22-يوليو-2023
ترتبط فكرة السر عند دريدا ارتباطًا معقدًا بفكرة الاعتراف (Getty)

ترتبط فكرة السر عند دريدا ارتباطًا معقدًا بفكرة الاعتراف (Getty)

هذه ترجمة لمقال الكاتب الأسترالي بيتر سالمون حول الأسرار، وفلسفتها، وتاريخها السياسي والاجتماعي، ودورها في إعادة تشكيل هويتنا.


نحن معتادون على اعتبار الأسرار نوعًا من الأمور المخادعة، لأننا عندما نُحاول إخفاء حقيقة ما، فإننا بالأساس نُحاول استغفال شخص ما. مع ذلك، قد تكون الغايات التي نأمل تحقيقها في بعض الأحيان نافعة، مثل الأكاذيب البيضاء التي نخبرها لأصدقائنا، أو كما في حالة حركات المناهضة، بكافة مسمياتها، التي يقسم أعضاؤها على "السرية". لكننا، بشكل عام، اعتدنا على النظر إلى الأسرار بشكل سلبي، وربطها بالأكاذيب دائمًا. أن نملك سرًا ونحافظ عليه، يعني أن نقدّم وجهًا زائفًا للعالم. وعند المواجهة، يتحتّم علينا أن نقول شيئًا غير صحيح. فأن يكون لديك "سرّ" إنما هو شكل من أشكال الخيانة، لأنه عندما أعرف شيئًا لا تعرفه، فأنا أمنعك بالضرورة من الحصول على هذه المعرفة.

قد يكمن الجانب المحدِّد للسرّ في الفعل المتعمد المتمثل في حجب المعرفة عن الآخرين، سواء كانوا أفرادًا أو مجموعة أو حتى مجتمعًا. إذ إنه لا يمكن أن يكون لأحد ما سرًا لا يدركه، بمعنى أن يُقرر المرء عن قصد ووعي عدم الإخبار. ولهذا فالسر شيء لا نصفه بالكلمات ولكننا نقوله لأنفسنا. لا يكون السر سرًا إلا إذا قرر المرء بوعي أن يُعلن لنفسه ما يرغب في الحفاظ عليه كـ "سر"، ويتخذ في الوقت ذاته قرارًا بعدم السماح لأي شخص آخر بسماع الكلمات التي قالها لنفسه.

يرى جاك دريدا أن هناك تاريخًا سريًا للأسرار، وأن هذا التاريخ هو سياسي بالضرورة

إن فكرة الأسرار كانت تثير اهتمامًا كبيرًا لدى الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا مؤسس "التفكيكية". وعلى غرار الفلاسفة بشكل عام، أظهر دريدا افتتانًا كبيرًا بما يمكن تعريفه على نطاق واسع بأنه "الوعي"، أي الجزء الذي ندركه ونشعر بالارتباط به بشكل وثيق من تفكيرنا. ولهذا يُنظر إلى هذا الجانب من تفكيرنا على أنه جوهر فرديتنا، ذلك أنه يشمل آرائنا الشخصية وتفضيلاتنا وأفكارنا حول مختلف الأمور. كانت هذه الفكرة مركزية في الفلسفة الغربية. فعلى سبيل المثال، ادعى رينيه ديكارت بأن معرفتنا بأننا واعون هو كل ما يمكننا التأكد منه (أنا أفكر إذًا أنا موجود). ومن ناحية أخرى، يعتقد جان بول سارتر بأن الوعي هو أصل حريتنا وضمانها.

في أواخر القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين، قام عدد من الفلاسفة ومن بينهم دريدا بتقديم نقد جذري لهذا الموقف. فالافتراض الذي يقول إن لدينا نوعًا من الوصول المباشر إلى الوعي، وأن الوعي في الواقع هو عبارة عن نوع من التعبير الخالص عن ذواتنا، مشكوكٌ فيه بشدة إن لم يكن زائفًا تمامًا. فقدرتنا على الوعي هي بطريقة ما مماثلة لقدرتنا على العد، كلاهما يمكن اكتسابه من التعلّم. وما يثبت ذلك هو أننا عندما ننخرط في تواصل ذاتي – هذا الصوت الذي في رؤوسنا – فإننا نتواصل باستخدام اللغة التي اكتسبناها من المجتمع الذي ننغمس فيه، ما يعني أنني لو كنت في وقت أو مكان مختلف، فسوف "أفكر" حينها بشكل مختلف في كل شيء. ترى الحجة أنه لا يوجد "أنا" أساسي نقي تحت جميع أنماط التفكير التي اكتسبتها. الصوت الذي في رأسي ليس صوتي.

