفسه. التراجيديا لا تتجسد في أنه حبيس بيت صغير، وإنما داخل هذه الزانزانة ثمة زانزانة أخرى أصغر، داخل الداخل، لتكون لحظات نزهته هي الخروج من داخل الكهف إلى كهف أكبر قليلًا هو البيت نفسه، ولتتلخص سعادته في لقاءات حميمة بزوجته روسا (تجسدها بيلين كويستا) ومحاكاة حياة يعيشها الناس بكل طبيعية، فيتناولان الطعام معًا، بدون أن يغيب حديث الخوف والسؤال عن أخبار الخارج. وبكثير من المشاهد الهادئة، يتبنى الفيلم العالم الداخلي، ليس فقط البيت/الزنزانة، وإنما كذلك عالم البطل الداخلي، تحولاته النفسية وشكوكه وارتياباته من كل شيء وكل أحد. ثمة جدارية هائلة للبارانويا تتكوّن مع التقدم في الأحداث، لا يتعارض معها أنه زمن الوشاية بالفعل، ولا زيارات بصّاصين النظام الذين لم يفقدوا الأمل في العثور عليه لقتله.

يقول فيلم "الخندق الأبدي" كونك لست مطاردًا لا يعني أنك آمن، فحراس المطاردين أكثر ألمًا منهم، إذ عليهم الوقوف في المنتصف بين الخارج المنقض والداخل المرعوب

لتأكيد أحقية البطل في البارانويا كشعور طبيعي، تحمَل روسا وتضطر لهجر البيت لشهور لتلد في مدينة أخرى، وتعود بمولود تدعي أنه ابن أختها حتى لا تثير الشبهات. في الشهور الفاصلة يسكن البيت مثليان، هاربان آخران من الحكم الفاشي، تعني الوشاية بميولهما القتل رميًا بالرصاص كذلك. حين يكتشفهما إيخينيو يسمح لهما باستعمال البيت في مقابل إطعامه. ثمة بؤس عارم في مشاهد الثلاثة: مناضل يساري مختبئ من أحكام الفرانكوية القومية، ومثليان غير مسيسين يختبئان من أحكام الفرانكوية الكاثوليكية. الكل مطارد ما لم يكن فرانكويًا، لا ميول جنسية مسموح بها ولا ميول أيديولوجية مباحة إلا ما يراه الحاكم الأوحد. والعقاب القتل، خارج القانون، خارج المحاكمة.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "ألم ومجد" لألمودوفار.. سيرة ذاتية تمجّد عتبة الألم

ليل/داخلي ممتد

إذا كان الداخلي هو اختيار الفيلم للتعمق في معنى الكهف، والخارجي ليس إلا مشاهد الخوف، فالسيناريو يدور بين حياة زوجية يظللها الحب كمعنى عام وكبير، وتفاصيل يومية صغيرة يسيطر عليها توابع الميلانخوليا: البارانويا، الشك في كل أحد وكل شيء، اليقين في أنهم قادمون لا محالة وسيُقتل، وبالتالي التوتر والاضطراب. في مقابل هذا الداخل ثمة تسلل من الخارج عبر باب البيت، زيارات البصاصين الذين لا يكفون عن البحث عن إيخينيو، وزيارات جونثالو، الجار الذي لا يشغله إلا الوشاية بجاره، وفي انتظار اللحظة المناسبة للانقضاض عليه. في كل هذه التراجيديا، ثمة امرأة، روسا العظيمة، تقوم بكل الأدوار: الحامية للزوج، المعيلة له، السجانة لنفس الزوج حفاظًا على حياته، وفوق كل ذلك العين التي ترى نيابة عنه وناقلة أخبار المدينة، قبل أن تقوم بدور إضافي هو الأمومة السرية كذلك.

روسا هنا، في دور استحقت عليه بيلين كويستا جائزة جويا كأفضل ممثلة، بطلة رئيسية في المأساة، فكونك لست مطاردًا لا يعني أنك آمن، فحراس المطاردين أكثر ألمًا منهم، إذ عليهم الوقوف في المنتصف بين الخارج المنقض والداخل المرعوب. وروسا بطلة من نوع خاص، نوع الأبطال الذي لا يشعرون ببطولتهم، ولا ينتظرون مقابلًا ولا امتنانًا، إنها البطولة النابعة من الإيمان بقضية، دون أن يكون في ذلك أي تضحية، حتى لو كانت التضحية ما يقرب من أربعين عامًا من عمر الإنسان. وروسا بطلة في شبابها وفي ذبولها، في ظهرها المنحني أمام ماكينة خياطة، وفي جسدها النحيف الذي عانى الفقر بقدر ما عانى الخوف، وفي عينيها الغائرتين ونظرات الحيرة، وفي أسوديتها أمام البصاصين ورقتها حين تلتفت إلى داخل البيت.