في عمله المبكر، قام دريدا بتفكيك الطرق التي نخلط بها بين "الصوت في رؤوسنا" و"ذواتنا" أو "هويتنا الحقيقية"، وحتى في الفكر الديني فإننا نذهب أيضًا إلى حد الخلط بين "الصوت في رؤوسنا" و"جوهرنا"، الذي يُشار إليه عادةً باسم "الروح". ووفقًا لدريدا، فإنه يمكن "تفكيك" أي شيء تم "بناؤه"، والتفكيك هنا يعني تفكيك شيء ما، دون تدميره، بحيث يصبح من الممكن إجراء فحص نقدي لمكوناته وافتراضاته الأساسية. إنه منهج يهدف إلى الكشف عن العناصر المختلفة التي ساهمت في فهمنا لشيء ما كمفهوم محدد، سواء كان "الله" أو "الحقيقة" أو "الذات".

عندما يتعلق الأمر بمفهوم الذات، فإننا نأخذ العديد من العناصر المتنوعة ثم نعطيها تسمية موحدة، كما هو الحال في "بيتر سالمون"، فهذا ما أسميه هويتي، وهو الاسم الذي أضعه على مقالٍ مثل هذا (الذي يشتمل في حد ذاته على عناصر متباينة مختلفة، ولكن يتم تقديمه ككل موحد) بالإضافة إلى المستندات القانونية، ومنصات التواصل الاجتماعي، والاسم الذي أقدم به نفسي. وحتى في كتابي عن دريدا الذي يحمل عنوان "حدث ربما" (2020)، يتم عرض اسمي على الغلاف للدلالة على أنني أدعي ملكية الأفكار المعروضة في صفحاته.

ومع ذلك، لا تعبّر أي واحدة من هذه الهويات عن كياني بشكل كامل، فكل واحدة منها تحمل مستوى من السرية. وفي الوقت الحاضر، وكما هو الحال في منصات التواصل الاجتماعي، نحن ندرك تمامًا الأسرار التي نحتفظ بها. على سبيل المثال، من الشائع عدم الرغبة في أن يكون أصحاب العمل لدينا على دراية بأحزابنا أو علاقاتنا الشخصية. في حين أنه ثمة بعض الأمور التي نختار عدم الكشف عنها لوالدينا، أو للسلطات الضريبية في ظروف أخرى.

تساؤلات الهوية والسرية كانت موجودة دائمًا في أعمال دريدا، من أعماله الأولى في الستينيات وحتى أعماله الأخيرة في بداية القرن الحادي والعشرين، وكان ذلك نتيجة لحظة استثنائية في حياته الشخصية. ولد عام 1930 في الجزائر التي كانت مستعمرة فرنسية في ذلك الوقت. وعندما كان طالبًا شابًا، شهد إدخال قوانين جديدة تستهدف اليهود في الجزائر عندما احتلت ألمانيا النازية فرنسا. التحق دريدا بمدرسة يهودية مع طلاب ومعلمين يهود آخرين، وانتهى به الأمر بفقدان جنسيته الفرنسية.

ترك هذا الأمر تأثيرًا عميقًا على الشاب دريدا، إذ كونه مجرد مأساة شخصية على الرغم من أنه أثر عليه بلا شك على المستوى الشخصي. وقد قاده هذا الأمر إلى إدراك الطبيعة التعسفية والهشّة لإحساسنا بالهوية، وكيف يمكن للقوى الخارجية أن تسلبها منّا. كما علمته ضرورة الاحتفاظ بالأسرار للبقاء على قيد الحياة. كانت عائلة دريدا من اليهود العلمانيين، ولكن في ذلك الوقت كانت "يهوديتهم" هي وحدها المهمة في نظر القانون، الذي كان يحظى في حينها بسلطة مطلقة تشمل كل جانب من جوانب الحياة. وقد تضخمت أهمية أن يكون المرء يهوديًا في الإطار القانوني بشكل طغى على الجوانب الأخرى من هوية دريدا.

بعد عام واحد، تغيرت ظروف الحرب واستعاد جنسيته الفرنسية. وقد كان هذا الأمر بالنسبة إلى دريدا البالغ من العمر 13 عامًا حينها محيرًا وصادمًا. وفي لحظة أخرى، خضعت هويته لتحول آخر (على الرغم من أن "استعادتها" لم تكن بالمعنى الكامل - لا يمكن للمرء أن يعود إلى ما كان عليه بالضبط من قبل خاصةً بعد تعرضه للصدمة).

ترتبط فكرة السر عند دريدا ارتباطًا معقدًا بفكرة "الاعتراف"، سواء كان ذلك سياسيًا أو شخصيًا أو دينيًا

تكمن عبقرية دريدا في فهمه أنه على الرغم من أن تجربته الخاصة كانت مثيرة، فإن هشاشة الهوية وعدم القدرة على التنبؤ بها هي جوانب مشتركة، إلى حد ما، بين جميع البشر. الشخص الذي أنا عليه أثناء الكتابة مختلف عن الشخص الذي أُصبح عليه عندما أقضي الوقت مع الأصدقاء، أو عندما أنخرط في علاقة حميمة، أو حتى عندما أزور الطبيب. ويمكن أن يختلف وضعي القانوني اعتمادًا على التغييرات في القوانين سواء في أوقات الحرب أو عند الانتقال أو طلب اللجوء (أظهر دريدا اهتمامًا خاصًا بهذا الموضوع؛ فإذا طلب الفرد اللجوء، فإنه يتم تصنيفه على أنه "لاجئ". هذا التمييز يتجاوز مهنته السابقة. تقول إحداهن: "كنت طبيبة في أوكرانيا، وأنا الآن عامة نظافة في لندن").

ماذا عن السر إذًا؟ إذا كان السر حقًا هو ما أخبره لنفسي وحسب، فالسؤال هنا: هل يوجد ما يجعلني "أنا" بشكل خاص، متجاوزًا حتى الأدوار الاجتماعية التي أُشارك فيها؟ من دون الآخر، هل يمكن أن يكون هناك سر؟ وهل يعتمد السر حقًا على وجود الآخرين؟

إجابة دريدا على هذه الفكرة تعدّ معقدة (كما هو حال علاقة دريدا بأي فكرة أخرى). ما يثير اهتمامه دومًا هو مكامن السرية في حياتنا وخطاباتنا وعلاقاتنا. يرى دريدا أن هناك تاريخًا سريًا للأسرار، وهذا التاريخ هو تاريخ سياسي بالضرورة، فالدولة الشمولية يمكن تعريفها بالنسبة إليه كدولة لا يسمح لأفرادها بامتلاك الأسرار، وتُعد رواية جورج أورويل "1948" أقرب مثال على هذه الفكرة. فالسر الذي يحتفظ به وينستون سميث هو حبه لجوليا. إنه مجبر على الكشف عن هذا السر، وكنتيجة لذلك تتحول مشاعره نحو حُب "الأخ الأكبر". وهذا الأمر موجود في دول شمولية أخرى، فأن يكون لديك سر يعني أن تكون خائنًا، والهدف من محاكمتك هنا ليس المعاقبة فقط، بل إظهار هيمنة الدولة على كل جانب من جوانب حياة الفرد. ففي مثل هذه الأنظمة القمعية يكون من المحرّم على الأفراد امتلاك أسرار.