بميلاد الطفل، يولد حارس آخر للمطارد، لكنه على عكس روسا، ورغم عدم تخليه عن أبيه، لن يتبنى الطفل الذي سيصير مراهقًا وشابًا نظرية الأب المختبئ، فالنضال هو الخروج، والمناضلون هم الموتى وليس المختبؤون. بذلك، يقدم الفيلم، رغم تعاطفه مع كائن الخُلد، وجهة نظر أخرى لتخليد ضحايا الفاشية الذين انتهت حياتهم برصاصة غاشمة. هذا التوتر بين الاختيار الأمثل هو نفسه التوتر السائد في الحياة بين الاختباء من الرصاص كغريزة بشرية، أم فتح الصدر له انتصارًا للقيم.

ألوان قاتمة كدلالة

اعتمد الفيلم على الألوان القاتمة، ورغم أنه إنتاج 2019، إلا أنه يبدو أبيض في أسود. قد يرجع ذلك إلى الفترة التاريخية التي يتناولها، لكن قتامة الألوان ترجع كذلك لفكرة الشكل المعبّر عن المضمون، تأتي كانعكاس للرعب، كتعبير عن كهف لا يضم إلا سرير وجهاز راديو وظلام داخلي منبعه الظلام الخارجي. تتسق الألوان القاتمة كذلك مع فيلم امتد لمدة ساعتين ونصف بدون ضحكة واحدة، بدون سخرية سوداء، بمشاهد حميمية نادرة تراوحت بين اغتصاب انتهى بقتل أو لقاء بين إيخينيو وروسا بدأ من انتقاد الرائحة العفنة. ألوان هي المتحدث الرئيسي في فيلم، رغم أن الحديث يشغل مساحة معقولة فيه، إلا أن الصمت جارف، وتعبيرات الوجه والنظرات وطريقة المشية هي المعبّر الأوسع عن الحالة، أكثر من الحوار.

لن يتبنى الابن في فيلم "الخندق الأبدي" نظرية الأب المختبئ، فالنضال هو الخروج، والمناضلون هم الموتى وليس المختبؤون

الألوان القاتمة ستتغير في النهاية، إذ بعد تردد ورفض، يخرج إيخينيو إلى نهار الحادية عشرة صباحًا، إلى الشمس والنور. التراجيدي في هذه المشاهد الختامية هو العجز والنهار الحالي في مقابل الشباب والظلام الماضي، الحرية والسير في مقابل السجن والأغلال. لا يختار إيخينيو الحرية بقدر ما يختار روسا نفسها، التي قررت الخروج من البيت بعد صدور قرار بالعفو عام 1969 عن كل الجرائم المرتكبة قبل عام 1939، ما يعطي لإيخينيو الحق في الخروج دون خوف، لكن الخوف صار شخصًا هو إيخينيو نفسه.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "صمت الآخرين".. صرخة في وجه الحرب والاستبداد

الخروج

ماذا لو فتحنا للعصفور القفص ليحلّق في حرية؟ أربعون عامًا في عزلة تامة بدون مشاهدة الشمس، بدون السير في الشارع، وبدون الاستماع إلى أصوات سوى صوت الزوجة والابن والبصاصين من رجال النظام، كانت كفيلة لرفض إيخينيو الخروج من الكهف. لكن الخروج نهاية رومانسية، خروج إيخينيو وتجواله بالشارع في وسط النهار يقابله، في المشهد الختامي، حبس جونثالو الذي يتطلع إليه من الظلام ومن خلف نافذة. إيخينيو في الشارع في النهاية، وجونثالو الذي سعى طيلة أربعين عامًا للوشاية به، بات الآن حبيس الكره والغل. هنا كان يجب أن تتغير ألوان الفيلم، وأن يعانق إيخينيو روسا، حتى لو كان الشباب قد ضاع في زنزانة. بوسع الشيخوخة أن تسعد بانتصار واهن، كما بوسع فيلسوف أفلاطون أن يتحرر من أغلاله ومن كهفه، ليرى الحقيقة الحقيقية، وليس الضلالات.

اقرأ/ي أيضًا:

من فرانكو إلى السيسي.. الدكتاتورية حظوظ!

بيثنتي اليكساندري.. الناجي في ذكرى رحيله