في الوقت الذي يمكننا فيه اعتبار هذه الحالات متطرفة، فإنه من المهم أيضًا ملاحظة أن هذا الوضع لا يقتصر على الأنظمة الشمولية وحدها، ففي المجتمعات الديمقراطية مثلًا، هناك دومًا نقاش يدور حول ما تستطيع الدولة فعله للوصول إلى أسرارنا، وهذه بالأساس قضايا خلافية، فمحاكمتك من قِبل الدولة تعني مصادرة جوانب مختلفة من خصوصيتك بما في ذلك الأسرار. لو تنبهنا إلى إن عددًا كبيرًا من ضماناتنا القانونية بُني على المبدأ الأساسي المتمثل في أننا لا نستطيع الوصول بحرية إلى أسرار الآخرين، سنلاحظ أنه من الضروري إثبات النيّة الإجرامية أو القصد الجنائي للإدانة، ومع ذلك فإن فكرة النيّة نفسها تظل مفهومًا معقدًا ومراوغًا.

إن فكرة السر عند دريدا مرتبطة ارتباطًا معقدًا بفكرة "الاعتراف"، سواء كان ذلك سياسيًا أو شخصيًا أو دينيًا. والأهم من ذلك هو أنه ليس بالضرورة أن يتم الإكراه على الاعتراف أو فرضه. يمكن أن يكون الاعتراف تعبيرًا عن الحُبّ. فعندما أفصح عن "أعمق أسراري" يعني، ووفقًا للاعتقاد الشائع، أنني "أخبرك من أكون"، أو بالأحرى أُظهر لك من أنا حقًا. هذا النوع من الإفصاح يجعلني بإرادتي شفافًا ومنفتحًا مع الآخر، وأدعو للانفتاح المتبادل. أثق بك/ أحبك كثيرًا حتى أنه ليس لدي أي أسرار. ويمكن أن يكون الاعتراف أيضًا بمثابة تعبير عن الصداقة العميقة، وهو موضوع آخر استكشفه دريدا. فعندما يقول أحدهم: هل تريد أن تعرف سرًا؟ لا يأسرنا السؤال غير المشروع بقدر ما نشعر بالاندماج داخل مجتمع، حتى ولو كان مكونًا من شخصين فقط، نتشارك فيه أسرارنا.

ومن خلال ما ذُكر سابقًا يكون الاعتراف في الواقع، سواء كان بالإكراه أو غير ذلك، فعل للكشف عن الذات. في رواية جورج أورويل "1984"، يكشف وينستون عن سره ويُدمِّر "ذاته". إذا اعترفت لك بأسراري، فستصبح حينها جزءًا من ذاتي، وتشاركني هذا الجانب. ولهذا ثمة اعتقاد شائع ومتجذّر، في الفهم المشترك والنُظم القانونية، بأن هناك علاقة مباشرة بين أسرارنا وهوياتنا الفردية. ولهذا الاعتقاد أهمية كبيرة في التقاليد الدينية، حيث العلاقة بين الدين والأسرار عميقة وطويلة الأمد.

وتُعتبر الممارسة الكاثوليكية للاعتراف نموذجًا مثاليًا على هذا المفهوم، ففي طقوس الاعتراف أفصح عن أسراري للكاهن وأسمح بالكشف عن ذاتي الحقيقية؛ الذات التي لا يعرفها إلا الله وحسب. وإخفاء الأسرار أثناء الاعتراف يخلق انفصالًا بين الذات التي أقدمها لله والذات الحقيقية التي يعرفها الله بالفعل. ويُنظر إلى حجب المعلومات عن ممثل الله في الأرض على أنه خيانة ممّا يؤدي إلى الشعور بالذنب الكاثوليكي الذي ينشأ من الامتناع عن الاعتراف، ومن التجاوزات غير المعلنة المرتكبة في الأفكار والأفعال.

لقد كان اهتمام دريدا، كما تشير الفيلسوفة أجاتا بيليك روبسون في كتابها المميز "Derrida's Marrano Passover" (2022)، بمجموعة دينية معينة هو الذي فتح حواره الخاص مع فكرة الأسرار. وكانت هذه المجموعة تحديدًا سرية بشكل لا يُتوقع لدرجة أنها نسيت أمر إخفاء وجودها حتى عن نفسها. 

في الرابع من حزيران/ يونيو لسنة 1391، وقعت مذبحة لليهود في إسبانيا والبرتغال. هاجمت حشود غاضبة منازل في إشبيلية وأماكن للعبادة وقتلت حوالي 4000 يهودي. لم يهاجم الغوغاء المستوطن اليهودي فحسب، بل كانوا يمثلون أيضًا المظهر الأولي للتعصب الديني الذي سيمهد، بعد قرن من الزمان، الطريق إلى محاكم التفتيش. امتد الهجوم عبر شبه الجزيرة الإسبانية ووصل إلى مدن مثل قرطبة وفالنسيا وبرشلونة، ثم وصل جزر البَليار في غرناطة، ممّا أدى إلى اختفاء اليهود. 

يعتقد دريدا أننا قادرون على الحفر واستكشاف الأعماق الخفية لكياننا، لكننا لن نستطيع أبدًا الكشف عن الجوهر الحقيقي أو الطبيعة الأساسية لوجودنا

لم يكن مصير كل يهودي مفقود هو الموت، إذ أُجبر عدد كبير منهم على الخضوع واعتناق الإيمان الكاثوليكي رغمًا عنهم. "المسيحيون الجُدد" الذين أُجبروا على اعتناق المسيحية كانوا قد حصلوا على تسميات مختلفة، مثل "المتحوّلين" أو "الأنوسيم – anusim" (التي تعني اليهود الذين أُجبروا على اعتناق ديانة أخرى)، أو "اليهود المتخفين". لكن التسمية الأكثر شهرة كانت "الخنازير القذرة" (في الإشارة إلى أن رفض اليهود أكل لحم الخنزير لم يكن من قبيل الصدفة): المارانوس¹. وما لفت نظر دريدا هو قدرتهم على التحمُّل التي لا تتزعزع. لقد استخدموا الحيل المعقدة لإخفاء إيمانهم اليهودي المستمر والمستتر في ذات الوقت، مثل إيجاد طرق لتجنب العمل في يوم السبت، وكانت إحدى الطرق الشائعة آنذاك هي وضع طفل خلف طاولات محلاتهم ليُبلغ الذين يستقصون أخبار آبائهم بأنهم قد خرجوا للحظات وسيعودون، بالإضافة إلى أنهم اعتنقوا العادات الكاثوليكية التي كانت متوافقة مع معتقداتهم اليهودية، وتجنبوا عمدًا التعاليم والممارسات التي أعلنت الطبيعة الإلهية للمسيح.

على مدار القرون الستة الماضية لم تحمي هذه الحيل "المارانوس" من الاضطهاد فحسب، بل أدت أيضًا إلى ظهور دين جديد غير مرتبط بمصادره الأصلية. فقد أدت سرية الجماعة إلى تطور ممارساتها بحيث أصبحت مزيجًا من المسيحية الظاهرية واليهودية السرية، ولكنها في الحقيقة منفصلة عن كليهما. وقد ضاعت الكثير من الطقوس اليهودية التقليدية عند المارانوس. والمفارقة أن هؤلاء، "أهل الكتب" لا توجد لديهم نصوص مكتوبة، وأن ممارساتهم الدينية تشكلت دون توجيه من مثل هذه النصوص. ولا يقتصر الأمر على هذا فحسب، إذ إن الطقوس المسيحية نفسها خضعت بدورها للتحول، حيث أدى تشابكها مع العناصر اليهودية إلى تشكيل ممارسات هجينة والعكس صحيح.

تطور الأمر لدرجة أن العبرية قد أصبحت لغة غير مألوفة لـ "المارانوس" باستثناء كلمة واحدة. ففي عام 1990، عندما وثّق المخرج سام نيومان مجتمعًا صغيرًا من "المارانوس" في قرية بلمونتي بالبرتغال، كانت الكلمة العبرية الوحيدة التي يعرفونها هي "أدوناي – Adonai" التي تعني الله في اللغة العبرية. وبالتأكيد هذا ليس الاسم الحقيقي لله في التقاليد اليهودية.

طوّر دريدا اهتمامًا مضاعفًا بالمارانوس خلال المراحل اللاحقة من رحلته الفكرية. في فيلم وثائقي صُنع عن حياته عام 1999، تحدث دريدا من داخل كنيسة كاثوليكية تقع في طُليطلَة، وما يلفت نظرنا في هذا المبنى أنه كان بمثابة كنيس يهودي، ثم تحول إلى مسجد، قبل أن يتحول في النهاية إلى كنيسة مسيحية. يقول في حديثه: "ماذا يعني أن يكون السرّ مطلقًا؟ شغلني هذا السؤال كثيرًا، تمامًا مثل اهتمامي بأصولي اليهودية الإسبانية. هذا الاستحواذ الذي شد تفكيري وجدته متجسدًا في شخصية (المارانو)".

وجد دريدا نفسه مهتمًا بما أسماه "المارانوية" لأسباب عديدة، كان أحدها التوتر المتأصل بين غياب "الذات" الأساسية، والفكرة الدائمة بأن الأسرار تعمل كوسيلة للكشف عن الذات الحقيقية للفرد. و"المارانوية"، من وجهة نظر دريدا، تجسّد أيضًا مفهوم "الدين بدون دين"، إذ إن مجرد الكشف عن إيمان المرء بـ "المارانوية"، أو الاعتراف به، يمكن أن يؤدي إلى فقدانه، بل قد يشكل فعل الإفصاح في ظروف معينة تهديدًا لحياة المرء. كتبت حنة أرندت ذات مرة مقالًا بعنوان "اليهودي المنبوذ: تقليد خفي" (1944) يُسلط الضوء على تجربة "المارانو" كمثال صارخ لما واجهه العديد من اليهود خلال القرن العشرين، حيث اضطر العديد من الأفراد بما فيهم اليهود إلى إخفاء هويتهم من أجل الحصول على حرية الكلام، أو للبقاء على قيد الحياة. إنه شرط لا يقتصر على اليهودية وحسب، ولكن في وقت كتابة أرندت كان للأمر أهمية خاصة.

في كتابه "ضد التجريد" (2020)، ذكر الباحث الأمريكي اللاتيني ألبرتو موريراس بأن مصطلح "المارانو" لا يُعتبر هوية متأصلة بل هو ظرف يصيب الفرد. ويمكن لهذا الظرف أن يحدث فجأة، مثل الانتقال من كون دريدا مواطنًا فرنسيًا يبلغ من العمر 13 عامًا إلى يهودي جزائري يبلغ من العمر 13 عامًا. لو كانت عائلة دريدا تعيش في فرنسا، فمن المحتمل جدًا أن يتم احتسابهم من بين 72500 يهودي فرنسي فقدوا حياتهم بشكل مأساوي في ظل النظام النازي. أو أنهم بدلًا من ذلك اختاروا حماية هويتهم اليهودية من خلال إبقائها مستترة، وافتراض وجود سري مثل المارانوس المتخفيين.

يعتقد دريدا بأن تجربة "المارانو" تمتد إلى ما وراء فعل التحوّل أو "الخيانة"، بل وتتجاوز الأجيال اللاحقة التي حافظت إلى حد ما على شعلة الشمعدان. يكتب دريدا: "أنا واحد من هؤلاء المارانو الذين لم يعودوا يعلنون أنهم يهودًا حتى ما بين أنفسهم"، فبدل أن يكون لدينا سر ندركه، لدينا الآن سر لا ندركه، وهذا هو – كما كتب دريدا – ما يمكن أن نقول عنه "سر السرية ذاتها".

يقترب تفكير دريدا، كما نلاحظ، من التحليل النفسي دومًا. وتتمثل مهمة المحلل النفسي في الكشف لا عن الأسرار الواعية للفرد – الذي يتم تحليله – فقط؛ بل في كشف الأسرار المكبوتة التي تكمن في نفسية الفرد، وهو لذلك يجسد، في الوقت نفسه، دور الحبيب والكاهن.

يفترض سيغموند فرويد (الذي أجبر هو نفسه في النهاية على الفرار من خطر الإبادة) أنه يتعذر علينا غالبًا الوصول إلى أسرارنا العميقة. وبينما يفترض الرأي الشائع بأن الأسرار التي نختار الاحتفاظ بها بوعي قد تشير إلى طبيعتنا الحقيقية، فإن التحليل النفسي يدّعي غير ذلك، إذ يرى بأن الأسرار التي نخفيها عن وعينا، وتلك التي نقمعها، هي من تحمل طبيعتنا الحقيقة وليس العكس. وهذه الأسرار الخفية تؤثر، بطرق مختلفة، وبعمق، على سلوكنا. وقد أشار المحلل النفسي جاك لاكان إلى أن هذه الأسرار التي غالبًا ما يتم إخفاؤها هي على مرأى من الجميع، تمامًا مثل "الرسالة المسروقة"، في قصة تحمل العنوان نفسه لإدغار آلان بو، التي تظل مخفية وغير مدركة رغم ظهورها الواضح.

يُمكن تعريف الدولة الشمولية بالنسبة إلى جاك دريدا بأنها الدولة التي لا يُسمح لأفرادها بامتلاك الأسرار

إن العلاج بالنسبة للتحليل النفسي يكمن في التعبير، أي في إمكانية تحويل تلك الأسرار إلى كلمات مرة أخرى. هذا الجانب من التحليل بعيد كل البعد عن التجديف، لأن فعل الاعتراف بالنسبة لبعض الأفراد يكون مؤلمًا، مثل الخضوع لمحاكم التفتيش، ويعرّض الذات للضعف. في مجال التحليل النفسي لا يوجد ضمان لإيجاد حل نهائي، وهذا يعني أن الكشف عن سر واحد غالبًا ما يؤدي إلى اكتشاف آخر وخلق سلسلة مترابطة، كما في اللاهوت اليهودي، يجد فيها كل سؤال إجابته في سؤال آخر.

ولهذا يعتبر دريدا أن ما سبق هو أحد أهم الأسرار حول الأسرار ذاتها، إذ لا يوجد سر نهائي يكون بمثابة تمثيل نهائي لهويتنا أو يكشف عن ذواتنا الحقيقية. وهنا يفترق نهج دريدا عن نظرية فرويد، حتى لو لم يكن بالضرورة على مستوى الممارسة العملية. إذ يعتقد دريدا أننا قادرون على الحفر واستكشاف الأعماق الخفية لكياننا، لكننا لن نستطيع أبدًا الكشف عن الجوهر الحقيقي أو الطبيعة الأساسية لوجودنا.

إن الخيار الوحيد المتاح هو اختيار الصمت للتهرب من فخ الاعتراف. وبطرافة، وكما قال الفيلسوف "جيرهارد شولم" الذي وثق بنفسه تجربة "المارانو" في عام 1918: "الشخص القادر على التزام الصمت باللغة العبرية... لا يوجد أحد بيننا يستطيع فعل ذلك". لا سيما دريدا الذي كتب: "لا أرغب في سجن نفسي داخل ثقافة تتمحور حول السرية، بالرغم من أنني لا يمكنني إنكار إعجابي بها على غرار تقاربي من شخصية "المارانو" التي تستمر بالظهور في جميع نصوصي". وقد لاحظ بيليك روبسون أن: "دريدا لا يؤكد أبدًا على يهوديته ولكنه أيضًا لا يصمت عنها".

الصمت الوحيد الذي لا مفر منه هو الموت، حيث ترافقنا أسرارنا إلى القبر. ولم يكن دريدا استثناءً، إذ قال في مقابلته الأخيرة التي أُجريت معه قبل أسابيع قليلة من وفاته في تشرين الأول/ أكتوبر 2004: "كلما أفكر في حياتي أجد أنني كنت محظوظًا بما يكفي للعثور على الحُب، حتى في خضم اللحظات التعيسة التي مررت بها، وأن أُباركها جميعها باستثناء واحدة فقط...".

ما كان هذا الاستثناء؟ لقد أبقاه دريدا سرًا على أية حال.


1) مصطلح "المارانوس" مشتق من الكلمة الإسبانية التي تعني "الخنازير"، وقد تم استخدامه كعلامة مهينة للإشارة إلى اليهود الذين اعتنقوا المسيحية، ولكنهم حافظوا على ممارساتهم ومعتقداتهم اليهودية في الخفاء. أما في الاستخدام المعاصر، فغالبًا ما يتم استخدام "المارانوس" كمصطلح تاريخي لوصف اليهود المتخفين في تلك الفترة مع التأكيد على هويتهم الفريدة وصراعاتهم.